القاهرة 05 ديسمبر 2017 الساعة 12:37 م
بقلم: د. بوزيد الغلى
قد تصمت المدافع ، وتحين ساعة السلام، لكن هل يتوقف بذلك النزيف؟ . نزيف ضحايا مخلفات الحرب . لا أعني الجرحى و المعطوبين و الأرامل و الأيتام فحسب ، بل أعني الضحايا المحتملين الذين لم يخض أغلبهم الحرب، ولم يشهد زفيرها حين تشهق وترمي شهبا وقنابل قاتلة . أولئك الذين قد يقودهم
الحظ العاثر إلى الحتف إذا وطئوا أرض الحرب بعد أن وضعت أوزارها ، فتتطاير أشلاؤهم بانفجار لغم نائم في بطن الثرى.
لقد انتقل القلق من تزايد ضحايا الألغام بالصحراء التي شهدت حرباً ضروساً بين المغرب و البوليساريو امتدت من أواسط السبعينات إلى أوائل التسعينات من القرن الماضي من حديث العامة و قصاصات الأنباء إلى عالم السرد و التخييل . فقد اختارت الروائية البتول المحجوب لروايتها الصادرة عن دار فضاءات بالأردن 2016 عنواناً يختزل مأساة الضحايا و كلفة مخلفات الحرب التي جعلت الصحراء " مكاناً ملغوما"، و الصحراء بامتدادها الرحيب فضاء يضم أمكنة كثيرة تتهدد ساكينها و زائريها الألغام الثاوية في ثراها ..
وتكمن أهمية رواية " أماكن ملغومة " في ارتباطها بالمرجع الحي أي المعيش، فهي تتضمن إحالات واقعية تتصل بضحايا الألغام في الطنطان وأسا والسمارة وغيرها من مدن الصحراء التي وصفت حالها "مريم" قائلة : " تئن مدن الصحراء من شمالها لجنوبها من وجع الألغام ... الضحايا في تزايد مرعب ... حرب الألغام تحصد أرواح أبناء الأرض السمراء ، و نصرخ فيها :
كفانا دما ودماراً ..كفانا ألغاما ...نريد حبا ، نريد سلاما " .
إنها الصرخة ذاتها التي سالت على لسان "خوسيه "بلغة إسبانية لذيذة الكلمات" ، تفجر الرغبة في الغناء في معرض الحاجة إلى البكاء على حال خوسيه أو يوسف الإسباني ؛ذي الأب الصحراوي حصيد لغم أرضي؛ الذي عشق مريم التي فقدت ذراعها أيضا بسبب لغم:
Basta ! basta !
Basta de minas anti personas , queremos amor,queremos paz
Basta de minas
لقد أضحى خوسيه الذي انخرط ومريم في حب عفيف، مدافعاً عن ضحايا الألغام ، واجتاب مسافات نحو إفريقيا، كي يشارك في مؤتمر يعقد لدراسة
المشكل العويص، أما مريم، فلم يتسرد دمعها حزنا على البدوي الذي طار لغم برجله ، وأودى بناقته ، و إنما اهتاجتها الرغبة في الغناء الحزين :
" " يا حادي العيس
سلم لي على أمي
واحكي لها ما جرى و اشكيلها على همي
وما هم يا أم أن يقتلوني
و أن يزرعوني على جذع كفيك كالبيرق المستحيل" .
لقد داخل المتنَ الروائي هذا المقطعُ الذي يطفح بروح التحدي رغم مسحة الحزن الذي تجلله ، و اندمج في بنية النص ، فأصبح من سَدى نسيجه . ويسوغ القول، إن توظيفه في هذا السياق، ليس سوى امتصاص للمعاني التي يطفح بها المقطع ، وتخدم غاية الناصّ Textorالذي يبتغيا تظهير روح مقاومة الألم والوجع الناشئ من بتر "القدم التي بقيت هناك" .
وفي سياق الرغبة في البكاء على حال "الأندلس التي ترملت (...) قبل الأوان "، كما ترملت أم خوسيه إثر مقتل زوجها بعد انفجار سيارته بلغم بالصحراء ، يعلل خوسيه فؤاده المكلوم بتشبيه الأندلس بولادة بنت المستكفي ، (و هي ) تنتظر شاعرها العاشق أن يطل قادما لمسح الدمع المتدفق على خدها الشاحب من طول الانتظار "، كما يمسح هو ، دموع مريم ، إذ" ، أدار موسيقى حسانية ، سبق أن أهدته إياها ذات ميلاد ...، يود أن يثير شجنها بصوت شجي النغمات ، يذكر المتلقي ذو الإطلاع اليسير على الموسيقى الحسانية بالأشوار الحزينة مثل قول الأديب الكبير أحمد سالم ولد بوبوط:
نعرف بعد أني ما انســيت == َ من لحباب الكَط ريــت
هون أراعيني هون جـــيت == أسكي تصريف الناشـي
إن التوتر السردي يبلغ مداه في الرواية عندما يصر "خوسيه" على استنهاض الضمير العالمي في مؤتمر بدولة إفريقية ، كي تتنقل قضية الألغام من
إطارها الشخصي ، باعتباره ومريم من ضحايا الألغام، إلى قضية إنسانية يناضل لأجلها كل حراس الضمير الإنساني عبر العالم.
و في انتظار صبح ينسل من غمد الليل اليهيم، يسفر عن انتهاء مشكل الألغام انتهاء باتاً، ويتوقف صنعها، ويتم تجريم ترويجها، تظل مريم تحلم بعودة فارس أحلامها " خوسيه" من سفره الطويل بين العواصم، كي ينتصرا معا للحياة والحب نكاية بسير صناع الموت والدمار .