القاهرة 12 ديسمبر 2017 الساعة 11:39 ص
بقلم: د.مصطفى عطية جمعة
بانوراما غنائية وإنسانية راقية ، تلك التي يقدمها لنا الفيلم الفرنسي La Vie en rose ( الحياة الوردية ) ، والذي أنتج في العام 2007 ، وأخرجه " أوليفيه داهان "، والذي يدور حول حياة المطربة الفرنسية الأسطورية " إديث بياف " ، والتي حملت لقب " العصفورة الصغيرة " ، ويحمل عنوان الفيلم اسم إحدى أغنياتها ، وقد نال الفيلم خمس جوائز بما في ذلك جائزة أفضل ممثلة لبطلة الفيلم " ماريون كوتيار " لأدائها الراقي في تجسيد شخصية " إديث " ،في العام 2008م ، فمن يشاهد الفيلم يشعر كأنه يشاهد فيلما وثائقيا عن إديث ، بسبب التمكن الشديد للممثلة " كوتيار " ، بجانب جائزة أوسكار أخرى في المكياج المدهش ، الذي استطاع أن يعبر عن النقلات الزمنية في عمر " إديث " ، في مراحل حياتها المختلفة ، فكان الوجه مختلفا في اللقطات المتتابعة، وشكّل علامات زمنية ما بين ماضيها وحاضرها .
يمكن قراءة الفيلم جماليا من باب جماليات القطع والارتداد الزمني ، فقد وفّق السيناريو الذي كتبه المخرج " داهان " ، والممثلة كوتيار نفسها ، في تقديم حياة إديث بشكل راق ، عرض طفولتها البائسة ، بوصفها ابنة أب من أصل إيطالي وأم من أصل جزائري ، عاشت في أسرة مفككة ، فقد تركها والدها وسافر للحرب ، وعندما عاد وجد ابنته الطفلة إديث مهملة ، تعاني الجوع والمرض ، فأخذها من أمها، ووضعها في بيت والدته ، والذي كان بيتا لبائعات الهوى . أما أمها فكانت مشغولة بكونها ذات صوت جميل ، فهي تغني في الشوارع ، وحدثت أنها نسيت صغيرتها إديث وهي تبحث عن بعض السامعين من المارة ، ومن ثم هجرت الأم أسرتها ، وصارت تستجدي الطعام من المارة مقابل الغناء ، لتعيش في النهاية حياة أقرب إلى البوهيمية ، وتنقطع علاقتها بابنتها .
وربما كان مسار الأم مشابها مع الابنة " إديث " نفسها عندما كبرت ، وصار صوتها رائعا ، فكانت تقف وتغني على نواصي الشوارع في باريس ، ولا تزال تتذكر كيف أن حياتها في منزل جدتها ، ومعاشرتها لبائعات الهوى البائسات ، وترفيهها عنهن من خلال غنائها الطويل .
جماليات القطع هي العلامة المميزة في تركيب الفيلم ، فقد استطعنا رصد أبرز محطات حياة " إديث " ، منذ أن عاشت مع والدها ، الذي كان فنانا من فناني الشارع ، ولكنه كان يحدب عليها كثيرا ، ويسعى لإرضائها بكل السبل ، حتى أنه اشترى عروسة لها ، شاهدتها في أحد الفاترينات ، بالرغم من فقره .
فيمكن القول إن بنية التقطيع كانت متراوحة في السنوات الأخيرة لإديث ، مع حياتها الفنية ، وكيف أنها خرجت من عالم مطربي الشوارع ؛ هؤلاء الباحثين عن الارتزاق ، وهو ما يذكرنا ببعض الأفلام العربية الميلودرامية ، حيث الفنان فقير على باب الله ، حتى ينال الشهرة فجأة ، على نحو ما نذكر من بعض أفلام محمد فوزي، وفريد الأطرش ، وأنور وجدي وقطقوطة ، فالمطرب مقطوع من شجرة ، أو بلا أسرة، أو هو قادم من الريف ، باحث عن الشهرة ، وينام في الحدائق في أحضان آلته الموسيقية ، والتي تكون " العود " عادة ، حتى تأتيه الشهرة .
هكذا جاء اكتشاف إديث على يد والدها الروحي " لويس لوبليه " ، والذي سمعها تغني على أحد النواصي مع صديقتها ، فأعطاها بعض المال ، مع بطاقته الخاصة وفيها عنوانه ، فلما جاءته كان بوابتها إلى عالم الغناء والشهرة، وبعد مقتله- والذي اتهمت فيه - كان للموسيقار " ريموند أسّو " الفضل في إعادة تقديمها لعالم آخر أكثر رقياً، وهو المسرح، لتقدم معه أجمل أغانيها ، بعدما تعرفت عليه في أحد الحفلات ، وإن ساءت علاقتها به ، بسبب قسوته المفرطة عليها .
وفق بنية التقطيع السينمائي ، مع براعة المونتاج في مزج الصوت بالصورة ؛ كنا نرى المناظر متتابعة ، متضادة في الأزمنة والأمكنة ، وكان مكياجها وملامح وجهها ما بين نضارة الشباب وحيويتها واكتمال صحتها ، وبين تجاعيد الكهولة ، وحركتها البطيئة وهي تتوكأ على الجدران ، وساقاها مقوستان ، وتلك روعة الفيلم ، أنك تتنقل بين اللقطات زمنيا ومكانيا بدون أن تشعر بأية فقدان للاتصال مع الفيلم ، بل بات المتلقي في حالة من المقارنة بين أحوال إديث، حبها وشقائها ، يتابع وقفاتها على المسرح ثابتة ، واختيار أغنياتها ، واسترجاعها لتسكعها في الشوارع ، ثم يرى معيشتها في الفنادق الفخمة . شاهدناها بملابس رثة ، ثم بملابس غالية الثمن. وتلك عبقرية الإخراج والسيناريو ، أن يصل بنا التقطيع إلى حالة من الامتزاج الكامل ، بين مراحل العمر المختلفة ، وننتقل في لحظات بين آلام الحزن ونشوة الفرح .
والغريب أن " إديث " لم تعش خفوت الشهرة ، شأنها شأن النجوم ، أو الاختفاء، بل ظلت متربعة على عرش الشهرة ، ولها ملايين العشاق ، وهي تجيد تقديم أغنيات تشعل القلوب ، وربما يذكرنا قوة صوتها بصوت المطربة اللبنانية " فيروز " ، بل يقال إن من بين أغانيها التي قد تبدو مألوفة للمستمع العربي، تأتي أغنية Les FeuillesMortes ، أوراق الخريف أو “الأوراق الميتة”، والتي شدت فيروز على منوالها أغنيتها المعروفة “بتذكر بالخريف” .
تنقلت إديث في عواطفها ، كانت تحب باندفاع وطفولية ، وتصنع الأغنيات المتناسبة مع كل تجربة عاطفية ، وهي في عنفوان الحب أو بعد انتهائه ، فقد عشقت الملاكم " مارسيل سيردان " رغم أنه كان متزوجاً ولديه أطفال، واندفعت في حبه بكل مشاعرها، بحب منحها القطعة الناقصة في أدائها على المسرح، وهي العاطفة والشعور بكل كلمة، وله غنّت أغنيتها الأشهر " الحياة وردية " التي كتبت كلماتها بنفسها ، وقد حمل الفيلم عنوانها ، وشعرنا بوقعها وجمال كلماتها وإن كنا لا نعرف الفرنسية ، ونقرأ منها : " عندما يأخذني بين ذراعيه .. ، ويهمس في أذني ببعض الكلمات.. ، أري الحياة وردية.. ، عندما يقول لي كلمات الحب.. ، كلمات الحب العادية جداً.. ، تفعل في نفسي شيئاً.. ، أنا له، وهو لي.. طيلة الحياة.. ، هكذا أخبرني..هكذا أقسم لي.. حتى نهاية الحياة " . ومن ثم صدمت بوفاة مارسيل، في حادث طائرة بالجزائر ، وظلت تهذي باسمه في احتضارها .
وقد اشتد هذا الامتزاج في التقطيع في الثلث الأخير من الفيلم ، وكنا في ترقب وقد ساءت حالتها الصحية ، ومع ذلك تمسكت بالظهور على المسرح لتغني ، فطافت بنا اللقطات بين اضطجاعها في فراشها ، ووقفتها تغني على المسرح ، حتى سقطت، وأغلق الستار ، ثم تساندت وعادت للوقوف ثانية ، ولكنها سقطت ، وهي عاجزة عن إمساك مكبر الصوت ، فقد أصيبت بمرض التهاب شديد في المفاصل والعظام . ثم نجدها على شاطئ البحر جالسة تتأمل في رضا.
وكم كانت المفاجأة في نهاية الفيلم ، عندما تسترجع إديث طفلتها الوحيدة التي حملت نفس اسم حبيها "مارسيل " ، ماتت الطفلة وهي بعمر السنتين. بعد إهمال إديث لها في سبيل الغناء الأمر الذي ندمت عليه حتى لحظات احتضارها الأخيرة . وربما يرى البعض أن هذا سقطة في السيناريو ، ولكنني أرى أن الفيلم نص أدبي فني في النهاية ، يحمل رؤية صانعيه ، وربما رأى المخرج وكاتب السيناريو أن إديث أخفت سر وفاة ابنتها ولجأت إلى الحب والشهرة ، وأنها اختزنت الألم ، أو بالأدق هربت منه ، حتى انفجر قلبها وهي تحتضر .
وهي هنا تشابه أمها، فقد أهملت الأم إديث ، وها هي إديث تهمل ابنتها ، إلا أن ألم إديث أشد ، عندما زارت ابنتها في المستشفى ، وأخبرها الطبيب بأنها مصابه بمرض السحايا ، وأنه لا يملك إزاءها شيئا، فانسحبت أو فرت من رؤية الابنة التي تحتضر . ويتملكنا العجب أن إديث كانت تنطق في احتضارها اسم " مارسيل " ، مازجة بين الابنة والحبيب .
وكم كانت أغنية الختام رائعة ، والتي عبرت عن حياة إديث ، تلك التي حملها إليها الشاعر الفرنسي شارل دومون ، وقررت إديث غنائها على مسرح الأوليمبياد الفخم الضخم في باريس ، فقد صرخت عندما سمعت الكلمات : هذا أنا ، تلك حياتي . تقول الأغنية : " لا .. لا شيءَ قَطُّ ! لا .. لستُ نادمةً على شيء! لا الخيرُ الذي قدموه لي ، ولا الإساءات .. ، فكلها .. صارت لديَّ سواء ! لا .. لا شيءَ قَطّ، لا .. لست آسفة على شيء ، قد دُفِعَ الثمن ، ومضى، وصار طيَّ النسيان، وأنا .. سعيدةٌ بماضيَّ .. " .
هذه الأغنية تحمل فلسفة قوامها : سنرضى بكل ما حدث في حياتنا : بؤسا كان أو شقاء ، لأنها ببساطة حدثت وانتهت ، ولا نملك تغييرها ، فعلينا تسليم أمرنا، أما من أساءوا إلينا أو أحسنوا ، فلا ينفع معهم ندم ، وسيكون النسيان سبيلا .
في الفيلم أيضا شاهدنا الحياة في الغرب ، خاصة مع نجوم الفن ، حيث تأخذهم الشهرة وضريبتها بعيدا عن أحبابهم ، أو أنهم يفقدون أحبابهم ، ويعانون الوحدة ، وتتقلب بهم الأحداث ، ولا يجدون سعادة ، ولا زلنا نتذكر نجمة الغناء الفرنسي مصرية الأصل " داليدا"، التي انتحرت ، بعدما شعرت بعبث الحياة ، وعانت الوحدة، وجفاف المشاعر . فهل هذه لعنة تصيب غالبية النجوم ، أو ضريبة يدفعونها ؟