القاهرة 13 ديسمبر 2017 الساعة 02:16 ص
مختار سعد شحاته
الشعراء وفن الرواية:
يتعرض البعض ممن يكتبون الرواية إلى هجمة غير اعتيادية، ربما رجع ذلك إلى كثرة هؤلاء الداخلين إلى عالم الرواية ممن يرون الرواية علمًا أيسر وأسهل من وجهة نظرهم كأحد أنواع الكتابة، وهو ما يجعل بعض النقاد يكرر أن الرواية في منطقتنا العربية "بعافية شويتين"، وما علينا إلا أن ننظر إلا الكمّ الهائل من تلك الروايات التي تطرحها معارض الكتابا، آلاف الأسماء والحاصل في النهاية لا يتعدى في مجموعه القليل جدًا.
وأعتقد أن الرواية عالم له سحره الخاص الذي يشد الناس إليه بالكتابة قبل القراءة، لكنهم سرعان ما يُكشفون ويكتشفهم الناس، ووحدها –في ظني- فئة الشعراء هم في حلٍّ وأمان من هذا الانكشاف المخلّ، فما أزال مؤمنًا بأن الشعراء هم الأقدر والأجدر حتى ولو لم يعد للشعر سوقًا كما مضى، وما عليك فقط إلا أن تتأمل هؤلاء الشعراء الذين كتبوا الرواية، وهمّ كثير، فقط دعني أقول هذا المثال منطبق –في صغري- على رواية "ورود سامة لصقر" لأحمد زغلول الشيطي، وهو شاعر، وكذلك في العام الفائت قرأت روايتين لشاعرين الأولى "ابن القبطية" لوليد علاء الدين وهي ملحمة إنسانية لا يقدر على كتابتها غير شاعر كوليد علاء الدين بكل ثقله وصوته الشعري المميز، والرواية الأخرى هي موضوع مقالي هذا، رواية "حافة الكوثر" للشاعر على عطا.
صك اعترافات الكاتب:
لماذا أقدم هذا المقال، ولماذا أتحدث عن "حافة الكوثر" تحديدًا؟ الأمر هنا سيعود بي إلى شجون شخصية ربما عانى منها بعض هؤلاء الذين يعملون بالكتابة ولا يجدون أنفسهم إلا فيها، إذ هم واقعون طوال الوقت تحت مقصلة التأويل، وكأننا –معشر الكُتاب- مطالبون بتقديم صك الاعتراف على تأويلات القُراء، بل يصل الأمر أن يُصر البعض على التفتيش وراء الكتابة، ومحاولة ربطها بحياة الكاتب الشخصية، وكأن الكاتب يكتب واقعه؟ فهل نكتب واقعنا فعلاً؟
تقدم رواية حافة الكوثر تجربة جديدة في نوع كتابي لم يأخذ شهرته بعد في العالم العربي، وهو "كتابة الحياة"، وهو ذلك النوع من الكتابة التي تعتني بتفاصيل شديدة الشخصانية لأبطال العمل، وشديدة الاهتمام بالتفصيل الدقيقة في حيوات الأبطال، والمرتبطة بشكل ما بالأحداث العامة، وهو نوع كتابي يقترب كثيرًا من أدب الاعتراف ويأخذ منه بل وربما يختلط على القاريء فيظن أن كتابة الحياة أدب اعترافي، أو سيرة ذاتية، والحقيقة غير ذلك تمامًا، ولا مجال للخوض في تعريف كتابة أدب الاعتراف أو كتابة السير الذاتية، إذ أُعنى في مقالي، بتلك الإشارة إلى “writing live” التي تمثلها رواية "حافة الكوثر" بامتياز ووضوح، لتصبح واحدًا من أعمال قليلة ظهرت أخيرًا لتأكيد هذا النوع الكتابي الجديد الآخذ في التصاعد، والقريب جدًا من الكتابات الأنثربولوجية الحديثة التي يمكن من خلالها قراءة واقع المجتمع بكل تفاصيله من خلال هذا السرد الأدبي الرائق البسيط لكن غير السهل على الإطلاق.
فخ حافة الكوثر:
تجيء الرواية الصادرة في يناير 2017 عن دار المصرية اللبنانية، وبقطعها المتوسط وعدد أوراق صفحاتها، يمكن للقاري ومن خلال بطل الرواية الذي يعمل بالمجال الصحفي "الصحافة الثقافية" أن يبلع الطعم الذي تحمله هذه الرواية، فيُسرع إلى بناء النظريات حولها وحول شخوصها ويقع ببساطة تشبه بساطة كتابتها الاحترافية الصعبة- في فخّ السعي وراء الشخوص الحقيقية للأبطال، فربما كان الكاتب نفسه أو الكاتب فلان أو فلان أو فلان من شخوص وأبطال العمل، والحقيقة حتى لو كان الكاتب –ولا أعنى على عطا إنما بوجه عام- يقول على هذا النوع من الكتابة إنه يقصد فلان أو فلان، ويحاول أن يسبغ صفة الاعترافية على ما كتبه وأحدث جلبة ما، إلا أن الكُتاب الذين يكتبون كتابة الحياة، يدركون في حقيقة الأمر أن أبطال العمل الأدبي لم يكونوا موجودين بالحقيقة إلا عبر الورق والصفحات حتى وإن تشابهت ملامحهم مع شخوص حقيقية أوهمت الناس أن هذا فلان وذاك فلان.
هكذا تكون كتابة الحياة، التي يمكن من خلالها للكاتب أن يصنع تلك الخلطة السحرية في الكتابة عبر تقنيات لغوية متعددة وبلغة شديدة الخصوصية تصل في بعضها إلى لغة الشعر الشفيفة، أو تدنو من اللغة الصحفية الثالثة، وتخلطها بكثير من العامية واللهجة المحلية في حواراتها، دون أن تجعل القاريء متمكنًا من الإمساك بناصية واحدة للغة، وهذا ما يفعله "على عطا" في حافة الكوثر، حين ترى كل تلك الشخوص الحية داخل المؤسسة الصحفية التي يعمل بها البطل، أو داخل المصحة النفسية التي يتناوب عليها البطل نزيلاً لأكثر من مرة، أو عبر تلك اللغة المعبرة عن إحباطات الشارع المصري إبان ما تلا يناير 2011 من أحداث بين انتكاسات وآمال، حتى ولو كانت في جملة من عامية المصريين خلال أزمة الانتخابات بين "مرسي" و"شفيق" بعد فترة الحكم العسكري.
كتابة الحياة ليست أدبًا للسير والاعترافات:
تكمن خطورة تلقي مثل هذا النوع من كتابات الحياة هو ما تفعله بسلاسة حين تتسرب إلى القاريء التفاصيل، فتجعله بين الحين والآخر يشعر بأنه يتلصص على حياة الكاتب الشخصية لا حياة البطل وهو ما يؤسسه حتى غلاف الرواية وتصميمه، وهو ما أجاده "على عطا" باقتدار، ففي أحيان كثيرة كنت أعيد القراءة للفقرات لأتأكد أنني لا أقرأ مذكرات شخصية، ولا أدب اعتراف، وأجدني أهز رأسي للوقوع على مثل هذا النموذج الحي لكتابة الحياة، ترويها سيرة هذا البطل "حسين" نزيل المصحة النفسية بالمعادي، والقابع تحت ضغوطات الثورة والإحباط الناتج عن العمل والعلاقات الاجتماعية المضطربة والمعقدة بتعقيد الحياة ذاته، ويجب أن ندرك ان هذا النوع في نهاية الامر ليس سيرة ذاتية او كتابة اعترافتية.
إذن ما الذي قدمته تلك الرواية صغيرة الحجم الورقي وصاحبة تلك الإشارة الكبيرة؟
أظن أن أعظم ما قدمته رواية "حافة الكوثر" -بعيدًا عن جمال الحكاية ولغتها- هو ما تقدمه من نموذج كتابي لما يُسمى "كتابة الحياة"، ليس وفقط بل والتي ينتج عنها بعد القراءة ما يُعرف باسم "الحياة المكتوبة" وهو المصطلح الراتب لـ"كتابة الحياة"، إذ تقول القاعدة بأن كل كتابة حياة تنتج بعد كتابتها وقراءتها "حياة مكتوبة"، فـ"على عطا" حين انتهى من كتابة حياة أبطاله، وتحديدًا حياة البطل الواقع بين كثير من التناقضات الإنسانية الطبيعية، أنتج لنا "الحياة المكتوبة" لمجتمع البطل في محيطه الشخصي ومحيط عمله، والمحيط السياسي، وهذا ما يجعل مثل هذه الكتابات ستصبح من العلامات التي يتوقف عندها الدارسون الأنثربولوجيون حين يودون قراءة تاريخ الحياة في فترة زمنية معينة، فكل ما عليهم أن يتقدموا نحو واحدة من تلك الأعمال التي تمثل "كتابة الحياة" وبعد أن يُتموا قراءتها سيكونون انتهوا إلى "الحياة المكتوبة" لهذا المجتمع موضوع دراستهم.
ربما لم يحن الأوان بعد لتداول هذا النوع الكتابي، وإن كان في حقيقة الأمر يتصاعد بقوة في كتابات الغرب الأوربي، لكن حين يتم التأريخ لـكتابات الحياة" و"الحياة المكتوبة" ستكون رواية "حافة الكوثر" واحدة من الروايات المؤسسة لهذا النوع، وأظن ذلك هو ما يُحدث صدمة التلقي لدى البعض، فيراها بأنها عمل عادي، وهو محق، لأنه يحكم عليها بأحكام أدبية غير كاملة، لأنها ببساطة محكومة بهذا النوع الكتابي "كتابة الحياة/ والحياة المكتوبة".
بقى أن أشير إلى أن الشاعر على عطا كان حاضرًا وبقوة في لغة الرواية بتلك الجمل الشعرية الخالصة التي جاءت على لسان أبطاله خاصة هؤلاء الساخرين داخل المصحة العقلية "مصحة الكوثر" تضم الصحفي والتاجر والضابط والقاضي، وغيرهم، التي صارت عالمًا خاصًا له حياة يجب كتابتها بشكل آخر، وعبر تفاصيل حياة مكتوبة بسرد مغاير، ولو كانت حياة هؤلاء النزلاء الذين ربما نفقد التعاطف معهم أحيانًا أو نشعر بأنهم تلبسونا أو نعرف شخوصهم الحقيقة، هؤلاء جميعًا أخذوا حظهم من تلك الشاعرية، ويُمدح للشاعر أنه أعطى جميع أبطاله من حقيقة حيواتهم ومن روح الشاعر التي أضافت إليهم.
ومن أراد أن يرى مصر المحبطة والثائرة قبل وبعد ثورتها فليقرأ تلك الحياة المكتوبة التي جاءت عبر رواية حافة الكوثر بحملت كل تشظيات الوضع المصري، بل والإنساني في مصر والوسط الثقافي بشكل عام وخاص في آن.
أعان الله الروائيين إذا كتب الشعراء الرواية!!