القاهرة 01 ديسمبر 2017 الساعة 02:08 م
بقلم : د. هبة سعد الدين
لقد صاحبت مسيرة الفنانة الراحلة شادية الغنائية أخرى سينمائية تجاوزت المائة والعشرة أفلام ، شكلت الكثير منها علامات خاصة فى تاريخ السينما المصرية ؛ لكن مشاركتها فى روايات الأديب العالمى نجيب محفوظ فارقة فى اختياراتها وأدائها ، فقد كان "اللص والكلاب"(كمال الشيخ/ 1962) ،“زقاق المدق” (حسن الامام /1963)، “الطريق” (حسام الدين مصطفى/ 1964) ، “ميرامار” (كمال الشيخ/1969) لايمثلون ثلاثة مخرجين وأربع روايات فحسب، فكل منهم علامة فى عالم محفوظ الروائى ومساحة من التفرد ذات الثراء.
فعلى الرغم من السمة الواقعية للروايات استطاعت شادية كممثلة أن تتلمس الرؤى الفلسفية مابين سطور الروايات ، وذلك ماجعل محفوظ يقول عنها "شادية أكثر الفنانات اللاتي نجحن في تقديم روح الشخصيات التي كتبتها في الروايات على الشاشة الكبيرة ، فهى ممثلة عالية القدرة وقد استطاعت أن تعطى سطورى فى رواياتى لحما ودما وشكلا مميزا لا أجد مايفوقه فى نقل الصورة من البنيان الأدبى إلى الشكل السينمائى".
*الستينيات وماأدراك
لم يكن ثراء الستينيات الإبداعى وحده الملمح الأساسى الذى يجمع بين تلك الأعمال ؛ بل كان اسم كل مخرج يمثل دلالة خاصة وبصمة واضحة لاتخطئها العين ، ومن الواضح أن شادية اختارت ألا تُحاصر سينمائياً فى دور "الدلوعة" ؛ مما جعلها تواجه نفسها فى تحدٍ لتبدأ مرحلة من الاختيارات الصادمة والمبهرة معاً لجمهورها الذى اعتادها مرحة ضاحكة مبتسمة تشدو باغنيات تتلاءم عادة وتلك الحالة ؛ وكانت البداية منذ عام 1959 بصدمة اختيارها لفيلم "المرأة المجهولة" الذى يعد انتقاله فى الاختيار ونضج الأداء تبعه سلسلة من الاختيارات التى يمثل كل منها تحدٍ خاص .
وقد يكون ذلك تدريب للسباق التى ستُقدم عليه من خلال اختياراتها لأعمال نجيب محفوظ بدءً برائعة "اللص والكلاب" ليحفزها النجاح على الاستمرار وخوض المزيد من التحديات فى عالم الواقع الذى يصاحبه عادةً رؤية فلسفية أعمق بدأت بتلك المسافة مابين عالم "اللص" الذى عادةً ماتحاصره "الكلاب" .
ومما يؤكد صعوبة الانتقال لهذه العوالم الاستثنائية ؛ التردد تم تناقله حول اختيار شادية لدور "نور" ثم الانبهار بأدائها والتصفيق للأبعاد التى منحتها لها ، وكأنها أرادت أن تؤكد للجميع خطأ رأيهم ، وأنه يمكنها الانتقال من تلك الغرفة الضيقة التى تم حبسها فيها سنوات .
وبعد عام يأتى "زقاق المدق" حاملاً معه "حميدة" إلى آفاق أخرى أكثر رحابة من حيث الأداء ، و عام آخر يدفعها نحو "الطريق" بالمزيد من جوانب الغواية ذات السحر الخاص الذى استطاعت شادية أو "كريمة" أن تجسد مشاعره باحتراف ، ولتُنهى دائرة الستينيات بميرامار حيث المزيد من المخاطر والسير على طريق المستقبل الذى يحيطه كثيرون يريدون النيل من "زهرة" التى تدرك كل ذلك وتستمر فى المسير .
*كلهن شعبيات
يحيط بكلمة "شعبى" الكثير من الدلالات ، ويستطيع كل منا أن يصبغها بما يريد ، ولكن بصورة عامة يمكن أن ترتبط تلك الكلمة / المصطلح بعالم الفقر والتهميش الذى قد يراه البعض مجرد صور متشابهة ، فما الذى يجعل فتاة الليل تختلف عن المرأة المتزوجة اللعوب ؟
وما الاختلاف بين المتمردة على واقعها بحثاً عن الثراء خارج زقاق "العدم" عمن تحيط تمردها بالسير فى طريق العلم والعمل ؟؟!!
كلهن محاصرات بالفقر وضغوطه وبهن مساحات الجمال التى تغرى بالسير نحو الأبواب المغلقة وطرْقها مهما تكلف الثمن ، لكن ذلك "الفقر" لم يشبه بعضه بعضا ؛ رغم أنه لايعنى سوى قلة المال !!
لقد شكل ذلك التشابه مساحات الاختلاف ، فعلى الرغم من تكرار مشاهد الحوارى والمقاهى وقلة ذات اليد التى تحيط بكل منهن ؛ إلا أنهن اختلفن فى كل مايتعلق بسماتهن "الشعبية" ،ولذلك كشفت شادية التحديات الانسانية داخلهم فأمكنها التحليق فى سمائهن المختلفة .
*لحم ودم
من السهل أن ترتدى ثوب الإغراء ؛ لكن من الصعب أن تدرك مواطن انسانيته .
هكذا استطاعت "شادية" أن تصل إلى عمق بطلات نجيب محفوظ لأنها تلمست جوانب الحياة التى تتناسب مع واقع كل منهن ، ففتاة الليل تظل على عطائها واللعوب أو المتمردة تدفع ثمن اختيارها و كذلك الباحثة عن ضوء النهار .
لم تكن واقعية البطلات ذات وجوه معلبة تمزج بين الأبيض والأسود معاً ؛ فهن بطلات "الرمادى" باقتدار وذلك مايشكل "صعوبة" الامساك بكل منهن ، لذلك قد تخفى فتاة الليل التى ساقتها الأقدار ملامحها بمساحيق التجميل وتتواجد حيث "الظلام" على الرغم مما تحمله من "نور" .
ولو لم تجد "شادية" ذلك النور لما انبهر بأدائها نجيب محفوظ وقال "لقد كنت أشعر بكل خلجة من خلجات حميدة متجسدة أمامي، على الرغم من تخوفي الشديد من قدرتها على تجسيد الدور عند ترشيحها له".
ولو لم تدرك المسافة مابين فتاة الليل واللعوب الباحثة عن المتعة والمال لما استطاعت أن تلمس الفرق بين تمرد "حميدة" الباحث عن الثراء السريع و "زهرة" السائرة نحو الغد .
لقد بحثت شادية فى تلك البطلات عن بريق الرؤية نحو الروح ، فادركت الاختلاف مابين الغوايات والتمردات ، وقد وجدت ضالتها فاستطاعت أن تجسد كل منهن على الشاشة ببعض روحها واحساسها ، وتركت بصمتها حتى تلاشت ولم نعد نتذكر سوى نور وحميدة وكريمة وزهرة
ة .