القاهرة 05 ديسمبر 2017 الساعة 09:59 ص
إن مصطلح الموجة الجديدة فى السينما الأمريكية ، قد استخدم للإشارة إلى ثلاثة أجيال من صناع الفيلم الأمريكيين ،و كان أول ظهور للموجة الجديدة من السينما الأمريكية فى نيويورك فى الخمسينيات من القرن العشرين، حيث كان فكر المجتمع الأمريكى قد تخلص من أجواء الثلاثينيات الرومانسية، و إتجه إلى الواقعية. بينما كان الظهور الثانى لتيار الموجة الجديدة، و الذى سمى بالجيل الجديد فى هوليوود فى نهاية الستينيات، و الذى حمل معه تياراً من الثقافة المضادة ،ومجموعة من القيم، أفرزتها الثقافة الفرنسية فى إتجاه مشابه سمى "بالموجة الفرنسية الجديدة " .
ثم تلى ذلك فى نهاية الثمانينيات و التسعينيات، من نفس القرن جيل جديد من صناع السينما، أرادوا التحرر من سيطرة الإستوديوهات الكبيرة مثل " يونيفرسال ، و مترو جولدن ماير ، و غيرها ،و التى كانت تفرض شروطها التجارية على الفن السينمائى، لذلك تلاقت رغبات عدد من صناع السينما، فى فكرة التعاطى مع الفن السينمائى بصورة منفصلة عن صناعة الترفيه ،التى كانت تسيطر على شركات الإنتاج الضخمة، التى كانت تسعى لتعظيم أرباحها .
لم تكن الموجة الجديدة من صناع السينما فى الخمسينيات، هم الوحيدون الذين فكروا فى التحرر من سيطرة شركات الإنتاج العملاقة، بل سبقهم عدد من صناع السينما فى العشرينيات حين أسس أربعة من أقطاب السينما الصامتة شركة " UNITED ARTESTS " و هم شارلى شابلن – مارى بيكفورد – دوجلاس فيربانكس – ديفيد جريفث " و قد قام هؤلاء الأربعة بتمثيل و إخراج أعمالهم، فيماعدا ديفيد جرفيث و الذى تخصص فى الإخراج ، و قد أتاحت هذه الشركة لأصحابها التحكم الكامل فيما يقدمونه من أعمال سينمائية بعيدا عن تجارية الفكرة، و تغليب صناعة الترفيه على الفن السينمائى .
لذلك فقد كانت الموجة الجديدة تحمل فى طياتها فكرة التحرر بصفة عامة ،سواء من القوالب الفنية الجامدة، التى سيطرت على أفكار صناع السينما فى الأربعين سنة التى شهدت تطور السينما ،و أيضا فكرة التحرر من سيطرة شركات الإنتاج الضخمة ،التى كانت تنظر إلى السينما على أنها صناعة ترفيه بدون الاهتمام الكبير بالمحتوى الفنى .
و قد بدأ تحرر الفيلم الأمريكى من سيطرة شركات الإنتاج الضخمة، بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة ،حيث ظهر كيان قوى سمى اتحاد صناع السينما المستقلين حد من سيطرة شركات الإنتاج الكبيرة ،على عملية عرض و توزيع الأفلام، كما كان ظهور الكاميرات المحمولة ،سببا فى انخفاض كبير لتكلفة التصوير، الأمر الذى ساعد صغار المنتجين على الصمود فى وجه المنافسة القوية للشركات الكبيرة .
و من أهم الأفلام التى بدأت بها الموجة الجديدة، فيلم " الهارب الصغير " عام 1953 ،و الذى يروى قصة الطفل "جوى" ذو السبع سنوات و الذى يلهو مع أخيه و أصدقائه ببندقية من لعب الأطفال، و يوهمه أصدقاء أخيه أن بالبندقية رصاصة حقيقية ،و يجعلونه يطلق البندقية و يمثل أخيه أنه مات، و يسقط الطفل الصغير ضحية تمثيلية محبوكة من أخيه و أصدقائه ،الذين يوهمونه أنه قتل أخيه ، و يهرب جوى من المنزل، إلى أحد المنتجعات السياحية على شاطئ البحر، خوفا من فعلته، و لكنه سرعان ما ينسى مشكلته ،و ينصرف بكل نهم و حب استطلاع الطفولة إلى اكتشاف ما حوله ، واللعب بكل ما تصل إليه يداه.
و يبدأ أخاه فى البحث عنه حتى يجده فى النهاية . الفيلم بطولة الطفل " ريتشى أندروسكو" و قام بإخراج و كتابة السيناريو الثلاثى " راى أشلى" و هو كاتب و منتج أمريكى اشتهر باهتمامه بسينما الطفل ،حيث أنتج و اشترك فى كتابة " الهارب الصغير"، و قام بإنتاج سلسلة من حلقات الخيال العلمى للأطفال .
"انجيل نوريس " و هو الحلقة الأهم فى ثلاثى فيلم الهارب الصغير، و الذى يجب أن نتوقف عنده ، فانجيل نوريس هو الشخص الذى أقدم على مغامرة استخدام الكاميرا المحمولة فى تصوير الأفلام ، الأمر الذى يخشى الإقدام عليه كثير من المصورين فى ذلك الوقت، الذين كانوا يستخدمون الكاميرا الثابتة، و التى كانت أكثر تكلفة، و لكنها كانت من وجهة نظر المصورين و المخرجين تضمن الحصول على صورة ثابتة و نقية إلى حد كبير ، و لكن أنجيل نوريس لم يقنع بتلك المغامرة الوحيدة، فانتقل إلى مستوى أعلى من المخاطرة، ألا و هى استخدام نجوم مغمورين لا يتمتعون بجماهيرية كأبطال لأفلامه، و أوضح دليل على ذلك استخدامه طفل لم يبلغ العاشرة من عمره، كبطل لفيلمه الذى ترشح لجائزة أوسكار أحسن سيناريو ، كما حصل على جائزة " الأسد الفضى" فى مهرجان فينيسيا السينمائى الدولى عام 1953 .
الشخصية الثالثة التى شاركت فى إخراج الفيلم و هى المصورة الصحفية "روث اوريكن " و هى مشهورة بتصويرها لمشاهير هوليوود فى فترة الخمسينيات، مثل ألفريد هيتشكوك كاتب و مخرج أفلام الرعب المعروف، و من أشهر أفلامه " الطيور " . و مارلون براندو الممثل السينمائى الشهير،و الكاتب الأمريكى الشهير تينسى وليامز ، الممثلة الكوميدية دوريس داى، و غيرهم من مشاهير هوليوود .
فى الحقيقة عندما نشاهد الفيلم، لا نستطيع مقارنته بأفلام هوليوود فى تلك الفترة، و لا نستطيع تصنيفه ، ضمن أنماط هوليوود المعروفة فى ذلك الوقت ، الرومانسية ، أو المغامرات ، أو ما سمى بالفيلم "نوار" و هو نوعية من الأفلام انتشرت خلال الحرب العالمية الثانية ،و ما بعدها و هى تدور حول العصابات و الإجرام ، أو أفلام الرعب أو غيرها من الأنماط السينمائية الثابتة ،و المعروف جماهيريتها و نسب الإقبال عليها من الجمهور الأمريكى و الأوروبى ، و لربما كانت أى شركة إنتاج كبيرة مثل بارامونت أو فوكس، لترفض إنتاج مثل هذا الفيلم ، فهو نمط جديد غير براق ، يختفى منه تماما عنصر الإبهار ، و التشويق ، و هو يخلو من الرومانسية ، و من الاستعراضات ، فماذا بعد يمكن أن يجذب المشاهد إليه !
كانت تلك هى المعضلة التى واجهها الفيلم، و رغم النجاح الفنى الذى لاقاه الفيلم على مستوى النقاد و المهرجانات ، إلا أنه كان ليرسب فى اختبار شباك التذاكر ، فهو فى مجال صناعة الترفيه ،لا يلبى احتياج المشاهد الذى يدخل إلى السينما حاملا علبة ضخمة من الفيشار ، ممنيا نفسه بمشهد يخطف الأنفاس ، أو لقطة رومانسية دافئة ، و لكنه كان فى الحقيقة فيلما لإمتاع العقل و ليس للترفيه .
فالفيلم الذى تأثر بالموجة الفرنسية الجديدة، و التى عمدت إلى الخروج من نطاق كل ما هو تقليدى، و تحطيم التابوهات القديمة فى المجتمع، أيا كانت درجة أهميتها ، تأثر أيضا بالنطاق الإنسانى، الذى فرضه كتاب هذه الموجة ،التى عمدت إلى التركيز على الشخصية و ليس الحدث ، و هو كما قلنا يخرج الفيلم من نطاق التشويق و الإثارة، و يدخل به إلى نطاق التفكير و تحليل العمق الإنسانى، الذى يتناوله الفيلم .
و هو ما يعود بنا إلى السينما المصرية ،و التى لابد أن تكون قد تأثرت بهذه الموجة نظرا لمسيرتها فى طليعة موكب السينما العالمية ، و مواكبتها لأحدث التغيرات التى تظهر فيه ، و هو مع الأسف مع الألم " كما يقول الفنان عبد السلام النابلسى " ما لا يحدث الاَن ، فقد واكبت السينما المصرية كل الاتجاهات الفكرية و الفنية التى ظهرت منذ بدايتها، و حتى نهاية السبعينيات من القرن الماضى ، فنرى مثالا مصريا على الموجة الفرنسية الجديدة ،و هو فيلم دعاء الكروان عن قصة عميد الأدب العربى الدكتور "طه حسين" الذى درس الدكتوراه فى فرنسا و تعرض للثقافة الفرنسية ، و الفيلم بطولة فاتن حمامة، و من إخراج بركات ، ففيلم دعاء الكروان أيضا يتعرض للعمق الإنسانى لشخصية آمنة، و هو أيضا تم ترشيحه لمهرجان برلين عام 1952 .و هو ما يواكب ظهور الموجة الفرنسية الجديدة .
و نعود إلى فيلم " الهارب الصغير " فنراه يتعرض أيضا للعمق الإنسانى لطفل يتعرض لموجة من الذعر، عندما يظن أنه قتل أخيه فيهرب ، و لكنه ليس ككل الهاربين خائف مذعور ، بل على العكس فهو ينسى خوفه و إحساسه بالذنب منقادا إلى براءة الطفولة، و عفويتها ،و يبدأ فى اللعب و اكتشاف ما حوله، و قد نسى تماما فكرة قتل أخيه .
و تتملكه المناظر من حوله من أناس يسبحون، و أطفال يلعبون فيشاركهم اللعب، و هو يقف أمام كل مايراه متأملا فى فضول ، حتى يأتى أخاه و يجده، و هو عندما يلقاه لا يصب غضبه عليه، كما لو كان شخصا راشدا تعرض لمقلب سخيف، و لكنه يعاتبه فى بساطة و براءة، و يعطيه الهارمونيكا التى تخصه، و التى كان يحملها معه عند هربه، و كنوع من أنواع التعويض يطلب منه أخاه الذى لا يكبره كثيرا بأن يحتفظ بها .
لذا فالفيلم يمكن أن يصنف ضمن سينما الطفل، فأبطاله أطفال والكتابة له و تصويره أيضا، جاءت فى هذا النطاق، فالمشاهد تنساب بسلاسة و لغة سينمائية ناعمة ،فالطفل على الرغم من قوة انفعلاته و ردود أفعاله، إلا أنه يعيش فى عالم خيالى أثيرى ، لا مكان فيه للشر و الكراهية .كان ذلك استعراضا موجزا لأحد الاتجاهات السينمائية العديدة، التى ظهرت فى عاصمة السينما العالمية هوليوود و التى أثرت فى الفكر السينمائى الحديث، و أدت إلى ظهور ما يسمى بأفلام المهرجانات، و التى تتخلى عن تجارية الفكرة و صناعة الترفيه، فى سبيل خلق أفلام تتسم بالتركيز على الجانب الإنسانى ،و تتعرض للإنسان بلقطة قريبة، و ليس بانورامية ،فهى تتمحور حول قلبه و ليس ملابسه .