القاهرة 21 نوفمبر 2017 الساعة 10:06 ص
بقلم: د.مصطفى عطية جمعة
يفاجئنا الفيلم الأمريكي " رجل من الأرض Man from Earth " (2007م ) بقصته الفريدة في تخيلها الإبداعي ، الذي يجعل الإنسان منطلقا في آفاق رحبة يتجاوز ما يمكن قبوله عقلا أو حتى تخيلا ، خاصة إذا تعلّق الخيال بالاستحالة وعدم الإمكانية . فقصة هذا الفيلم أقرب إلى الخيال الفلسفي ، فقوامها رجل خالد مخلد في حياته على الأرض ، عاش مائة وأربعين قرنا ، أربعة عشر ألفا من السنوات ، أي أنه عاصر مختلف العصور التي مرت على الإنسان في الأرض، بدءا من العصر البدائي ، ثم الحجري ،وصولا إلى العصور الحديثة . فهو ينهض شاهدا على أحداث التاريخ التي ألمّت بكوكب الأرض : ظهور الرسل والأنبياء ، تكوين الأساطير ، قيام الأمبراطوريات وسقوطها ، المصائب والأزمات ، والهجرات الكبرى بين القارات .. إلخ . وتكون المفاجأة ؛ أن هذا الرجل استطاع العيش في مختلف الأزمنة بشخصيات مختلفة ، تتناسب مع مجتمعاتها ، بل إنه تزوج وأنجب، فتعاقبت عليه الزوجات في جغرافيات مختلفة ، وكثر أبناؤه ، وجميعهم قضوا ، وبقي هو ، وتلك من المفارقات التي نجدها في الفيلم .
جاء إنتاج الفيلم وفق ما يسمى بالسينما المستقلة ، وحسنا فعل صانعوه بذلك ، فالفيلم لا يحتاج إلى تكلفة إنتاجية كبرى ، بقدر ما يحتاج إلى البراعة في صياغة السيناريو والحوار وإجادة التصوير والإخراج ، نظرا لفكرته وطروحاته ، التي تتصل بقضايا فلسفية وفكرية ، كانت أقرب إلى الاستفهام و الحوار بين الشخصيات ؛ منها إلى الصراع الذي يحتم تنوّعا في الأمكنة ، وحراكا في الأحداث وحركة في الشخصيات ، ألا وهو الصراع التقليدي في القصص السينمائية ، أما هنا فكان صراع أفكار ، بين شخصيات متعددة في توجهاتها ، وتخصصاتها العلمية ، كل فرد يحاول فهم ما يجري ، وفق تخصصه العلمي ، وما آمن به من قناعات ، وهذا طبيعي ، فالحالة التي أمامهم نادرة الحدوث ، أن توهب الحياة لشخص ، ويعلم أنه مخلد على الأرض ، ولديه القدرة على العيش في كل العصور والأمكنة ، والتجانس مع البشر أينما كانوا ، وكيفما عاشوا ، ووقتما تواجدوا .
فهناك قصص تقترب من هذه الأجواء ، مثل قصص رجل الكهف ، والتي تتمحور حول أناس عاشوا في كهوف عيشة الإنسان البدائي ، ولم يعرفوا من الحضارة الحديثة شيئا ، ولكن أن نجد شخصا منذ العصر البدائي ليومنا ، فهذا ينفي فكرة الموت ، ويجعلها أقرب إلى المرض منها إلى انتهاء الأجل المقدر .
ولاشك أن مخرج الفيلم " ريتشارد شيكمان " ، وكاتب النص جيرومي بيكسبي -الذي توفي فور انتهائه من كتابة السيناريو عام 1998 – كانا متفاهمينِ معا في تقديم الفيلم بتلك البنية ، ألا وهي البنية الحوارية ، التي تغلب على المساحة السردية في الفيلم ، وتجعله يتلامس مع أجواء المسرح ، وإن كانت هناك بدائل أخرى ، لمزيد من التشويق ، بدلا من حشر الممثلين في موقع ( Location ) ، وبالتالي حصر بصر المتفرج في مشهد مكاني شبه ثابت ، وإرغامه على متابعة جدال ، بين شخصيات كلها غير مصدق ، لما يرى ويسمع . وربما كان من أهم البدائل ، عرض جوانب من حياة الشخصية الرئيسة ، باستخدام الارتداد الزمني ( الفلاش باك ) مع استرجاع الشخصية لأحداث الزمن الغابر والحضارات، خاصة أنه كان ثابت الشكل والملامح في كل العصور السحيقة والقريبة . بأن يحكي البطل عما عاصر ، ومن ثم يعود به الزمن والصورة إلى كيفية العيش وما شاهد ، ولكن هذا لم يحدث ، وربما كان الدافع هو طبيعة الإنتاج المتصل بالسينما المستقلة قليلة التكلفة .
ولنعش أحداث الفيلم ، الذي يبدأ بشخصية " جون أولدمان " وهو بروفيسور في إحدى الجامعات الأمريكية ، يبدو في سني الأربعينيات ، بملامح هادئة ، وجسد رياضي أقرب إلى النحافة . يقوم البروفيسور بدعوة زملائه في الجامعة إلى حفلة وداع في فيلته الريفية الصغيرة . وفي ردهة المنزل ، ستدور أحداث الفيلم ، حيث الشخصيات ما بين جلوس أو وقوف أو حركة في أرجاء الصالة الضيقة ، بما فيها من مقاعد وثيرة ، ولوحات متناثرة على الحائط ، اللهم إلا من تنقلات بسيطة ما بين الحديقة أو الغرف أو خارج المنزل ، فالكاميرا تتبع الشخصيات في حوارها وتنقلها المحدود.
إذن ، يمكن القول : إن الزمن السردي في الفيلم زمن وجيز يمتد لساعات ، فنقاش الشخصيات هو المتمحور حول تلك الشخصية الفريدة ، والذي يمتد إلى زمن متخيل يعود إلى مئة وأربعين قرنا ، هي عمر البروفيسور أولدمان . أما المكان السردي فيبدأ من ضيق منزل البروفيسور الكائن أمامنا ، إلى رحابة الجغرافيا في العالم، والمناطق التي عاش وتنقل فيها البروفيسور في حياته الخالدة المزعومة . وربما كان الطابع الحواري في الفيلم ، سببا في شعور المتفرج بترهل السرد الذي يدفع للملل ، وتلك من ظواهر الأفلام ذات الطابع الحواري الجدلي .
لقد أصرّ الضيوف الحاضرون على معرفة سبب مغادرة أولدمان للجامعة ، بالرغم من محاولته تغيير الموضوع ، وذكر ادعاءات غير حقيقية ، لم تقنع مستمعيه ، فاضطر إلى أن يصدمهم بالحقيقة بأنه إنسان خالد موجود على الأرض ، لا يعرف للموت سبيلا ، بل إن له ملامح ثابتة ، وسحنة لا تعرف التغيير ، يحملها منذ آلاف السنين، لذلك هو مرغم على الرحيل ، حتى لا ينتبه الآخرون لهذا .
انهالت الأسئلة على أولدمان وتنوعت حسب قناعات كل محاور ، فالسيدة الأكاديمية المسيحية المتدينة ، تسأله عن الرسل والأنبياء ، بينما انشغل عالم الآثار بالتساؤل عن تكوين الحضارات الكبرى ، وبناء الآثار الخالدة ، وفي كلتا الحالتين ، كان أولدمان يجيب وكأنه عاصر كل شيء ، وشاهد الملوك والأبطال والقادة والفلاسفة ، فهل كان يتنقل في أرجاء الأرض طائرا من أجل مشاهد الحضارات والجيوش الغازية ، مثلما كان يرى نشوء الأديان ، وادعاءات الأنبياء ؟
إن قضية الفيلم الأساسية تتمثل في تبنيه المقاربة العلمانية الشاملة ، التي ترى أن الدين اختراع بشري ، وعلى حد قول أولدمان أن الإنسان القديم وضع الخوف من النار والحلم بالجنة سبيلين للتمسك بالقيم والسلوك الصالح ، وهو ما نفاه الإنسان في العصر الحديث ، حيث أصبح العلم وريثا للدين ، وأصبح الالتزام بالقانون عنوانا على السلوك الصالح ، وأنه مسؤول عن نفسه ، مؤكدا على أن الأديان كلها كانت أساطير مخترعة من أجل السيطرة على الشعوب ، والإجابة عن أسئلتها المتعلقة بما وراء الطبيعة ، وقد استغل الحكام هذا الدين من أجل إخافة الناس ، وصنع أساطير روحية تشبعهم وتريح ضمائرهم . وبعبارة أخرى: اخترع الإنسان الدين وجعله على هيئة أساطير وكتب مقدسة ، لغايات روحية ، واستطاع العلم الحديث محو هذا .
كان عالم النفس " ويل " إحدى الشخصيات الحاضرة ، ولم يعجبه هذا الكلام ، لذا راح يحلل شخصية أولدمان مدعيا أن الأخير مصاب بمرض نفسي يجعله يعيش شخصية تمتد منذ آلاف السنين ، بطريقة أقرب إلى فكرة التناسخ وحلول الأرواح ، لذا ، فهو يتخيل كل ما يقول وأوهمهم به ، عن شخصيات وأحداث .
وتكون المفاجأة ، التي ألجمت " ويل " وبقية الحضور ، وهي التي شكلت أيضا نهاية الفيلم ، والتي جاءت بحدثين متتاليين ، ومتناقضين في آن . الحدث الأول : حينما ضغط عليه مناقشوه ، وقد جُنّوا مما يقول ، وضغطوا عليه غير مصدقين ، ليرضخ أولدمان ، ويهدئهم ، ومن ثم يصيح بهم قائلا : إن ما فعله مجرد تخيل من أجل تفجير النقاش حول قضايا بعينها ، واختبار ردود أفعالهم ، وهو ما أبهجهم جميعا ، خاصة السيدة المتدينة ، التي هي مؤمنة حتى النخاع بكل سرديات الكتب المقدسة ، وعاشت حياتها في موائمة روحية وفكرية معها .
الحدث الثاني ، كان الرد على ادعاءات الطبيب النفسي " ويل " ، والذي ظن أنه قد أصاب في تحليله لشخصية ، لتكون نهاية الفيلم بالطريقة الأمريكي غير تقليدية ، حيث يضحك أولدمان مخاطبا " ويل " ، فيصدمه بما لا يتوقعه بقولـــــــه : "يا ويل ، إنني أبوك ، وقد تزوجت أمك منذ سنوات عمرك ، وأنجبتك منها " ، وذكّره باسم أمه ، واسم الكلب الذي كان عندهم ، وبعض الذكريات عنه وهو صغير، وساعتها أدرك " ويل " الحقيقة المرة ، فهو أمام كائن خالد .
تبقت علاقة أولدمان مع زوجته ، التي صدرت منها كلمات قليلة ، طيلة النقاش الساخن ، وكانت أسئلتها عن النساء اللائي عرفهن زوجها خلال آلاف السنين على الأرض ، وهو يبتسم ، ولا يتذكر عددا محددا ، ولا يعرف كم الأطفال الذين أنجبهم ومع ذلك ، تقرر زوجته الرحيل معه ، فقد عشقته كما هو ، وهامت به عندما علمت بحقيقة عمره ، وهي التي كانت شبه مقتنعة بين وجهات نظر رفاقه .
بلاشك أننا نحتاج لهذه النوعية من الأفلام ، التي تفجر قضايا فلسفية وفكرية ، تثير الأسئلة ، وتخرج الفلسفة من عليائها ونخبوية خطابها ومتلقيها ، إلى عامة مشاهدي السينما ، أي إلى رجل الشارع العادي ، الذي سيختلف أو يتفق حتما مع القضايا المثارة ، مما يضعها في بؤرة وعيه ، تدفعه لمزيد من القراءة والبحث ، ومن ثم تبني مواقف ، واعتناق أفكار ، والإيمان بقناعات .
وإن كنا نتحفظ على المقاربة المفرطة في علمانيتها التي تبناها الفيلم ، وهو ما ظهر من عنوان الفيلم " رجل من الأرض " ، الذي يؤكد أن السماء ( الله ، والأنبياء) من اختراع الإنسان ، فالطبيعة ثابتة ، والخلق أزلي أبدي ، والإنسان على الأرض بيده كل شيء ، ويخترع ما يشاء من أفكار ، فالإنسان إله نفسه . وهي مقاربة تمت مراجعتها كثيرا من قبل العلمانيين أنفسهم ، والذين لم يقبلوا سرديات الأديان ، ولكنهم أيقنوا بوجود خالق للكون ، في ضوء كشوفات العلم المتلاحقة ، وهم يرون كونًا متكاملا ، كلما أوغلوا في أعماقه ، أدركوا أنه لابد من إله خالق مدبر واهب . وفي ضوء أيضا أن العلم الحديث نفى سرمدية الكون ، فنظرية الانفجار الكبير ، تعني ببساطة أن هناك بنية تشكلت منذ الأزمان السحيقة ، والتي تمتد إلى أربعة مليارات ونصف من السنوات ، ومادام لها بداية ، فإن لها نهاية ، وهو ما تم إثباته بالفعل حيث أكد العلماء أن الكون يسير نحو الاضمحلال ، مما ينفي أزليته وأبديته .