حاوره : أحمد مصطفى الغـر
الشاعر والمترجم صلاح صبرى ..الترجمة الحرفية ليست ترجمة على الإطلاق، بل هي
جريمة مكتملة الأركان
أثناء قراءتي لأحد مشاهد (كتب الزنوج) انخرطتُ في نوبة من البكاء، وتوقفت عن
القراءة طوال أسبوع كامل!
الترجمة هي لعبة القفز على الحواجز ؛ شاقة وممتعة !
لا تقتصر الترجمة لديه على مجرد نقل العمل من لغته الأم إلى لغتنا، بل إن ثمة روحا أدبية للمترجم تظهر بين ثنايا السطور، تجعل الترجمة لا تقلّ عن جودة الأصل، ولا تخلّ في نفس الوقت بأمانة النقل. فضيفنا لهذا الإسبوع ترك العمل بوزارة الثقافة ليتفرع للترجمة، فأعطاها من روحه كما يشهد له الكثيرون، كما عمل على مشروع لتدريس اللغة الإنجليزية لرواد قصور الثقافة المختلفة، حيث كان يفعل ذلك بالمجان في قصر ثقافة عين حلوان، لكنه للأسف فشل في تعميمه، ترجم (بيت السيد بيسواس) و(كتاب الزنوج) ،و (أعرف أغنيات كثيرة.. ولكنني لا أستطيع الغناء)، وإلى جانب الترجمة فإنه شاعر يحمل روحاً عذبة وقلم بديع ،إنه الشاعر والمترجم القدير (صلاح صبري) الذي التقته (مصر المحروسة) وكان هذا الحوار:
درست الترجمة في كلية الأداب جامعة القاهرة، فهل لنا أن نعود قليلاً للوراء لنعرف سر اختيارك للترجمة؟، ومن ثمَّ لماذا اخترت الترجمة الأدبية لاحقاً؟
حين توقفت عن كتابة الشعر، قررتُ حينئذ اللجوء إلى الترجمة راجيًا أن أضرب عصفورين بحجر واحد: أستكشف الجذور الفكرية من منابعها الأصلية من ناحية، وأمارس نوعًا ما من الكتابة الإبداعية من ناحية أخرى، وهو ما جعلني أجد نفسي متحققًا في الترجمة الأدبية. ولكن ذلك لا يمنع من أن لي مشروعًا أتمنى إنجازه في مجالات أخرى من مجالات الترجمة، كالنقد الثقافي مثلاً.
أثناء إعدادي للحوار، كنت أجد من يُعرّفك بـ (الشاعر السابق والمترجم الحالي)، فلماذا هجرت الشعر واكتفيت بالترجمة، أم أن ذاك التعريف غير صحيح؟
هذا التعريف صحيح تمامًا، فلستُ شاعرًا. الآن أنا مترجم و كفى. فقد توقفتُ اختياريًّا عن كتابة الشعر بسبب فوضى الكتابة. شعرتُ وقتها بغياب المعايير، وأدركت أن كثيرين ممن يكتبون الشعر ينقلون تجارب الكتاب الغربيين أو على الأقل يقتدون بها.
كل من قرأ (كتاب الزنوج) يتبادر إلى ذهنه فوراً اسم مترجمها (صلاح صبري)، والاَن ونحن في حضرته .. هل له أن يخبرنا عن ذكرياته مع ترجمة هذه الرواية؟
كانت ترجمتها متعة حقيقية. كأنك تشاهد فيلمًا دراميًّا مؤثرًا. في أحد المشاهد، وكان لصوص البشر قد هاجموا القرية سابين من بقي فيها بعد أن قتلوا الآخرين، وكانت "أميناتا"- بطلة الرواية- من بين الأسرى، فلما التقت بأبيها (الأسير هو أيضًا)، حدث الموقف التالي:
"ينقض رجلان على أبي، ولكنه يطيح بهما بعيدًا. يطعن واحدًا، ثم الآخر، ويروح يدور حول الجرحى الثلاثة. وإذا بواحد من الغرباء يرفع عصًا غريبة طويلة، ومستطيلة الشكل. يزم شفتيه، مصوبًا العصا نحو أبي من مسافة خمس خطوات. يتوقف أبي حيث هو، رافعًا راحته عاليًا. تنفجر نار من العصا، مخترقة ظهر أبي. يدير رأسه لينظر ناحيتي، ولكن تتجمد في عينيه نظرة محايدة، لا تعبير فيها على الإطلاق. تخرج الحياة من صدر أبي، تفيض من بين ضلوعه، متدفقة على الأرض العطشى التي راحت تمتص، في نهم، كل قطرة نابضة تخرج منه".
عند هذا المشهد، انخرطتُ في نوبة من البكاء، وتوقفت عن القراءة طوال أسبوع كامل. هذا بعض من ذكرياتي مع هذا العمل المدهش.
ما رأيك في الترجمة عبر لغة وسيطة؟
لا أفضلها.
قلت ذات مرة ـ حول ترجمتك لأحد أعمال فرجينيا وولف ـ أنك تقرأ على الأقل ثلاثة أعمال نقدية عن كل قصة وذلك من أجل فهم كل نقطة في العمل كي تقوم بترجمة تليق بالقارئ ولا تخون فيها ضميرك كمترجم، هذا يدفعني لسؤالك: هل على المترجم أن ينقل النص حرفياً ،أم يترجمه بشكل إبداعي لا يمنع من بعض الإضافات إلى النص؟
"الترجمة الحرفية" ليست ترجمة على الإطلاق، بل هي جريمة مكتملة الأركان. على المترجم- فيما أعتقد- أن يبدع في التعبير عن المتعة التي عاناها في أثناء قراءة العمل.
حدثنا عن معايير اختيارك للأعمال التي تترجمها؟
في الحقيقة أنا لا أختار. ليس لدي هذا الترف. أنا أجتهد في ترجمة ما يُعرض عليَّ من الأعمال.
في ترجمتك لرواية (بيت السيد بيسواس) لجأت إلى لغة الترويح الكوميدي كي تهرب من الوقوع في فخ العامية، هل لك أن تحدثنا قليلاً عن ترجمتك لهذه الرواية؟
"بيت السيد بيسواس" رواية عسيرة فعلاً. فـ"نايبول" لغته تنطوي على عدة مستويات من الصعوبة، أيسرها على الإطلاق مفرداته الصعبة. ومع ذلك، فكتابته - في تلك الرواية - تحمل قدرًا كبيرًا من الفكاهة والسخرية. وعلى المترجم أن ينقل هذه السخرية للقارئ العربي بلغة يستسيغها حتى لا تفقد الفكاهة مذاقها. ذلك كان التحدي الذي واجهته، وقد اجتهدت قدر استطاعتي في تجاوزه، ورجائي ألا أكون قد أضفت للمكتبة العربية عملاً سخيفًا.
هل يمكن للمترجم أن يعتاش من مهنة الترجمة؟ أتحدث هنا تحديداً عن المترجم المصري، الذي ينقل إلى العربية دون سواها.
طبعًا ممكن، بالمواظبة وغزارة الإنتاج.
هل من الضروري على من يترجم الروايات أن يكون روائياً، ومن يترجم الشعر أن يكون شاعرًا؟
الضروري هو أن تكون لديه قدرة على التذوق.
ما الصعوبات التي يلاقيها المترجم خلال عمله؟
الترجمة هي لعبة القفز على الحواجز ؛ شاقة وممتعة !
ختاماً.. هل هناك عمل تعمل على ترجمته الآن؟
نعم. أعمل الآن على ترجمة عمل روائي سيصدر عن (بتانة) عما قريب.