القاهرة 28 نوفمبر 2017 الساعة 10:11 ص
بقلم:د/هناء زيادة
في الثاني من شهر سبتمبر الماضي، توفى الموسيقار المصري ـ الأمريكي "حليم الضبع" في منزله في كينت بولاية أوهايو الأمريكية، عن عمرٍ يناهز الـ 96 ربيعاً، رحل في صمت بعد أن ضجت الحياة بألحانه، في رحلة استمرت على مدار 6 عقود، لم يحظ الموسيقار "حليم عبدالمسيح الضبع" ،وهو المولود بحي السكاكيني بالقاهرة في 1921م، بالتقدير الكافي والإهتمام الملائم بالصحف العربية والمصرية إبان حياته فقط وعلى استحياء انتشر خبر وفاته مختصراً بين صحفنا المصرية، ولعل هذا المقال الذي تنشره مجلة مصر المحروسة الآن هو تذكير بسيط بهذا الموسيقار الكبير واعتزاز بأعماله وتاريخه.
"حليم عبدالمسيح الضبع"، هكذا هو اسمه، الابن الأصغر لعائلة قبطية ميسورة الحال كانت قد قدمت من محافظة أسيوط إلى العاصمة القاهرة قبل ولادته، درس حليم في جامعة فؤاد الأول (التي أصبحت اليوم هى جامعة القاهرة)، حيث إلتحق بكلية الزراعة، سائراً على خطى والده المهنية حيث كان مزارعاً، تخرج عام 1945م بشهادة في الهندسة الزراعية، لكن بعيداً عن مجاله الدراسي كان حليم يدرس ويؤلف الموسيقى التي إغتوى بها، فدرس الموسيقى الغربية بما في ذلك البيانو، في مقابلة أجريت معه عام 2016م، يقول حليم: "تعلمت من خلال الزراعة كيفية خلق ضوضاء، كان لدي شعور بأن الضجيج سيجعل الحشرات تُحبَط ، وسوف تبقى بعيداً عن النباتات"، إذ قد جمع حليم عقب تخرجه بين الوظيفة في مجال الزراعة وكذلك التأليف الموسيقي، سافر إلى قرى مصرية نائية للمساعدة في التنمية الزراعية، وفي تلك الأثناء كان يراقب ويتعلم الموسيقى التقليدية والرقص التراثي من كل مكان يزوره.
في عام 194م في القاهرة، ألف وعزف "حليم" قطعة للبيانو بعنوان "في الجبهة ظلمةٌ واكتئاب"، وقد حضر الحفل مسؤول من الملحقية الثقافية الأمريكية، وقد أعجبه أداء حليم بشدة، فما كان منه إلا أن وجّه دعوة لحليم كي يحضر إلى مكتبه في اليوم التالي، وهناك قدر له عرضاً بمنحة للدراسة في أي جامعة أمريكية سيختارها، وفي العام 1950م استقر حليم في الولايات المتحدة، في تلك السنوات كان هناك صدى قوي على الساحل الشرقي للولايات المتحدة لموسيقى جديدة، كان أبرز روادها الملحنين "أوتو لوينغ" و "ألان هوفهانيس"، لكن الموسيقى التي أبدعها حليم كانت على خلاف أي موسيقى ألفها أي شخص آخر، فقد شملت معالم أسلوبه في تجزئة اللحن ، وطبقات صوتية غنية بالغناء جنباً إلى جنب مع تنافر حكيم وموزون. يُطلق عليه البعض
"التعقيد الإيقاعي"، أجهزة غير عادية مع استخدام لألحان من الموسيقى المصرية، وأفريقيا وخاصة من منطقة جنوب الصحراء الكبرى.
يعدً "حليم الضبع" عالم وباحث في الموسيقى العرقية أو ما يُعرف بموسيقى الشعوب، ويميزه إسلوبه الخاص في الموسيقى الإلكترونية، وقد قام بتأليف مئات القطع الموسيقية والسيمفونيات والأوبرات، كما ألف العديد من الباليهات، وكونشرتوات والأعمال أوركسترالية، بتركيبات جمعت الألحان الغربية مع نظيرتها الشرقية، ولعل مقطوعته الأكثر شهرة "كليتمنسترا"، وهي واحدة من أربعة معزوفات رئيسية
لرقصات باليه قد كلفته بها راقصة الباليه الأمريكية الشهيرة ومصممة الرقصات "مارثا غراهام" والتي تُلقب بـ "بيكاسو الرقص" حول العالم، وتمتد أكثر من ساعتين وبها إعادة صياغة للمأساة اليونانية الأسطورية من القتل والقصاص، قام بتصميم المناظر الطبيعية من قبل النحات "إيسامو نوغوتشي"، وكان العرض الأول في عام 1958م في مسرح أديلفي في وسط مانهاتن، موسيقى "حليم الضبع" شكّلت فتحاً جديداً في ميادين شتّى من فنون الأداء، كما نظم حليم العديد من الرحلات، حيث استكشف التقاليد الموسيقية لمختلف البلدان والثقافات، ووثقها في مؤلفاته الخاصة، وكان من بين أهمها رحلاته إلي إثيوبيا ومالي والسنغال والنيجر وغينيا وزائير والبرازيل وغيرها.
وما يُذكر عن مسيرته، أنه في العام 1944م، قام حليم بإستعارة مسجّل البكرة (وهو الذي سبق مسجّل الكاسيت) من مكتب إذاعة الشرق الأوسط المصرية، ثم بدأ يسجّل ما يحلو له في شوارع القاهرة، ثم يعالجها بإزالة الذبذبة ويبقى على النغمة الأساس، مبقياً بذلك سلسلة الذبذبات العليا، ثم راح يتلاعب بعناصر مختلفة للنغمات المغنّاة والمعزوفة التي سجّلها، مثل الصدى والفولتية، وهكذا يكون قد ألّف أول قطعة الكترونية في تاريخ الموسيقى العالمية، وهو بذلك يكون قد سبق المؤلف الفرنسي ذائع الصيت بيَير شَيفَر (1910 ـ 1995) الذي تعتبره الموسوعات التاريخية دائما انه المؤلّف الرائد في هذا المجال،بالرغم من أن "حليم الضبع" كان قد سبقه بأربع سنوات، لكن ربما وكالعادة لأن شَيفَر ، رجل غربي وقد اشتهر في باريس. بالرغم من رحيله عن مصر إلا أنه ظل عاشقاً للحضارة الفرعونية، متأثراً بها في مؤلفاته، وفي عام 1961م ألف موسيقى الصوت والضوء التي مازالت يتم عرضها حتى اليوم ،وفي كل ليلة، لتحكي قصة الأهرامات وأبي الهول لزوار مصر من شتى أنحاء العالم، كما ألف موسيقى إعادة افتتاح مكتبة الإسكندرية العريقة عام 2002م ، وعن حياته وسيرته ومسيرته تم تأليف عدة كتب توثق تجربته الموسيقية الفريدة، لعل أهمها كتاب The Musical World of Halim El-Dabh الذي يعد أقرب لسيرة ذاتية عنه، قامت بكتابته الباحثة بجامعة كينت "دينيس سيرشيرست" وهي إحدى تلميذاته.
صحيفة "واشنطن بوست" كتبت عنه في عام 1975، ووصفته بأنه "ملحن حديث للمكانة والإنجاز"، حصل "حليم" على أكثر من دكتوراة فخرية من جامعات عدة حول العالم، منها جامعة "كنت" و"نيو إنجلند"، كما تم تكريمه في الكثير من مهرجانات الموسيقى العالمية، في آخر 15 عام من عمره عاش بمرض السرطان، ورفض العلاج بالكيماويات أو الجراحة، و اكتفى بتناول الأعشاب وحبه للحياة، بأيّ حال .. رحل موسيقارنا الكبير "حليم الضبع"، وأعلنت عن وفاته جامعة ولاية كنت، حيث كان يعمل بها أستاذاً جامعياً فخرياً للموسيقى، رحل في صمتٍ منا، بينما تضج حياتنا بموسيقاه الخالدة.