القاهرة 19 ديسمبر 2017 الساعة 10:53 ص
بقلم: د. هـنـاء زيــادة
إدوارد سعيد: "الموسيقى تعطيك المجال لتهرب من الحياة من ناحية، وأن تفهم الحياة بشكل أعمق من ناحية أخرى "
قرار صادم، وقضية لن تموت
كان الاعتراف الرسمي للرئيس الأمريكي دونالد ترامب في خطاب متلفز من البيت الأبيض، بالقدس عاصمة للكيان الإسرائيلي، ونقل سفارة بلاده من تل أبيب إلى المدينة المحتلة، بمثابة صدمة لكل العرب والمسلمين، خاصة لما تحمله هذه المدينة من مكانة وقدسية في نفوسهم، وسرعان ما انطلقت مظاهرات غاضبة في مختلف بلدان العالم العربي والإسلامي و توالت التصريحات المنددة والمستنكرة لما حدث، وكان لمواقع التواصل الاجتماعي نصيب الأسد من النقاش والتنديد لقرار ترامب، حيث تفاعل عدد كبير من الجمهور العربي مع الموضوع، مؤكدين أن القدس عاصمة فلسطين الأبدية، وأن القضية الفلسطينية لن تموت أبداً، وفي هذا الإطار قد لعبت الموسيقى والأغاني الوطنية التي تناصر القضية الفلسطينية دوراً هاماً في التأكيد على إرتباطنا بأرض القدس وإرتباطها بنا، فمثلما مجّدَ العرب بأشعارهم وفنهم قديماً القبيلة والحصان العربي والبداوة، وأخلاقهم من أصالة ورجولة وغيرها، قد إستطاع المعاصرون أن يخلدوا قضية العرب الأولى وهي القضية الفلسطينية في أشعارهم وموسيقاهم وأغانيهم أيضا. فالفنون بشكل عام والموسيقى بشكل خاص دائماً ما تكون حاضرة في اللحظات التاريخية الهامة التي تخص الأوطان وتشكل ذاكرة الوعي الجمعي للشعوب، وفيما يخص فلسطين كانت ومازالت الموسيقى والأغاني شاحذة للهمم وموحدة للصفوف، تحتفي بالشهداء وتكرم المخلصين والمناصرين للقضية، وتصون الهوية، وتحفظ الذاكرة، وتؤكد إرتباطنا بالأرض والمقدسات الاسلامية والمسيحية الموجودة هناك.
نجوم الطرب العربي قدموا طيلة الأعوام الماضية أغاني وطنية عديدة عبروا فيها عن معاناة فلسطين، وعن عروبة أرضها وقدسيتها، وأصبحت المكتبة الموسيقية العربية تحظى بعدد من الأغاني والمعزوفات الموسيقية التي تتحدث عن فلسطين العربية، والقدس الشريف، هذه الأغاني تحفظ أيضاً وجدان الشعب الفلطسيني وفولكلوره في خزانتها السحرية وذاكرتنا الجمعية، فبنغماتها وإيقاعاتها المميزة هي لسان حال يوحدنا حول فلسطين، كما انها تحمل شيئاً من أرواحنا وتراثنا وثقافاتنا جميعا ـ نحن العرب ، وبالتالي قد نجحت في عبور حدود الجغرافيا والتغلب على حواجزها، كي توحدنا وتنجح فيما فشلت فيه السياسة لعقود. ومن أبرز هذه الأغاني التي إحتفت بالقضية : أغنية (آلام المسيح) أو كما تسمى أيضا (في القدس، في طريق الآلام) ، وهى من الأغاني النادرة للعندليب الأسمر عبد الحليم حافظ، وهي من كلمات الشاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودي، وألحان الموسيقار الكبير بليغ حمدي، وقد غناها العندليب الأسمر لأول مرة بقاعة ألبرت هول بالعاصمة البريطانية لندن، وذلك بعد حرب 1967م، وتبرع بأجره لصالح المجهود الحربي حينها، ومن كلمات الأغنية: يا كلمتي لفي ولفي الدنيا، طولها وعرضها، وفتحي عيون البشر للي حصل علي أرضها، علي أرضها طبع المسيح قدمه، علي أرضها نزف المسيح ألمه، في القدس في طريق الآلام، وفي الخليل رنت تراتيل الكنايس. ولا ننسى أغنية الفنان الراحل سيد مكاوي، والتي كتبها الشاعر الكبير الراحل فؤاد حداد، أغنية (الأرض بتتكلم عربي)، والتي كانت بمثابة صرخة دائمة في وجه الاحتلال الذي استمرت محاولاته لأكثر من ستة عقود لطمس
هوية القدس المحتلة.
تخليداً للذاكرة
تبدو الأغنية العربية حاضرة في روح كل الشعوب، حيث تتكامل الفنون وهي تحتفي بالقضية الفلسطينية، فتقدم رسالة للعالم وتعزف الموسيقى بكل اللغات لتحتفل ببلد يناصر قضيته مهما مرَّ من الزمن وفات، فمن أوائل من غنى للقضية الفلسطينية موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب، حيث قدم أغنية (فلسطين) التي اشتهرت فيما بعد باسم (جاوز الظالمون المدى)، وهي من تأليف الشاعر علي محمود طه، ولحنها عبد الوهاب بنفسه، وتم تقديمها عام 1948م عقب إعلان وعد بلفورد، وإعلان قيام إسرائيل على أرض فلسطين،و يقول مطلع الأغنية (أخي جاوز الظالمون المدى فحق الجهاد وحق الفدا، أنتركهم يغصبون العروبة مجد الأبوة والسؤدا، وليسوا بغير صليل السيوف يجيبون صوتًا لنا أو صدى). ومن القصائد الخالدة التي ألفها الشاعر السوري الكبير نزار قباني، ولحنها موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب، وغنتها كوكب الشرق أم كلثوم عام 1969م ، سنجد أغنية أصبح عندي الآن بندقية، حيث تقول في مطلعها: (أصبح عندي الآن بندقية، إلى فلسطين خذوني معكم، إلى ربىً حزينة، كوجه المجدلية، إلى القباب الخضر، والحجارة النبيَّة، عشرين عاماً وأنا أبحث عن أرضٍ وعن وهوية)،وصولاً إلى خاتمتها حيث تقول: تقدموا... تقدموا.. إلى فلسطين طريق واحد، يمر من فوهة بندقية. وقد أعاد عبد الوهاب غناء هذه الأغنية وصدرت ضمن مجموعة أغانيه الوطنية.
للموسيقار والفنان "فريد الأطرش" أغنية عظيمة أيضا بعنوان وردة من دمنا، وهى من كلمات الأخطل الصغير، ولحنها وغناها الأطرش، من كلمات الأغنية (سائل العلياء عنا والزمانا هل خفرنا ذمة منذ عرفانا، المروءات التي عاشت بنا لم تزل تجري سعيرًا في دمانا)، اما المطربة سعاد محمد فقد استعانت بها المنتجة عزيزة أمير لتقوم ببطولة فيلم فتاة من فلسطين، عقب اندلاع الحرب مباشرة، حيث شَدت سعاد بأغنية القطار، وهى الاغنية التي كتب كلماتها بيرم التونسي، ولحّنها الموسيقار الكبير رياض السنباطي، وتقول كلماتها: إيش صابك يا صبية وين رايحة ومنين جاية.. فارقنا الأرض الخضرة تشعل فيها نار حمرا.. حسرة عليكي يا حسرة ويا ويل الصهيونية.. يا فلسطين فرقناكي تبكى عليكي البواكي. أما أوبريت (أحلى بلاد الدنيا مصر)، فقد كتب عبد السلام أمين مقطعاً عن عروبة أرض فلسطين، كأنه كان يشعر بالوضع الحالي، فجاء المقطع (عربية يا أرض فلسطين.. قدس ومهد وعهد ودين)، معبراً عن إحساسه بعروبة القدس، وتنديده باحتلال الكيان الصهيوني لدولة فلسطين، وهو الأوبريت الذي غنته الفنانة آمال ماهر، ولحنه الموسيقار الراحل عمار الشريعي كأحد أفضل معزوفاته، وذلك قبل ان يعود الثنائي (الشريعي ـ أمال ماهر) ليطلقا معا مرة أخرى أغنية (أختي وفاء)، التي غنتها آمال ماهر على ألحان عمار الشريعي، ومن كلمات عمر بطيشة، وترجع قصة الأغنية إلى الفدائية الفلسطينية وفاء إدريس، التي قامت بعملية تفجيرية في أراضي فلسطين المحتلة عام 2002م، ونتج عنها مقتل إسرائيلي وجرح 90 آخرين، الأمر الذي دفع الموسيقار الراحل لتخليد ذكراها في أغنية من ألحانه وتوزيعه.
ومن الأوبريتات الشهيرة عن القدس نجد (القدس هترجع لنا) ،وهو من ألحان الراحل رياض الهمشرى، وتوزيع حميد الشاعرى، وشارك فى الأوبريت أكثر من 35 نجما ونجمة، تطرقت كلماته للحديث عن الطفل الشهيد محمد الدرة، إذ بدأ الأوبريت باستثارة المشاعر حول الطفل الشهيد محمد الدرة، حيث جاءت الكلمات (كان شايل ألوانه.. كان رايح مدرسته.. وبيحلم بحصانه.. وبلعبة وطيارته.. واما انطلق الغدر وموت حتى براءته.. سال الدم الطاهر على كراسته)، ثم جاءت الكلمات في غناء جماعي للفنانين (الأرض عشان نزرع فيها يا محمد ونموت، بكره الحق هيرجع ليها ملعون أي سكوت.. صوتك وانت في موتك عالي أغلى وأروع صوت، هيحول جلادك بكرة وأعداءك أشباح)، لينتهي الأوبريت بجملة: من هنا بنقول أرضنا.. أرضنا دمنا أمنا.. وإن مات ملايين مننا.. القدس هترجع لنا، وكذلك أوبريت الحلم العربي هو أيضا من أشهر ما قدم للقضية الفلسطينية والذي تقول كلماته: أجيال ورا أجيال، هنعيش على حلمنا واللي نقوله اليوم، محسوب على عمرنا جايز ظلام الليل، يبعدنا يوم إنما يقدر شعاع النور، يوصل لأبعد سما ده حلمنا، طول عمرنا،
حضن يضمنا، كلنا كلنا.
من الأغاني الحديثة عن القدس وقضيتها، غنى الفنان هاني شاكر أغنيته (على باب القدس)، وهي من ألحان الموسيقار حسن أبو السعود، وقد غناها هاني شاكر عقب انتفاضة القدس عام 2000م، ومن بعدها استشهد الطفل محمد الدرة أمام أنظار العالم، وتقول الأغنية في مطلعها : كل المدن بتنام، غرقانة في الاحلام، الا عيون القدس صاحية ولا بتنام، كان صوت الحق بصرخة طفل، في حضن الموت، تنهيدة أب في آخر نظرة، وآخر صوت، وعيون بتقول القدس حتبقى ومش حتموت، ومؤخراً ـ قبل أيام ـ وفي خطوة تضامنية منه مع الشعب الفلسطيني، ومعارضة لخطوة دونالد ترامب بتقل السفارة الأمريكية الى القدس طرح هاني شاكر أغنية جديدة له تحمل اسم القسم ، يعبر من خلالها عن حالة غضب الأمة العربية من قرار ترامب، وتقول كلمات الأغنية : وحياة إرادتنا الوطنية وحياة شهداء الحرية، لنجيب حقنا ترجع أرضنا والقدس هتفضل عربية، القدس هتفضل عربية.. القدس هتفضل عربية. وأيضا من الأغاني الحديثة الخاصة بالقدس وقضيتها نجد أغنية (آخر كلام عندنا، القدس دي أرضنا) للفنان عمرو دياب، وغناها أيضا عقب الانتفاضة الفلسطينية، وهي من كلمات مجدي النجار، وألحان عمرو دياب، كما قد الفنان محمد فؤاد أغنيته الأقصى نادى، التي يعبر فيها عن معاناة المسجد الأقصى تحت الإحتلال. كما قدمت جوليا بطرس أغنية (وين الملايين) لتحكي معاناة الشعب الفلسطيني، وشارك معها في الأغنية التونسية سوسن الحمامي والسورية أمل عرفة، وأعادت جوليا بطرس غناءها بمفردها. وقد قدم الكثير من نجوم الطرب العرب أغاني تشدد وتؤكد على عروبة القدس وفلسطين ، منهم : أصالة، محمد الحلو، مصطفى كامل، إيهاب توفيق، مجد القاسم، حمادة هلال، وغيرهم من النجوم العرب.
فيروز والقدس
رغم ان الكثير من الأغاني قد أنتجت خصيصاً للقدس وفلسطين، إلا أن أشهرها ستبقى تلك التي غنتها جارة القمر فيروز، والتي ما تزال متداولة ومحببة إلى آذان كل السامعين رغم مرور السنين عليها، وتعد جميع أغاني فيروز الوطنية خاصة بشعوب دون ذكر الزعماء والقادة ولذلك فإن أغاني فيروز الوطنية هي أكثر الأغاني الوطنية عمراً، ومن أشهر أغاني فيروز .. نجد (زهرة المدائن)، ربما لأنها الأشهر من بين ما غنته للقدس المحتلة، وقد كتب كلماتها ولحنها الأخوين رحباني، ويقول مطلعها: لأجلك يا مدينة الصلاة أصلّي، لأجلك يا بهيّة المساكن يا زهرة المدائن، يا قدس يا مدينة الصلاة أصلّي، عيوننا إليك ترحل كل يوم، تدور في أروقة المعابد، تعانق الكنائس القديمة، وتمسح الحزن عن المساجد، يا ليلة الإسراء يا درب من مرّوا إلى السماء، عيوننا إليك ترحل كلّ يوم وإنّني أصلّي، لكن يجب ان نعرف أن لـفيروز ألبوم كامل بعنوان القدس في البال، و زهرة المدائن هى إحدى أغانيه، لكن باقي
الأغاني هى: القدس العتيقة، سيفٌ فليشهر، غاب نهارٌ آخر، يافا، بيسان، سنرجع يوماً.
ختاما، يجب التأكيد على أنه في الوقت الذي كانت الشعوب تتحرر وتحصل المستعمرات على إستقلالها بعد طرد المستعمر منها، كانت الدول الناشئة حديثاً تبحث أول ما تبحث لنفسها فور استقلالها، كي تعلن عن وجودها وكيانها، أن تختار لنفسها العلم والنشيد الوطني، فلكي تعلن عن موقعها على خريطة العالم وفي المحافل الدولية، كان النشيد الوطني بموسيقاه الحماسية والمؤثرة هى البداية، في دلالة مهمة على هوية الأوطان و روحها، حيث تتآلف النغمات والإيقاعات فتصبح أنشودة وطنية تعزفها القلوب وتحتفي بها الحناجر وهي تمثل الوطن في كل محفل، ومن ثمّ كانت الأغاني الوطنية تأتي لاحقاً لتثير نفس المشاعر الوطنية وتصون الذاكرة والهوية، ولعل هذا ما لمسناه من الأغاني العربية حول القضية الفلسطينية والقدس.