القاهرة 26 ديسمبر 2017 الساعة 10:00 ص
نامورادا... نامورادو:
استيقظنا كالعادة في السابعة صباحًا، وبدأت يومي بالقهوة البرازيلية التي لا يخلو أي مطبخ منها، فمتى تدخل المطبخ ستجد "ترمس" للقهوة مملوء
الدوام، وهي عادة برازيلية أصيلة يحرص عليها البرازيليون، إذ يصحون فيشربون القهوة، يأكلون فيشربون القهوة، يعودون من الخارج فيشربون القهوة، مثلها مثل الماء عندنا في مصر، وهي قهوة خاصة يفضلها الكثيرون بمرارتها التي تعودت عليها، واكتشفت ان غياب السكر منها يجعلك تتعرف على الطعم وتتذوقه أفضل منها محلاة بالسكر.
رحتُ أقلب في رسائل الفيسبوك التي تأتينا من مصر، وأردّ على بعضها، فتقدمت من "مدبرة المنزل"، وهي شابة ترتدي الهوت شوت على الدوام، وكثيرة الغناء والرقص على أنغام السامبا البرازيلية، فهي تنظف المطبخ على الموسيقى، تطبخ على الموسيقى، تتحرك على الموسيقى، وتتواصل عبر الشات والواتس آب دون أن تتوقف عن الغناء... الموسيقى هُنا ثقافة منتشرة، حتى أن البعض يعتبرها واحدة من محددات هويتهم البرازيلية... قاطعت المدبرة استغراقي وسألتني ببرتغالية مطعمة ببعض الإنجليزية: "هل لك نامورادا يا سيدي"، أفهم طبعًا سؤالها ببرتغاليتي المتواضعة، فابتسمت لها، "ليس بعد"، تحركت على الفور نحو هاتفها وجاءت تعرض صورة لامرأة تقول بأنها صديقة لها وأنها يمكن أن تكون نامورادا لي إن أردت، فضحكت حتى استلقيت على الأرض، الأمر إذن بهذه البساطة؟! وعلى الفور تدخل صديقي الدكتور الذي شاركني الضحك وقال لها بأنني غير مستعد الآن.
العلاقات العاطفية في البرازيل:
تبدو الصورة للوهلة الأولى مختلطة في ذهني بعض عرض مدبرة المنزل، لكن على سهولة الأمر كما بدا لي، إلا أن التراتبية في العلاقات العاطفية في البرازيل أمر بالغ التعقيد، وليس كما يبدو بالسهولة التي يقفز إليها ذهن شرقي مثلي، تجيء الصور الذهنية المسبقة واحدة من آفات تفكيره في بعض الأحيان، لذلك قررت أن أفهم طبيعة العلاقات وتراتبيتها، وكيف تعاملت مدبرة المنزل بتلك السؤال بسؤالها إن كنت في حاجة إلى "نامورادا"، وكيف تقدم صديقتها بتلك السهولة.
تبدو العلاقات هنا مغايرة إذ تمر ببعض الدرجات أولها "نامورادوش"، وهو أن يتعرف شخص على آخر بالمصادفة او بنفس الطريقة التي قدمت بها مدبرة المنزل صديقتها، أو بأي شكل آخر في العمل أو الشارع او البارات والمطاعم، وهي علاقة لا يلتزم فيها طرف تجاه الآخر بأي التزام أخلاقي أو عاطفي، وإنما تكون بدافع الحاجة إلى وجود شخص معك يُشاركك الحياة، يمكن ان يتطور فيما بعد هذا الأمر أو يبقى على حدوده، فلا يمنع ان يكون للشخص أكثر من نامورادو/ نامورادا، فإن صارت العلاقة أكثر متانة يتم الدخول في المرحلة التالية لها وهي "أميجو/ أميجا"، وهي مرحلة تشبه العلاقات الأوربية في مرحلة "الفريندز"، فيمكنك ان تعبر الطرف الآخر صديقك/ صديقتك، ويتحتم الالتزام العاطفي والأخلاقي في تلك العلاقة التي ربما تستمر لسنوات، قبل أن يقرر الطرفان جعلها أكثر حميمية وتقاربًا فيصبحان "مخطوبين"، وتلك درجة ثالثة في تراتبية العلاقات الاجتماعية هُنا بين الرجل والمرأة، ثم تنتهي بالزواج في نهاية الأمر.
ملاحظة حول الزواج في البرازيل:
وما دمُنا بصدد الزواج، فالملاحظ هُنا انتشار تعدد الزيجات، فالكثير لهم "إكس ...."، وهو تعبير عن الزوج/الزوجة السابقة يسبق دائما بالحرف X الذي يعني النامورادوش السابق او الصديق/ الصديقة السابقة او حتى الزوج والزوجة السابقة، وطبيعي جدًا أنت تجد الرجل وقد تزوج لثلاث مرات وكذلك المرأة، ويتقبل المجتمع البرازيلي ذلك بشكل طبيعي في العقود الأخيرة خلافًا لما كان من التزام بزيجة واحدة.
ويتشارك الزوجان في البرازيل في كل شيء، حتى في مصروفات البيت، وهو ما تدربا عليه خلال سلم التراتبية في علاقاتهم بداية من "النامورادوش" وحتى الزواج، ويتقاسم كل الأزواج كافة المتعلقات داخل البيت في غالب الأحيان، وهي بيوت غير بالغة الثراء أو البهرجة غير منشغلة بأطقم "الحلل" و"الصيني" التي يزخر بها المطبخ المصري، ويئز تحت وطأتها كائننا الخرافي المُسمى "نيش العروسة"، إذ يرون انه لا حاجة لكل ذلك التبزير.
ويعبر الأزواج البرازيليون على الدوام عن محبتهما في كل مكان، فلا تندهش إذ هي ثقافة عامة ان يعبر الناس هنا عن محبتهم للنامورادوش أو الأصدقاء والزوجات، فهنا يرون ذلك حق أصيل لكل شخص ما دام لن يتعدى بذلك على حرية شخص آخر، وكما قال صديقي: "هما يقبلان بعضهما، سأعترض فقط إن أراد أحد تقبيلي بلا استئذان". الأمر إذن يخلو من ثقافة الفعل الفاضح التي تأكل رؤوس الناس في الشرق، إذ صارت كلمة الفاضح نسبية للغاية، وقالت صديقتنا الدكتورة: "الفضيحة حين يكون التحرش، حين يكون القهر، حين يكون الفقر، حين يكون الظلم، أما في تعبير الناس عن محبتهم، فلا فضيحة إنما هو نشر لطاقة المحبة في كل مكان بلا أذى"، لحظتها ابتسمت في بالي، وجملة من إيفيهات الأفلام المصرية تتردد في ذهني: "طيبين قووووي يا خال!!".
ابن الجنايني بقى ظابط يا إنجي:
مرت ساعة بعد الإفطار وبعد درس في فهم تراتبية العلاقات هنا، وجاءنا أحد الرعاة يخبرنا بأن الخيول مستعدة للرحلة، خرجت أتقافز من الفرح كطفل صغير، وسألني صديقي إن كانت تلك المرة الأولى التي أركب فيها الخيل، وطبعًا لأننا من ثقافة "عيب عليك عارف"، قلت أنها ليست المرة الأولى، وللحقيقة لم تكن المرة الأولى، ففي مصر منذ سنوات حاولت ركوب حصان في قريتنا كان يتجهز لزفة قريب لي، ويومها كلفني الأمر بعض الخدوش وحمدت الله أن الأمور "جت سليمة"، ولم يكسر ضلعًا بعد أن ألقاني الحصان من فوق ظهره.
لاحظ الراعي بخبرته قلقي، فراح يشرح بهدوء كيفية سياسة الحصان عند الركوب، وكيفية الجلسة المناسبة، وبينما يشرك آلية عمل "اللجام" ويطبقها عمليا على الحصان الذي يركبه وأنا أقلده، كنتُ أدندن "إن شد السُرع بإيد يمين بيحوله زي البني آدمين... وإن شده شمال برضك فاهمين...."، ظلت أغنية "الجوز الخيل" طوال تلك الرحلة تلازمني، وأنا في فرح طفولي بامتطاء الخيل والحركة على إيقاعه الذي تركت له ان يتحكم فيه، وأن أتدخل متى لزم الأمر كما نصحني الراعي.
صعد موكبنا تلة في الجهة الشمالية للمزرعة، رأينا منها الوادي أسفلنا جميلاً ورائعًا، وانتبهت إلى الغابة الضغيرة التي تحيط بجانب التلة، والتي كُنا ننحرف ناحيتها، لتطالعنا عشرات الأشجار من أشجار الأنديرة ذات الزهور "بمبية اللون"، وأشجار مختلفة منها القليل من الكاكاو والكاجو، والفيجوة البرازيلية، والهيفيا "المطاط" البرازيلية، وجوز الهند، وعشرات الأنواع والألوان النباتات المتشابكة الكثيفة التي حالت دون دخولنا قلب الغابة، فسارت بنا الخيول على حافتها، وتقدم أحد الرعاة نحو شجرة لها ثمرة صغيرة أكبر قليلا من حبة العنب تُسمى "يوجينة برازيلية"، قدم ثمرتها بطعمها "المزز" قليلاً بالنسبة لي، وتابعنا وهم يشرحون لي حول كل نبتة وكل شجرة، وينبهون على ضرورة الانتباه مع الحصان حتى لا يتعثر بين الفروع، فيسقطني.
كاو بوي:
خرجنا من حدود الغابة واتجهنا نحو المرعى الممتد، ثُم فجأة راح أحد الرعاة يصيح صيحات الكاو بوي المكسيكية، وينطلق بالحصان نحو تجمع بعيد للأبقار، وبلا مقدمات تبعه الرعاة الآخرين الذين رافقونا، ومن خلفهم الدكتور صديقي، فإذا بحصاني ينطلق فجأة كدت أسقط معها، لكن تداركت الأمر وعلى الفور التزمت نصائح الراعي التي كان قدمها لي، فانطلق حصاني خلفهم، وأنا أردد "ابن الجنايني بقى ظابط يا إنجي"، وأضحك للمفارقة التي تحدث، فأنا أعرف عن نفسي أنني من أكثر الأشخاص بُعدًا عن عالم الزراعة والرعي، فأنا ابن أصيل للبحيرة وموج البحر، وكثيرًا ما كنتُ أتحيز نحو الصيادين باعتبارهم أجدادي وأهلي، فاليوم وفوق صهوة الحصان راحت تتبخر تلك الشيفونية التي لا ترى غير عالم الصيد والبحر والبحيرة، لأقضى اكثر من ساعة في مطاردة الأبقار في واحدة من أجمل التجارب الحياتية التي يمكن للمرء أن يحياها، حتى أنني لا أعرف كيف خرجت صيحاتي مثلهم جميعًا "عااااااااا يا هووووووو"، وهم يضحكون ويتندر معهم صديقي الدكتور قائلاً: "الصياد أصبح كاو بوي برازيلي".
في طريق العودة رحت أملأ روحي من جمال الطبيعة فوق التلة وفي أسفل الوادي، فأنا أعرف أنني مفارق لهذه الجنة بعد أيام، وأنه يتحتم العودة إلى ساو باولو من جديد، لتبدأ مرحلة جديدة من الرحلة سأقضيها في جولة ولقاءات أدبية نظمها بعض الأصدقاء هُنا وتمَّ دعوتي إليها، وهو ما سأبدأ به الحلقة القادمة.