القاهرة 13 ديسمبر 2017 الساعة 02:08 ص
د. أسماء إبراهيم شنقار
لكل شخص حكاية قد نختار أن نشاركها مع الناس وقد نختار أن نخفيها أو نزيفها وندخل عليها تعديلات أخرى ،بحيث نجمع بين ما هو واقعي وما هو متخيل . وحينما نختار البوح فحينها تتعدد الطرق ، وإحدى هذه الطرق هي الكتابة .
وفي الكتابة تبدأ الفكرة بسيطة وتتعمق حتى تكتمل أو تتشعب .
وهذا ما نظنه حدث مع الكاتب علي عطا حيث بدأ بنشر قصة قصيرة على جريدة الحياة باسم"شجرة التوت" بتاريخ 4/5/2015 تحتوي على مقطع سردي داخل العمل الروائي الحالي ، ورد عليه القارئ "رءوف مسعد" قائلا: "ممكن تكون مدخل لقصة طويلة وهامة أيضاً حيث لا يتناول الكتاّب العرب الحياة الخاصة للمرضى النفسيين والمصحات النفسية؛ لأسباب اهمها عدم دراية الكتاّب "بالأحوال" داخل مراكز العلاج النفسي اللهم إلا الكاتب السعودي إبراهيم الخضير فهو "طبيب" معالج نفسي وله ثلاث روايات تأسست على عمل طبيب نفسي وعلى الحياة والموت في مراكز علاج نفسية. وإذا رجعنا لقصة علي عطا سنجدها تحمل البذور الناضجة لعمل كبير. أرجو أن يهتم بتحقيقه."
وربما حينها شجعت هذه الرسالة الكاتب أن يجعلها محور لعمله الروائي وهذاما ألمح إليه في متن الرواية قائلا :"طيب فلأرجع إلى الوراء بحثا عن أصل الداء، أو عن أي شيء آخر قد أجد أنه يستحق أن يكتب في نص طويل وليسامحني الطاهر يعقوب الذي يرى أن علي أن أتعامل مع نص " شجرة التوت" الذي نشرته في جريدتنا عرب اليوم باعتباره قصة قصيرة وليس باعتباره متن نص طويل عن الكوثر وناسه ، وعني أيضا بما أني أصبحت واحدا منهم " ص24
من هذا المقطع السردي ننطلق لتحليل رواية "حافة الكوثر". فهذه الرواية ولا شك رواية سير ذاتية تجمع بين ما هو واقعي وما هو متخيل ، تحكي عن حسين الكاتب الذي يمر بأزمات نفسية متعددة تتطلب دخوله "مصحة الكوثر".
يحكي الكاتب عن مصحة الكوثر وعن ناسها وعن نفسه وعن الاكتئاب وعن العديد من الموضوعات التي تجمع بين الذاتي والمجتمعي . وقد جاء هذا البوح كصرخة احتجاج عن المعاناة التي يمر بها المكتئبون دون أن يشعر بهم أحد .
وأسجل هنا في هذه السطور مجموعة من الملاحظات البسيطة على الرواية وبناءها:
1- يمثل موضوع "الاكتئاب" نقطة ارتكاز للرواية وموضوعا رئيسا ،فيحكي الكاتب عن كثير من الأمور المتعلقة به عن ماهيته وطرق علاجه وتباين المدارس المعالجة له بين من يؤيد العلاج المتمثل في العقاقير وبين من يركز على العلاج السلوكي . كما يحكي عن تجاهل الناس لهذا المرض رغم انتشاره وعن مدى جهلنا كمجتمع به وبمن لديه هذ المرض.
ويحكي عن تجربته الخاصة مع الاكتئاب وعمن قابلهم من ناس الكوثر وأسباب مرضهم والحياة داخل هذا العالم.
وفي ظني أن هذا الموضوع وجديته هو السبب الرئيس في نجاح الرواية وذلك لأن هذا الموضوع قل التعرض له في الكتابات الإبداعية ، ويعتبر منطقة مجهولة بالنسبة للكثيرين .
وكنت أتمنى أن تتم معالجته بشكل أكثر عمقا حتى نتعرف أكثر على من يتعرضون لهذا المرض وعن الحياة في المصحات النفسية.
يتفرع من هذا المرتكز موضوعات أخرى كثيرة تدور في فلكها ،لانه وبطبيعة الحال يحاول الكاتب البحث عن مسببات اكتئابه واكتئاب غيره فيحكي عن:
-مشاكل الموهوبين والأدباء وما يلاقيه كثير منهم من إهمال وتجاهل.
-الرشوة
-القمامة
- الاستيلاء على الأراضي و البناء بغير تراخيص
-الغربة
وغيرها الكثير والكثير من المشكلات .
وإذا كان االاكتئاب مسببه دائما هموم شخصية وهموم مجتمعية فإننا نجد الموضوعات تتفرع إلى هذين القسمين . المشكلات الشخصية والمشكلات المجتمعية . ويبوح الكاتب بكل هذه المشكلات ويغوص في دواخلها محاولا تقصي أسباب اكتئابه وجذورها.
ويسجل ذلك بالكتابة إيمانا منه بأن الكتابة تمثل خلاصا للذات. وقد ذكر ذلك في أكثر من موضع فذكره في عتبته النصية التي اقتبس فيها قول نيكوس كازانتزاكيس " إنها لمعجزة إذن هذه الحياة كيف تمتزج بها أرواحنا عندما نغوص داخلنا ونعود إلى جذورنا ونصبح شيئا واحدا"
وكذلك في رسالة الطاهرله التي يقول فيها :" أنت إذن تدرك ما الجوهر ، فالأمر ليس مجرد ولع بالشهرة أو وسيلة للارتقاء الاجتماعي ، بل هو الكتابة كموقف من العدم ، أو كما تشير أنت متماهيا مع خاتمة رواية إيزابيل الليندي: صور عتيقة ،خلاص للذات عبر الكتابة .فأكتب"
وقد كرر الكاتب نفس المعنى في غير موضع داخل الرواية.
*** بدأ الكاتب روايته برسالة ، وظلت تقنية الرسائل مسيطرة على الرواية كلها ،فهو يحكي لطاهر ويبوح له بأسراره كلها ، والطاهر يرد عليه غالبا كمشجع له على استمرار الكتابة والبوح.
ولم تقتصر الرسائل على الطاهر بل هناك رسائل أخرى أدرجها الكاتب قد تكون محادثات على الفيسبوك أو رسالة ابنته إليه وهو في المصحة أو رسائل شكاوى من أهالي الحي لرئيسه.
تبدأ الرواية برسالة للطاهر وتنتهي برسالة يسأله فيها"هل تلك رسائلي ؟هل تقرأها ؟ لماذا توقفت رسائلك؟"
يربط الكاتب في البداية بينمنفى طاهر الاختياري وبين الكوثر ، ويتسائل هل يمكن أن يصبح الكوثر وطنا بديلا يقول:" يالله ،ولماذا لا يكون طاهر قد وجد أخيرا الوطن البديل له ولأسرته الصغيرة ؟هو لم يضطر إلى المنفى بل سعى إليه طويلا حتى ظفر به.
يالله ، لكن التكيف مع الوطن البديل يظل هدفا بعيد المنال حتى بالنسبة إلى الأجيال المولودة وفي أحيان كثيرة أيضا يتحول التكيف مع الوطن الأصلي إلى هدف بعيد المنال.هل يمكن يالله أن يصبح الكوثر وطنا بديلا لناسه الوافدين إليه رغما عنه من كل صوب وحدب.هو بات كذلك بالفعل ولا بديل له إلا شوارع لا ترحم ساكنيها."
يوضح لنا هذا المقطع السردي عدم قدرة الفرد على التكيف مع الوطن الأصلي وربما كان الكوثر بالنسبة للبعض هو وطن بديل يتكيفون فيه أفضل.لذلك نجد في المقطع التالي وصف لمميزات الكوثر فهي لا تختلف عن بقية الوطن يصل إليها نسمات النيل...إلخ
وتنتهي الرواية بتحذير من أن الكوثر نفسها مهددة بالخراب وأهلها قد لا يجدوا قريبا من يحنو عليهم ، تنتهي الرواية باختفاء الطاهر وكذلك بخراب الكوثر.
**الرواية عبارة عن مقاطع من السرد مختلفة ومتشعبة ومتناثرة بعضها يسير في إطار واحد وهدف واحد وبعض آخر لا تشعر بأهميته في السرد ولن يتأثر السرد لو تم حذفه.
ونلاحظ أن البناء السردي متفكك في هذه الرواية .ونتيجة لذلك يأتي الزمن متشظيا فيتأرجح ما بين الماضي البعيد الذي يمثل ذكريات الطفولة والمؤثرات المختلفة التي أثرت على شخصيته وما بين الحاضر والماضي القريب.
وتفسيرنا لهذا البناء أنه يأتي انعكاسا لنفسية الكاتب/البطل ولاكتئابه الذي يسمه بالتخبط والقلق ويحاول أن يغوص في أعماق نفسه بحثا عن جذور مشكلاته وعن حل لها.
**زخرت الرواية بالعديد من الشخصيات والتي مثلت شرائح اجتماعية مختلفة وأصواتا مختلفة. وكان الكاتب في أحايين كثيرة يدرجها بأسماء ثنائية.
وفي الحقيقة أن عدد الشخصيات زاد لدرجة قد تثير البلبلة لدى القارئ وخاصة أن الحكي عن معظمها جاء ناقصا.
وكنت أفضل-كقارئة- لو تم تقليص عدد الشخصيات وتعامل معها الكاتب بشكل أكثر عمقا فتكون مشكلاتهم موازية لمشكلة الكاتب نفسه وحينها تكون قد تمت معالجة مرض الاكتئاب من أكثر من جهة وأكثر من زاوية.
*** فرض المكان سيطرته وحضوره على الرواية بدءا من العتبة النصية الأولى وهي العنوان ، فالمكان لا يحيط بنا ويحتضن حياتنا فقط وإنما يتخطى ذلك إلى القيام بدور أساسي وإنساني يتفاعل مع دواخلنا في الوعي واللاوعي ويقيم معنا علاقة إنسانية تتراوح في العمق من مجرد الإحاطة إلى المرافقة إلى الصداقة والأمومة أحيانا.
والمكان هنا يأتي على مستويين:
1-الكوثر : وهو المكان الأساسي الذي تدور الرواية حوله،وهو حاضر في دواخل البطل وفي حياته وحياة ناس الكوثر كذلك.
2-الأماكن الموازية للكوثر : والتي يبحر الكاتب فيها ليرى العلاقة التي جمعته بها والتي شكلته وشكلت شخصية ومنها المنصورة والتي نشأ فيها وقضى طفولته بها.
وكذلك الأماكن التي تحيط بحياته في الوقت الحاضر مثل (القاهرة) وضواحيها.
ويمكن أن نطلق على هذين المستويين (الوطن /الوطن البديل)
وفي النهاية يمكننا القول إن هذا الموضوع (الاكتئاب) غاية في الأهمية ويحتاج إلى كتابات أكثر فأكثر خاصة أنه يغزو العالم ولا يفرق بين كبير وصغير أو بين غني وفقير أو بين جاهل ومثقف ..فالحساسية في التعامل مع الحياة وعدم القدرة على التكيف مع المجتمع بما يحدث فيه من تغيرات سلبية صفة يشترك فيها الكثيرون . ولكننا نختار غالبا أن نتجاهلها .