د.مصطفى عطية جمعة
يدهشنا الفيلم الإيطاليThe Great Beauty" أو الجمال العظيم " العام (2013م)، بداية من عنوانه ، ومرورا بأحداثه ، وانتهاء بخاتمته .
فعندما ننظر إلى العنوان " الجمال العظيم " نتوقع أنه فيلم سيجوس بنا في دنيا الجمال ، خاصة عندما يرتبط بروما العاصمة والتاريخ والآثار والحضارة والفنون، ونتوقع أكثر أن يكون الجمال جامعا بين الفن والثقافة ، فروما عاصمة الدولة الرومانية عندما كانت في أوّج صعودها الحضاري ، وتحفل بآثار رائعة رومانية ، تنهض شاهدة على عشرات السرديات التاريخية التي ارتبطت قديما بها .
وهذا ما حمله إعلان الفيلم ، حيث تمثال عظيم لأحد أبطال رومانيا عار ، مفتول العضلات ، مضطجعا ، متأملا ، وإن كان في طرف اللوحة ، يجلس بطل الفيلم الممثل الإيطالي الشهير " توني سيرفيلّو " ، والذي أدى دور البطولة ببراعة واقتدار،
مع الممثل " كارلو فيردونا ، والممثلة الرائعة " سابرينا فيريللي " وكم كان المخرج "باولو سورينتينو" مجيدا في إخراجه ، واستطاع بكاميراته أن ينقل لنا أدق التفاصيل للأمكنة والوجوه و رَدّات الفعل ، في ضوء تنوع المشاهد وكثرتها وتلاحقها ، وهذا ما جعل الفيلم ينال ثلاثة من الجوائز المهمة وهي : جائزة أماندا لأفضل فيلم أجنبي روائي طويل (2014) ، جائزة غولدن غلوب لأفضل فيلم بلغة أجنبية (2013)، جائزة الأوسكار لأفضل فيلم بلغة أجنبية ( 2014م ) ، والجوائز في مجملها تتعلق بأفضلية الفيلم فنيا وفكريا من وجهة النظر الأمريكية في تقييمها للأفلام الأجنبية أي غير الناطقة بالإنجليزية وغير المنتجة في الولايات المتحدة .
تأخذنا الدهشة ، عندما نجد أن الفيلم يبحر بنا مع شخصية “جيب غامبارديلّا” صحفي، كتب رواية واحدة في حياته، ثم توقّف 40 سنة ، والتي قام بها " توني سيرفيلّو " ، وإن لم يتخل عن عمله الصحافي ، فهو صحفي وتحت يديه عشرات المحررين ، ولكنه مشغول دوما بحياته الليلية ، وصداقاته التي لا تنتهي ، وأحداث الفيلم ما هي إلا فترة زمنية من حياة البطل " جيب " ، الذي وصل إلى الخامسة والستين من العمر ، ولا ينفك عن الحركة الدائبة التي شغلته عن كتابة رواية ثانية.
وهو ما تسأله عنها “رامونا” الغانية ، ابنة صديق له ، وقد احترفت " الاستربتيز " مهنة ، فتتعرى كل ليلة أمام الجمهور ، لتمتعهم بجمال جسدها ، وبالطبع خصّت "جيب " بمتعة خاصة ، سألته رامونا : لماذا لم تؤلف كتابًا آخر؟ فيجيب “لأننّي أتسكّع كثيرًا في الخارج ليلًا. روما تضيع عليك الكثير من الوقت، إنّها إلهاء، والكتابة تحتاج إلى التّركيز والسّلام”. وفي مشهد آخر ، يعترف بأنه وهو سائر على جانب نهر " التيبر " بأنّه أراد أن يكون ملكًا لحياة الترف أو التسلية ، وقد نال ذلك.
,وهو ما يثير قضية تشغل الكثير من المبدعين والفنانين ، الذين يمتلكون أحلاما إبداعية عظيمة ، يكتفون بإصدار كتاب أو كتابين ، ثم ينشغلون بحياتهم وأعمالهم، وتصبح المسألة بالنسبة إليهم مجرد تجربة ومضت . وبعضهم يكون من أهل الصحافة ، وضمن أرباب القلم والتأليف ، لذا نجدهم يقاتلون على المناصب الإدارية والثقافية والفنية ، وكأنهم يعزون أنفسهم بابتعادهم عن عالم الكتابة الحقيقي .
وهناك أمثلة كثيرة لتجربة جيب ، وإن كان جيب وضع هدفه في الاستمتاع الكامل بالترف والتسلية ، مما يذكرنا بمقولة الروائي السوداني الكبير " الطيب صالح " ، عندما سألوه في حوار صحفي : لماذا لا تواصل الكتابة ، فقد توقفت منذ سنوات؟ أجاب : وكيف لي أن أستمتع بحياتي ؟ الكتابة عناء ، ومن حقي المتعة .
والأمر نجده أيضا عند الروائية الأمريكية " هاربر لي " صاحبة رواية " أن تقتل طائرًا بريئًا” الصادرة العام (1960). ذكرت أيضا بعضا من هذا المعنى ، عندما سألوها عن عدم كتابتها رواية أخرى ، فأجابت أنها تكتب الثانية بالفعل ، ولكن بشكل بطيء جدا ، لأن لديها ثلاثمائة صديق ، يحرصون على زيارتها بشكل مستمر ، واحتساء فنجان من القهوة معها ، وعندما قررت الاستيقاظ مبكرا في السادسة صباحا ، اكتشفت أن هناك فئة أخرى ، من هواة الاستيقاظ المبكر ، راحت تتواصل معها في الفترة الصباحية .
إن الأمر بسيط بالنسبة لهؤلاء المبدعين ، فالأمر يتعلق بأمور عديدة تتصل بأصحابها بمدى جدية المبدع نفسه ، وتطويره لقدراته ، ومشروعاته الإبداعية التي يخطط لها ، وخياراته في الحياة ورغباته ، وما يتعلق بحدود موهبته ذاتها .
أما " جيب " بطل الفيلم ، فيبدو أنه قد استعاض عن الكتابة الخطية إلى اختزان أكبر قدر من الذكريات والمواقف والشخصيات في ذاكرته ، ورأيناها متجلية على امتداد الفيلم ، من خلال عشرات الشخصيات ، والتي تمثل المجتمع الذي يعيش "جيب " في جنباته ، وهو الطبقة الثرية / المخملية / الشهيرة في روما : سياسيين ، رجال أعمال ، صحافيين ، رجال الدين ، ممثلين ، وغير ذلك . فلا عجب أن تكون الأمكنة ما بين قصور وفيلات وحدائق وشوارع وسط العاصمة روما .
والأعجب أنهم يقاربون " جيب " في عمره، فلم نجد شبابا إلا قليلا ، أو ربما عادت بنا الأحداث إلى مرحلة الشباب عند " جيب " مع حبه الأول ، ومعشوقته التي رفضت إعطاءه قبلة واحدة ، متمسكة بالحب الرومانسي، فأضرب من بعدها عن الزواج ، وإن كان تمسك بالحب ، وركض خلف حبيبات ، مثلما ركضت وراءه عشيقات كثيرات .
دارت بنية الفيلم حول شخصية " جيب " ، فهي الرابط الأساسي للقطات والمشاهد والشخصيات التي ظهرت على امتداد ساعتين وعشر دقائق ، وقد تراوح السرد بين اللحظات الآنية لجيب مع من يقابله ، وبين ذكرياته أيام شبابه البكر ، عندما كانت الرومانسية تغلف حياته ، وعندما كانت روما مدينة الجمال الحقيقي ، وليست مدينة العولمة بناطحاتها وشوارعها الواسعة وحركتها السريعة ، وتكالب أهلها على المادة ، وتقاتلهم من أجل مستويات عليا من المعيشة والرفاهية .
بجانب كثرة المهاجرين والسياح إليها ، كونها مدينة الساسة والسياسة المتقلبة خاصة أيام حقبة بتينو كراكسي. جاء الزمن في الفيلم أزمنةً عديدة ، متتابعة ومتجانسة في آن ، أي في المشهد الواحد قد نجد أكثر من زمن ، فهناك زمن آني يمثّل اللحظة المعيشة لجيب، وهناك مشهد نجد سردا استشرافيا يتقدم على ما سيحدث في المشهد ، مثل لقطة الطفلة ذات الرداء الأبيض ، وقد رأينا رداءها فجأة وقد اتسخ بعشرات الألوان، ثم نجدها وقد دخلت إلى صالة كبيرة ، ووقفت أمام شاشة بيضاء ، وراحت تلقي عليها أصباغا بألوان مختلفة ، حتى استحالت اللوحة إلى ألوان قميئة ، ثم فجأة تحولت إلى تنويعات لونية منسقة بشكل بديع .
المشهد هنا سيريالي ، وهو ما ألحّ عليه المخرج أكثر من مرة في مشاهد ولقطات عدّة ، في رسالة ضمنية بأن حياتنا عبثية وفيها من اللامعقول الكثير ، وعندما نتأمل فيها ، سنجد أن اللامعقول فيه جزء من العقل أحيانا ، وهو ما ظهر في مشهد البنت الصغيرة ، فتلطيخها اللوحة بألوان كثيرة ، دال على عبثية حياتنا التي تحفل بشخصيات وأحداث متناقضة وصارخة ومتضادة ، ثم وجدنا اللوحة بألوان منسقة ، في دلالة ثانية على أن كل ما نختاره في حياتنا من مواقف وأحداث وشخصيات إنما يعبر عن نفسيتنا ، التي تسير في أنساق ومسارات مرتبة ، وعلينا أن نعي أنفسنا ، ونحللها قبل نقد الآخرين .
ونجد مشهدا سيرياليا آخر ، يتمثل في لقطة السمّان الذي يقف ، وأسفل قدميه روما كلها ، بكنائسها وكاتدرائياتها وشوارعها ومبانيها الحديثة ، ثم نجد اللقطة التالية والأوز يطير بعيدا ، وكأنه يهرب من صخب روما وضجيجها .
كثرت أيضا المشاهد الارتدادية ، سواء من حياة جيب نفسه أو الشخصيات من حوله ، والارتداد كله إلى زمن الشباب ، حيث تنهض المقارنة بين زمنين مختلفين، خاصة أن شخصيات الفيلم كلها من العجائز ، الذين يعيشون على ذكرياتهم ، ولا ينظرون إلى مستقبل ، وإنما يتمتعون بكل طاقتهم بما تبقى من أيام في حياتهم .
طيلة الفيلم ، نجد " جيب " متسكعا ، متجولا ، وحيدا ، بالرغم من حياته الصاخبة اللاهية ، والشخصيات التي يصادقها ، فهو يقدم صورة أخرى لروما ( المدينة / الجمال / الآثار / البشر ) بعدما طالتها العولمة الحديثة ، وغرقها في نمط الحياة الغربي المادي ، بكل ما فيها من مشاعر غربة الذات ، والوحدة ، والأنانية . وهذا سبب يوضح لماذا ترك " جيب " الكتابة الروائية ، فلا فائدة من إضاعة الوقت والجهد في وصف حياة تتسارع أحداثها كل يوم ، فالأفضل أن يستمتع هو بها .
في ضوء ما سبق ، يمكن القول ، إن الجمال العظيم الذي حمل الفيلم عنوانه يكاد يتلاشى من روما ، بل من حياة قاطنيها ، لتصبح دلالة العنوان سؤالا مفاده : أين الجمال العظيم الذي كانت عليه روما ومن فيها ؟ وهو ما عبرت عنه تترات النهاية في الفيلم ، والتي كانت صورة متحركة لجسر قديم على نهر " التيبر " ، حيث الأوز وطيور النورس يطير ، والأشجار كثيفة بأغصانها على جانبي النهر، والمياه هادئة ، وخريرها موسيقى .
إن رسالة الفيلم – وأن كان نخبويا – بسيطة ، لقد أفسدت العولمة والسياسة والتجارة والسياحة الجمال العظيم الذي كان في روما ، وفي نفوس سكانها .