القاهرة 28 نوفمبر 2017 الساعة 10:13 ص
بقلم: د.محمد السيد إسماعيل
ارتبطت قصيدة المقاومة بشعراء الأرض الفلسطينية المحتلة ارتباطا وثيقا إلى الدرجة التى كادت أن تقتصر عليهم وكان لظهور هذه القصيدة بعد 1967دلالة قوية على حيوية الأمة العربية ورفضها للهزيمة وعدم استسلامها لآثارها السلبية المدمرة التى أراد الكيان الصهيونى تأكيدها فى الوعى العام العربى .
وكان شعر محمود درويش ورفيق دربه سميح القاسم فى مقدمة ماكتب رفضا للهزيمة وتطلعا لتجاوزها واستشرافا لمستقبل مختلف وفى دراسة سابقة لى ذكرت أن درويش آثر الرحيل عن فلسطين لأنه لم يرغب فى أن يظل شعره رد فعل للجرائم التى يرتكبها الصهاينة بكل ماتقتضيه طبيعة رد الفعل من حدة ومباشرة.
لكن القاسم اختار طريقا مختلفا حين أثر المقاومة الفعلية اليومية التى جسدها فى شعره ومواقفه هذا البقاء على خط النار واتسم شعر القاسم بمجموعة من السمات الفنية يأتى فى مقدمتها الوضوح والمباشرة وظل شعره مقاوما حتى دخلت القضية الفلسطينية فى واقع مختلف تراجعت فيها قيمة المقاومة وتقدمت لعبة المفاوضات وهو ما انعكس على جماليات القصيدة وطبيعة التجربة فوجدنا نموذج الإنسان البسيط المنكسر المحاصر ومن الدواوين الممثلة لذلك التوجه ديوان " ملك أتلانتس.." .
والعنوان يعتمد على أسطورة تحكى غرق إحدى الجزر وتدعى " أتلانتس" وهو يتخذ من هذه الجزيرة رمزا لفلسطين والديوان مقسم إلى ست قصائد طويلة تقترب من طبيعة القصيدة الملحمية وأكثر هذه القصائد تعبيرا عن المأزق الفلسطينى هى قصيدة " أشد من الماء حزنا " وبتأمل عنوان القصيدة سوف نجد دالة الحزن هى الأكثر حضورا وقد تكرر استخدامها كثيرا داخل القصيدة حتى أصبحت عبارة " أشد من الماء حزنا" أشبه بلحن الختام الذى ينهى به الشاعر مقطعاته الشعرية .
إنها أى هذه العبارة – أشبه بالقرار الذى ينتهى إليه المقطع الشعرى تمهيدا لاستئناف مقطع آخر أو موجة أخرى وفى اعتقادى أن هذا التكرار هو إحدى وسائل استمالة القارئ واستحضاره الدائم فى وعى الشاعر إن القصيدة هنا لاتتأمل ذاتها ولاتنكفئ عليها بل تنفتح على قارئها وتحاوره والتكرار هو أكثر التقنيات الفنية تحقيقا لذلك هذا التكرار الذى قد يأتى بإعادة الجملة نصا أو من خلال إحداث تغييرات فى بنيتها بالتقديم والتأخير كما نجد فى قوله – مثلا- " ولدت ومهدك أرض الديانات / مهد الديانات أرضك " ( " ملك أتلانتس.." سميح القاسم ص 35 كتاب ثقافات الأول 2003).
وقد يقوم الشاعر بالتكرار مع إضافة كلمة جديدة كأن يقول " أشد من الماء حزنا / أشد من الماء والركل حزنا " (ص38) وسوف يتكرر هذا كثيرا بزيادة كلمة جديدة فى كل مرة مما يصنع دائرة دلالية تقوم على المفارقة بين العناصر بحيث تصبح ذات المخاطب أشد حزنا من العالم كله على اختلاف تناقضاته وترادفاته وهو مايظهر فى نهاية القصيدة التى تقوم على إجمال العناصر التى رددها على مدار القصيدة .
وإذا كان التكرار يهدف إلى التأكيد وتحقيق أعلى درجات الغنائية التى تقوم على التجاوب الوجدانى بين الشاعر والقارئ فإنه قد يأتى بغرض السخرية والإيحاء بالفوضى : " وحول جنونك تقعى الملايين حول الملايين تحت الملايين / تمضى إلى الذبح قطعان ماعز " (ص39) والحق أن تيمة السخرية من التيمات الأساسية متخذة أساليب مختلفة منها أسلوب التكرار المشار إليه ومنها توظيف العبارات المصكوكة / المتداولة وإدخالها فى سياق يوحى بهذه السخرية المريرة " جدران بيتك تحفظ عن ظهر قلب وجوه القذائف " (ص36).
فاعتياد الموت أكثر إيلاما من الموت نفسه وتتطور السخرية إلى مايعرف بالرسم الكاريكاتورى للشخصية المقدمة أو من يسميهم الشاعر بالكائنات الغرائب الذين " لهم قصب السبق دون سباق / لهم ماتتيح المقاعد للمقعدين / لهم جثة رحبة فى الزحام الفقير" وأنهم " نخبة الرق / أسياد زوجاتهم فى المحافل / زوجات أسيادهم فى القرار الصغير الصغير" ( ص 37) إن الشاعر هنا لايعتمد على تشويه الملامح بل تشويه الصفات الخلقية فجثتهم رحبة لكنها وسط زحام فقير ولهم قصب السبق لكن دون أن يكون هناك سباق وهو نخبة لكنها " نخبة الرق ".
وهم أسياد زوجاتهم لكن ذلك فى الظاهر فقط أما مع أسيادهم فهم زوجاتهم فى الظاهر والباطن فى القرارات الكبيرة وفى القرار الصغير الصغير .ويمكن وصف قصيدة القاسم عامة بأنها محفلية شفاهية وهذا ما يفسر اعتماده على الجمل القصيرة والقوافى المتتابعة .ويبقى أن نقول إن المخاطب عنا هو الفلسطينى المعاصر الذى يحاول الشاعر استنهاضه رغم كل شيء لها دورة البعث المتجددة أو دورة الحلم الفلسطينى الذى لايغيب