حافة الكوثر.. تجربة خاصة فى قراءة رواية
منير عتيبة
ليست هذه قراءة نقدية للرواية الأولى للشاعر والصحفى المصرى "على عطا" "حافة الكوثر" الصادرة عن الدار المصرية اللبنانيةبالقاهرة2017، بقدر ما هى تجربة خاصة فى تلقى هذه الرواية.
لديَّ بعض الطقوس قبل الدخول فى قراءة رواية، وكأنها طقوس استئذان شخصياتها أن أعرف خباياهم وأتلصص على حياتهم، فأقف طويلا أمام العنوان والغلاف، وأقرأ المكتوب على الغلاف الخلفى، والإهداءات والمقدمات والفهرس والسيرة الذاتية للكاتب إن وجد كل ذلك أو بعضه..
من كل ذلك أكون فكرة مبهمة تدفعنى للقراءة (وأحيانا تصدنى عن القراءة) إذ أصبحت على معرفة ولو طفيفة بالحياة التى تعرضها مما يعطينى الحق أن أؤكد أو أنفى هذه المعرفة، وأن أعرف عنها أكثر، قررت أن أقرأ بضع صفحات للتعرف على عالم الرواية لأن لدى عملا أريد أن أنجزه، ثم أخصص وقتا فيما بعد لقراءة الرواية كاملة، فلم أشعر إلا وقد انتهيت منها، فهى رواية تستحق القراءة إذن، وهى رواية لم أستطع أن أتركها حتى أتم قراءتها، فلماذا؟
الكوثر؛ أول ما يتبادر للذهن هو نهر الجنة الذى أعطاه الله لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم "إنا أعطيناك الكوثر"، فهل هى قصة عن الجنة، أو محاولة الوصول إليها، أو العطش للشراب من نهرها، ومن هذا الشخص على الغلاف الذى لا تظهر ملامحه بوضوح يجلس وحيدا فى حجرة تبدو ضيقة ينظر من شباكها بتشوف على العالم الخارجى، هل الجنة/ الكوثر هى المكان الذى يجلس فيه أم خارج المكان؟، الراوى نفسه يسأل ويجيب وذلك فى عبارة ذات دلالة عميقة على الرواية يضعها على غلافها الخلفى (هل يمكن يا الله أن يصبح الكوثر وطنا بديلا لناسه الوافدين إليه رغما عنهم من كل صوب وحدب؟ هو بات كذلك بالفعل، ولا بديل له إلا شوارع لا ترحم ساكنيها) ولماذا يكتب "على عطا" رواية وهو على مشارف الخمسين بعد أن أصدر ثلاثة دواوين تحقق بها كشاعر، وبعد أن حقق مكانة متميزة فى العمل الصحفى؟ هل هو فيض التجربة وتنوع تفاصيلها تفرض هذا الشكل الفنى/الرواية، ذلك الغول القادر على ابتلاع كل الأشكال الأدبية الأخرى برغم أنه لم يتحدد له شكل نهائى وثابت أو ربما لأجل ذلك؟ وهل هى كرواية أولى تتماس مع السيرة الذاتية كمعظم الروايات الأولى، وإن يكن فبأى درجة كان هذا التماس؟ إم إن الرواية هى الموضة الرائجة لدى الناشرين والقراء ومانحى الجوائز فقرر الكاتب أن يدخل إلى الحلبة خصوصا إن عمله الصحفى يتماس بقوة مع الروايات وكتابها ويعرف كل خباياها الفنية وغير الفنية؟
أراد "على عطا" أو لم يرد لم يكن روائيا فقط فى "حافة الكوثر"، كان الروائى له شركاء ثلاثة، الصحفى، والشاعر، والناقد، الصحفى والشاعر أطلا برأسيهما كثيرا سواء من خلال المعلومات والموضوعات المنثورة فى الرواية والتى لا يعرفها إلا صحفى يعمل فى الوسط الثقافى المصرى، والوصف والتقديم الخبرى الصحفى فى بعض مناطق الرواية، أو من خلال المقاطع الشعرية الخالصة أو المقاطع ذات النفس الشعري فى السرد وإن لم تكن كثيرة، والأهم وجودهما من خلال أسلوب السرد نفسه، أما الناقد فكان شخصية مستقلة فى الرواية هى شخصية "طاهر" صديق الراوى، والذى يروى الحكاية كلها فى صورة "إميلات" إليه، وهو يعلق عليها بشكل شخصى ونقدى فى الآن ذاته.
الراوى "حسين" مريض بالاكتئاب، يدخل إلى مصحة "الكوثر" ثلاث مرات بإجمالى 31 يوما، على فترات مختلفة، منها ستة أيام فى شتاء2012، والباقي كان فى ربيع وبداية صيف 2015، يكتب لصديقه طاهر الذى غادر البلاد إلى أوروبا فى منفى اختيارى لأنه لم يعد يطيق البقاء فيها، وطاهر يشجعه على الكتابة، بداية لأن هذا يساعد حسين علاجيا، لكن الأهم لأن طاهر يعجب على المستوى الفنى بالنص الذى يكتبه حسين باعتباره "نص مفتوح"، مما يدفع حسين للاستمرار فى الكتابة، وهذه الحيلة الروائية معتادة، كانت قديما فى شكل خطابات، والآن حل الإميل محل ساعى البريد، لكن المهم هنا أنها شكلت البنية السردية المتشظية للرواية، فقد جعلت إطار الحكى العام هو "الفضفضة/البوح" لصديق، وبالتالى لم يعد عليها الالتزام بتسلسل زمانى أو سببى أو مكانى، فتجد فى الفصل الواحد "لقطات" من الماضى والحاضر، ومن موضوعات وأماكن مختلفة، أحيانا يكون بينها رابط واضح، وأحيانا قد تجهد نفسك كثيرا لتجد رابطا بينها.
لا تتحدث الرواية عن الماضى بقدر ما تتحدث عن اللحظة الآنية، ففى مواضع كثيرة تشعر أن الكاتب مستمر فى كتابتها حتى الآن، وأنك تشاركه فى ذلك، لأنك بالفعل شريك له فى الكثير من الأحداث والأفكار والمشاعر التى يحكيها، خصوصا ما يخص الأحداث السياسية بعد ثورة 25 يناير حتى قبيل طباعة الرواية، ويستدعى من الماضى ما يتماس بشكل أو بآخر مع هذه الأحداث، كما يستدعى من ماضى حياته ما أوصله إلى حالة الاكتئاب هذه، علاقته منذ الصغر بالطفلة دعاء مستجاب التى كان يلهو معها مقلدين أبطال الأفلام، والتى أصبحت زوجته وأم أولاده، مشاهدته لثورة الجياع التى أطلق عليها أنور السادات اسم "انتفاضة الحرامية"، مشاكل ابنته حنان التى أصرت على الزواج من شاب لا يوافق عليه، ثم طلاقها منه، علاقته بزوجته الثانية السرية سلمى السكري وضغطها عليه ليعلن زواجهما، واعترافه بهذا الزواج لزوجته الأولى مما حول حياته إلى جحيم من التفتيش والمراقبة والمواجهات اليومية، العلاقات المهترئة بالوسط الثقافى الذى يأكل لحم بعضه البعض والذى يصبح بعض من فيه ضحايا بشكل دراماتيكى كأن يموت أحدهم فى الشارع تجمدا بعد أن لم يعد أحد يسأل عنه، وأن يقضى بعضهم وقتا طويلا فى "الكوثر" للتخلص من أزماته النفسية إلخ.. كل هذا التعقيد يروى ببساطة لصديق يعيش على البعد، فنرى من خلاله مسار ومصير ثورة يناير، والتداعيات الاجتماعية والاقتصادية لها، وتغول المنتفعين والبلطجية بعد الثورة ليحولوا الفيلات بالمعادى إلى أبراج سكنية، ويستولوا على أراضى الدولة باعتبارها أرض الله وهى لمن يستغلها، حتى "الكوثر" الفيلا العتيقة؛ يشير الراوى فى النهاية إلى إنه تم الاتفاق على أن تحول هى الأخرى إلى برج سكنى.
لا يحاكم الراوى الحياة وأحداثها العامة والخاصة، بقدر ما يعرضها بما يجعلها تحاكم نفسها بنفسها، ولا يستطيع أن يحكم على نصه الروائى الأول، فيكون "طاهر" هو ناقده الذى يسير معه خطوة بخطوة أثناء عملية البوح هذه، بما يبث حالة وعى بالكتابة أثناء الكتابة نفسها، وهو يجعل الرواية/ الكتابة تتداخل مع الرواية/الحياة بما يعمق الرؤية العامة التى تبثها، وهى رؤية مثقف مكتئب عاش تفاصيل حياة اجتماعية قاسية وسياسية مضطربة ولم يجد ثمارا حقيقية يقطفها من حديقة هذه الحياة، بينما نهر الكوثر الروحى والاجتماعى والسياسى يجف رويدا رويدا ليموت كل شئ عطشا إلى لحظة تعاطف إنسانى مفقودة، ورؤية وطنية مضببة. وإن يكن ظهور طاهر فى القاهرة غير مناسب روائيا فيما أرى، فهذا لم يحقق أى تغير سلبى أو إيجابي فى أحداث الرواية، وكان من الأفضل أن يظل الصديق المثقف العائش بعيدا ليرى أعمق على المستوى الحياتى والكتابى (الفقرة الأولى من الفصل16 ص99) وهو ما فعله الراوى نفسه إذ إن وجوده فى الكوثر جعله يبتعد مكانيا وزمانيا؛ وإن يكن فى الداخل، بما يتيح له رؤية كلية ومختلفة، وفرصة للتحليل المتأنى، لعرض الجوهرى مما حدث فى الحياة العامة والخاصة والذى أوصل الوطن لما هو فيه وأوصل الراوى إلى الكوثر. وهناك خلط فى أحد الأسماء فى الرواية ربما يكون مرجعه تداخل الواقعى مع التخييلى، وهو ما يشير إلى المساحة العريضة للسيرى فى الرواية (الفصل 19 من ص115 إلي ص117، شخصية عبد العزيز السعيد الذى ينادونه بسعيد أو عبده، يذكر باسم منعم مرة فى ص115 ومرة فى ص117)
يمكن توصيف الرواية بالمعلوماتية، فالراوى يبث الكثير من المعلومات عن المكان، والأحداث، وتاريخ فيلا الكوثر، وتفاصيل مرض الاكتئاب بأعراضه ومراحله وتداعياته وأساليب علاجه، وإن تكن بعض المعلومات غير موظفة بشكل روائى مثل لائحة التعامل مع المرضى بالكوثر، فقد ذكرت اللائحة فى صفحتين ونصف من ص143 إلى ص145، وكان يمكن بث ما بها من معلومات وفقا لأحداث الرواية، وما لا تحتاجه الرواية لا يذكر. وقد أجاد الكاتب استخدام الحوار كأداة من أدوات توصيل المعلومات والكشف عن الشخصيات ودفع الحدث للأمام فى الرواية، لكنه جعل بعض الحوارات بالعامية وبعضها بالفصحى، وكنت أفضل أن تكون الحوارات كلها بالفصحى أو كلها بالعامية، أما الحوار الفصيح الذى أراه غير مناسب فقد جاء فى ص131 لأنه يدور بين الطفلين حسين ودعاء وكان يفضل أن يكون بالعامية.
ما الذى يجعلك تقرأ رواية فى جلسة واحدة، وتتحمس للكتابة عنها فورا؟ هل لأنك وجدت نفسك فيها، هل لأنك ذلك المكتئب ذاته أيا كانت درجة ثقافتك؟ ربما كل منا هو حسين المكتئب بدرجة أو بأخرى، وربما لهذا نتعاطف مع ضعفه وتعقيدات حياته ربما نجد من يتعاطف معنا ولو للحظة، وربما لأن الوطن الذى يروى حسين مأساة ضياعه هو الوطن نفسه الذى يتسرب من بين أيدينا.