القاهرة 05 ديسمبر 2017 الساعة 01:22 م
جبار ياسين "أنا أكتب بالفرنسية والعربية معا وفقا لأهواء الفكرة،ونكتب دائما كي نقول شيئا للبشر".
حاوره : إبراهيم حمزة
عابس هذا الليل كالأخريات
مسنن ككتابة الأسلاف
لا فائدة من تذكر النهار
لا فائدة من تذكر عطر المرأة التى تنام الآن فى مكان آخر
إنه الليل الأسود
وكل هذا لكَ
أبيات تفيض وجعا واغترابا ، لأديب عربى عانى غربة مزدوجة ، غربة الوطن وغربة الروح ، ، يقول فى مقدمة كتابه " على ضفاف الجنون " أنه " تاه فى باريس عام 1976، وينتظر عودته إلى العراق عام 2054م ورغم سخريته الواضحة ، فالحنين شاغله الأكبر ،
وجبار ياسين، كاتب عراقي، ولد عام 1954 في بغداد، يعيش منذ عام 1976 في فرنسا. صدر له العديد من دواوين الشعر والنثر بالعربية والفرنسية، منها «على ضفاف الجنون»، و»مديح الماضي»، و»أرض النسيان»، و»القارئ البغدادي»، و»وداعاً أيها الطفل».وله مسرحية بعنوان "طريق يونس " صدرت عن هيئة الكتاب فى مصر
كتب بالفرنسية كتابه " على ضفاف الجنون " وترجم ونشر بالعربية ، يقول :
أفضل أعمالي الشعرية هو كتاب "على ضفاف الجنون" الذي صدر بالفرنسية قبل العربية بكثير لأنه يروي تجربة في غاية الذاتية بالنسبة لي هي تجربة الانقطاع عن العالم والعزلة والوصول إلى العمق البعيد لآلام المنفى وآلام الوحدة ومحاولة إعادة خلق واجتراح العالم الذي أريد أن أعيش فيه، كما أنه يمثل أول تجربة شعرية باللغة الفرنسية وشعرت وأنا أكتب أنني متمكن منها نسبيا. ويقول فى هذا الحوار " أحيانا أقرف من اللغة العربية حينما أسمع أو أشاهد وحوش بهيئات بشرية يهددون بالذبح والقتل وتحطيم كل جميل في الحياة .
هل آن للغريب أن يعود ؟
لست مهاجرا بالمعنى الإصطلاحي للكلمة . لم أترك بلادي طلبا للرزق والعمل كي أعود إليها ثريا مثل “ غاتسبي العظيم “ في رواية سكوت فيتزجيرالد . "بل خرجت إلى المنفى ، الذي لا عودة منه هربا من موت محقق في العشرين من عمري . كان عبثا مطلق أن أموت في العشرين فلا شىء يستحق أن يموت المرء من أجله حينما يكون في العشرين . هكذا اخترت المنفى الذي هو وحدة أو قل اجتيازا للصحراء دون ماء وزاد .كان علي البدء من جديد في ترويض المكان والزمان واقتناء لغة للحوار مع أهل البلاد الجديدة . كنت غريبا بين غرباء ولا أدري من كان منا الأشد غربة وغرابة : أهل الغرب أم المشرقي ، أنا ؟ . لم أدخل في دوامة المجتمعات المهاجرة الصغيرة “ الغيتو “ منذ البدء فهي مكان الخصام والانفصام في الشخصية التي نرى نتائجها اليوم في أكثر من جيل من أجيال المهاجرين. هكذا كانت الغربة بالنسبة لي ،وحيث اللغة الجديدة ، الفرنسية في حالتي ، صارت لغة للحوار بيني وبين مجتمع الضيافة الجديد . عشت في حواضر كبرى كباريس وأرياف بعيدة ، في قلب الريف الفرنسي حيث لا أهل ولا وطن كما عبر المتنبي الشاعر. المرء يتطبع “ عادة “ بطباع أهل البلاد . كنت أسأل نفسي دائما : لمن سأكتب ؟ أين هم قرائي ؟ نكتب دائما ، كما تعلم ، كي نقول شيئا للبشر الذين حولنا والأشجار والحيوانات التي تخلق المنظر الذي نحن فيه . التفكير فردي لكن الكلام جماعي . تلك محصلة التجربة . هذه العزلة عن الغيتو قربتني كثيرا من اللغة الفرنسية التي كنت أتحدثها ، أحيانا ، بلهجة الفلاحين الذين حولي . لكني لم انقطع عن العربية قراءة وكتابة .كنت خلال تلك السنوات ، السنوات الأولى أتعلم الفرنسية في النهار واقرأ العربية في الليل كأني أعود في الليل ، خفية عن حرس الحدود ، إلى بلادي.
ــ ومتى لجأت للغة الفرنسية ككاتب ؟
بعد ثمان سنوات من وجودي في فرنسا جربت الكتابة بالفرنسية لأني كنت أشعر بهذه اللغة تدخل في كياني الفكري ، في طريقة تحديدي للمفاهيم ، للجماليات اللفظية ، للشعرية القريبة مني ، شعرية الحياة الواقعية . هكذا بدأت الكتابة بالفرنسية كي أقترب أكثر من المجتمع الذي أنا في أحضانه يوميا ، عملا وعاطفة ، مغامرات حب وانكسارات عقلية وأسئلة. نعم كنت منعزلا عن بلدي الأم تماما واتقصى أخباره عن طريق مسافرين بالصدفة . كان العراق محاطا بطوق حديدي خلال سنوات السبعينات والثمانينات قبل أن يصبح في قلب الأحداث في التسعينات لأسباب معروفة : الحروب وليس الحضارة .
وفرت لي الكتابة بالفرنسية جمهورا أوسع مما لو كنت أكتب بالعربية . فبعد نشر كل كتاب لي كنت أشعر بجدوى انغماري باللغة الجديدة “ ليست اللغة الأم التي بيني وبينها عقد أوديب كلها بل لغة الأب الجديد الذي كأنه عاد من غيبة بعد أن بلغت العشرين من عمري “ هكذا وبسهولة نسبية وجدت أني مقروء بالفرنسية ثم عبر الترجمات بالإيطالية ثم الأسبانية ثم لغات أخرى تجاوزت العشرة لغات . حيثما أسافر للقاءات أدبية في الهند أو أمريكا اللاتينية
عوضا عن أوربا كنت أجد قراءً هم بمثابة أصدقاء جدد .
ـــ وهل المردود النقدى والقرائى يرضيك ؟
النقد الصحفي والأدبي المحض والدراسات الجامعية أكثر نشاطا مما مألوف في عالمنا العربي . كل هذا يوسع الجمهور ويجعل” بالنسبة لي “ عملي الأدبي أكثر جدوى ، فاعلا بطريقة وأخرى في المجتمع . اليوم لا أنظر للعمل الأدبي كمجهود في لغة محددة لمجتمع محدد بل هو جهد موجه للأنسانية كلها . مشاكل البشر في كل مكان من أدغال افريقيا والأمازون حتى نييورك و باريس والقاهرة هي نفسها . العذابات ذاتها ، التساؤلات ذاتها : الموت والحب والمرض وفعل الزمن وهو يتقدم ليجعل الطفل شيخا .منذ بدايته والأدب يتساءل عن نفس المشكلات التي لا أجوبة مطلقة ومرضية لها . حسب تساؤلات تختصر عذابات المصائر البشرية .هكذا فالجمهور هو ذاته إن كان فرنسيا أو المانيا أو عربيا . نحن نقرأ همنغواي أو ماركيز أو تولستوي أو اليابانى يوكيوميشيما ونشعر أننا أبطال رواياتهم ، اللغة ستارة خفيفية تكاد تلغيها الترجمة في حالة الأعمال الأدبية . خلاصة أني أكتب بالفرنسية والعربية معا وفقا لأهواء الفكرة . أي كيف تأتي الفكرة . ثمة حين تأتي فرنسيا وآخر عربيا . لكني أعترف أني ، يوما بعد يوم ، ميال للفرنسية لأسباب واقعية . لاقراء بالعربية .
ــ ولماذا الميل للفرنسية الآن ؟
القراءة تختفي من عالمنا العربي لصالح المشاهد التلفزيونية . اللغة العربية تفقد جمالياتها بسبب الممنوعات والمقدسات معا . يوما إثر آخر تقدس اللغة العربية وكل مقدس ثابت ليس بسبب النحويين بل بسبب دعاة المقدس . الذين وصل الأمر بهم لإلغاء مفردات .نشرت نصوصا في منشورات عربية وجدت فيما بعد أنهم حذفوا بعض المفردات من نمط ملائكة أو أرباب أو نهود والخ . ليس في اللغة حياء كما في الدين . الحياء في السلوك ، في الأخلاق . واللغة ليست منظومة أخلاقية .أحيانا أقرف من اللغة العربية حينما أسمع أو أشاهد وحوش بهيئات بشرية يهددون بالذبح والقتل وتحطيم كل جميل في الحياة . أتساءل مع نفسي : كيف أستطيع أن أشارك هؤلاء اللغة ذاتها ؟ التطرف الفكري يبعدنا أيضا عن اللغة التي كتب أو قيل فيها هذا الفكر . اللغة الألمانية مازالت تعاني من هذا، بسبب بشاعات النازية ، رغم عظمتها كلغة لفلاسفة عظام ؟ آمل ألا تصل العربية إلى هذا الحضيض بسبب هيمنة التفكير المتطرف . لكني وعلى صعيد شخصي بحت ، لا أشعر بالتمزق بسبب ازدواج اللغة فأنا واحد لكن بقطبين لغويين . هل هذا ثراء أم نقص ؟ لا أدري. لكني أكثر توازنا بهذه القطبية .
ــ هل تسعى لإزالة الحواجز مع قارئك الفرنسى أم تقوى ارتباطك بقارئك العربى ؟
اللغة اختيار يأتي ضمن تجربة وفي التجربة هناك الإرادة أيضا . في اختيار اللغة تأتي أسباب كثيرة . اليوم ، في عصر الهجرات الكبيرة التي تفوق في تأثيرها هجرات الساميين والهكسوس في العصور القديمة ، تأتي اللغة كعامل في إزالة الحواجز بين البشر. في القرون الثلاثة الأخيرة هاجر ثلث البشرية بسبب الثورة الصناعية التي نقلت الناس من الأرياف إلى المدينة وبسبب الحروب وبسبب عمليات إعادة صنع الدول “ التجربة السوفيتية مثالا حيث نقلت شعوب بأكملها إلى بقاع جديدة صارت أوطانا لهم . اليوم يتم الأمر نفسه في سوريا والعراق وبعض البلدان الإفريقية إضافة للهجرات الاقتصادية نحو أوربا والولايات المتحدة واستراليا وكندا . البشر يبحثون عن استمرار وتحسين أوضاعهم إنسانيا وذلك أمر مشروع تماما . لكن هذه الهجرات تختلف حسب الثقافات .في الثقافة العربية ، وكما أسلفت ، فإن العلاقة باللغة العربية حالة نادرة أصلها قدسية هذه اللغة ، فهي لغة اليومي والمقدس معا .كما أن التماهي مع لغة جديدة أمر معقد وغالبا ما يرتبط بالشخصية وتركيبتها .في أوائل القرن العشرين لدينا كتاب كبار في أوربا المسيحية - اللاتينية كتبوا بلغة هي ليست لغتهم الأم . جوزيف كونراد ، صاحب أهم روايات القرن العشرين كان بولونيا كتب أعماله بالأنجليزية .”رواية قلب الظلام مازال عملا معاصرا”، رغم أنه ظل حتى موته يتحدثها بلكنة بولونية . هناك جيل من كتاب رومانيا الذين هاجروا لفرنسا في الثلاثينات وكتبوا بالفرنسية مثل أوجين يونسكو وميرسيا الياد وجورجيو صاحب رواية الساعة الخامسة والعشرون .هناك الأيراندي صاحب نوبل صموئييل بيكت ، مسرحي العبث الأكثر شهرة كان يكتب بالفرنسية ويعيد الكتابة بالأنجليزية .هناك الجيل الجزائري المهم من محمد ديب ومولود فرعون وآسيا جبار ومالك علولة وجمال الدين بن شيخ الذين كتبوا بلغة المستعمر الفرنسي أو بلغة منفاهم كما عبر مولود فرعون ، أو بلغة الغنيمة كما عبرت آسيا جبار . هناك بعض المغاربة الذين كتبوا ، وتلك هي المفارقة ، بالفرنسية بعد استقلال المغرب مثل إدريس شرايبي والطاهر بن جلون وعبد اللطيف اللعبي وعبد الحق سرحان. هناك مصريون مثل جلبير سنويه وألبير قصيري كتبوا بالفرنسية باختيارات العيش في هذه البلاد ولن ننسى تجربة عبد التونسي عبد الوهاب المؤدب ..
ــ ولكن هل للكاتب العربى وجود فاعل فى فرنسا ؟
لو نظرت إلى حائزي الجوائز الأدبية الكبرى في فرنسا خلال العقدين الأخيرين لوجدت أن ثلثهم من أصول أجنبية، روسية ويونانية وأسبانية وإيطالية وعربية وسلافية . المسألة تبقى مسألة اختيار و أحيانا تنحتها التجربة الشخصية للكاتب. كل شىء مشروع في الأدب ، فالأخير ليس نظاما دينيا مقدس أو أيدلوجية غير قابلة للنقاش . الأدب هو الفضاء الأكثر اتساعا وحرية واللغة فيه مسألة جمالية وفي الجماليات ليس هناك مقاييس ثابتة كما في النحت اليوناني والمصري وجماليات الواقعية الأشتراكية التي لم يبق منها إلا من تمردوا عليها . . . . .