القاهرة 21 نوفمبر 2017 الساعة 09:58 ص
بقلم: د/ شعيب خلف
في ديوانه ( ماذا تبقي) يمتلك "رجب لقي" عددًا من الميزات التي تتمزي بها قصائد ديوانه، عما سبقها من قصائد جمعت في دواوين، أو ما زالت ، فالديوان يمتلك عددًا من العتبات التي تتيح للمتلقي وضع يده علي مكامن النص ، والتي هي بذاتها تمتلك عددًا من الدول التي تتيح للقارئ التجول بين
جنباتها .
إن العنوان الذي يبدأ بسؤال ماذا تبقي ؟ يمنح القاريء فرصة لفتح أمكنة آخري للتساؤل : لمن السؤال الذي يوجهه الشاعر ؟ هل يوجهه لذاته التي تمثل في الديوان بكل كياناتها ، لأنه ومهما تعددت نظريات القراءة والتأويل ، ستبقي الذات واحدة من المرجعيات المهمة في البنية الدلالية للنص ، أم يوجهه للآخرين المحيطين به وعلي تماس خاص بهذا المحيط ، وهم أيضًا لا يمكن التعامل مع النص في تغافل عن دورهم ووجودهم ، لأنهم مصدر التلقي للمرسل والرسالة ؛ بل وهم الأساس في تكوين الرسالة .
نعاود التساؤل ، ماذا تبقي من ماذا؟ تبقي من الشاعر كي يحيا ، من وجوده وإنسانيته ، من ميراثه الفكري والثقافي ، من مكونه الاجتماعي في المجتمع الذي يعيش فيه ، أم تبقي من المحيطين به داخله كي يأنس ، كأب وزوج في البيت ، وكمعلم ومرب في بيئة العمل ، أو كشاعر صديق للقصيدة يرتاح لها حين يريد ، وترتاح له حين تصطفيه بفعل الكتابة، في كل الأحوال السؤال يدشن للفقد والاغتراب ، الفقد سمة رئيسة تطالعنا من أول العنوان ، لذا لا يمكن أن يمر العنوان مرور الكرام ؛ بل هو دال أصيل من الدوال التي ترتبط بعضها ببعض .
إن الإهداء يبحث عما سيبقي للشاعر ، أو ما يراه فعلاً أمامه حين يذهب الجميع ويترك وحده ، هذا الذي يبقي علي منطقة الألفة التي تعينه علي ما تبقي من حياة ، تحييه بعد أن ماتت أشياء كثيرة . إن أبناء الشاعر في الإهداء هم تحدي الفقد ، وتحدي الاغتراب ، الشاعر يعيش في دوامات الفقد ، والاغتراب ، وعدم الأمان من متاعب الدهر ، وتقلبات الحياة ؛ لكنه في صراعه هذا يفيق علي شاطئ من الأمان التام ممثلاً في أولاده الذين يمثلون المرفأ والملاذ .
الشاعر يمتلك حسًا رومانسيًا عاليًا لا يرتبط في مدلوله بالمرأة الأنثي فقط ، بدلالاتها المعروفة ؛ ولكنه ياخذ أبعادًا متعددة من الشجن ، يكون فقد الذات أولها والذي يصل بصاحبه للاغتراب الذي يأتي الوطن أحد سياقاته الواضحة ، إن التدرج الاغترابي يبدأ من أمكنة أليفة ، الذات أول الاغتراب وأقساه ، إن اغترابها أصعب أنواع الاغتراب ، حين تُظلم الذات فليس للضوء مكان يستريح فيه ، وحين يظلم محيط البيت ، المكان الأليف التي فيه تستريح الذات من همومها واغترابها ، تفتح الذات صفحة الوطن كي تستريح ، هنا الألفة مراحل ، كما الاغتراب مراحل .
إن الوحدة تلعب دورًا مهمًا في الديوان ، كأحدي أسباب الاغتراب الذي أسلفناه ، ففي قصيدة "وحدة" يقول ( وحيدًا أقف / أبحث عن مخملتي / أشعل مجمرتي / أحرق أرقي ) ص35 ويقول أيضًا في " إبحار"( الموج الدافق يجذبني / وسفيني من غير شراع / والبحر يهيج ويتوعد / لو أني أنوي الإقلاع / الشط يغيب فأتساءل / هل يغدو مرساي ضياع ) ص 36 .
تلعب الاستعارة بجميع أنواعها ، ودلالاتها دورًا مهمًا في الديوان ، فتأتي في الاسم ، كما تأتي في الفعل ، وتأتي في الحرف ، هذا من الناحية النحوية ، أما من الناحية الدلالية ، فبشخص الشاعر الجماد والحيوان والنبات ، كما يجسد الحيوان والنبات والإنسان والأمثلة علي ذلك أكثر من أن تحصي في الديوان بأكمله مثل ( نوافذ الأمل / غيوم اليأس / حليب الضوء بذور الوداد / شموس الحياة / الوفاء عقال / بشاشة صبح / جناح القصيد / حرير السماحة / غمامات روحك / أعشاش قلبك / شذا يسافر / عشب العمر / سهام ضوء / سوس الليالي / عظم وجودك / ستر الظلام / عطر النشيد / جرح الليالي / تشنق أحلامك / موج الحياة / بحر الندم / العصافير ترتل / انتعل الأرض / أحرق أرقي / صخور الزمن / اكتحل النسيان / ... الخ).
التناص في الديوان ظاهرة واضحة ، أو مكني عنها بفعل الكناية والتورية ، منها استدعاء التراث المسيحي ، كما في قصيدة ماذا تبقي لديك ( بأن دماء مسيحك سالت / وأن القيامة جد عسيرة ) ص 11 ، وهو يشير إلي دم السيد المسيح الذي كثيرًا ما يأتي في الشعر العربي الحديث رمزًا للخلاص حين يشتد الاغتراب بالإنسان.
تكرر استدعاء اسم "عبد الناصر" أكثر من مرة في الديوان يقول : (وترسم صورة ( ناصر ) / فيبدو فتيًا / تلون محراب قدسك)، وفي قصيدة طفولة ( يتعلق في حبل الأحلام / فيعلق صورة " ناصر) في المرتين تذكر لفظة "صورة" مرتبطة بعبد الناصر الزعيم ، الرمز الذي تعلقت به أحلام الفقراء والكادحين وسيبقي ناصر مرسومًا في القلوب وعلي جبين المقهورين .
جاء تناص واضح في الديوان مع الشعر القديم خاصة مع امرئ القيس في معلقته الشهيرة حيث يقول : ( ألا أيها الليل البهيم ألا انجلي " بصبح وما الاصباح منك بأمثل ) ، واستدعاء حالة عمر ابن أبي ربيعة في قصيدة استجواب ( يا بن ربيعة / لماذا تثير حروبًا بأرض القبيلة / وتشعل نار الفتن ) ص7 ، وجاء تناص واضح أيضًا مع الشعر الحديث بل تعداه للاقتباس من عبد المعطي حجازي في ديوانه مدينة بلا قلب ( يا عم من أين الطريق / أيمن قليلا ثم أيسر يا بني ) ص 17 ، كما يتناص مع فاروق جويدة في قصيدة ( بلدي ) ص 28 ( ولو خيرت في الجنة / لقلت هواك جناتي / ولو أشدو بأغنية / فأنت نبض كلماتي ... ) .
الوطن حاضر بقوة في ديوان رجب لقي ، ففي قصيدة ( تمازج) وفي مقطع بعنوان ذوبان ( أعلم أنك فرحي ترحي / تاريخي / ميلادي أو موتي / حين أصب دماء قريضي / فوق مائدة الأوراق / ترسم مني / ثالوثًا أٌقدس / م- ص – ر ) ص 42 .
في الديوان يهدي الشاعر قصائد لعدد من الرموز: أولهما :الشاعر الكبير محمود حسن إسماعيل ، الذي غني للأرض والفلاح والرومانسيات الحالمة ، فتفيض القصيدة بهذه المعاني الجلية التي تحكي حال لغة محمود حسن إسماعيل وصوره ( صوتك شدو السواقي / والعصافير ترتل / من أغاني الكوخ لحنًا / صلوات وتبتل / لون جبهتك الربيع / سندسي قد تكلل من أزاهير الروابي ) في القصيدة لم يترك "رجب لقي" محمود حسن إسماعيل حتي قرأ من خلال شعره قضايا الوطن الكبير الذي يئن ويعاني ، كما كان يئن ويعاني في أشعار محمود حسن إسماعيل ( كيف للغاصب يهنأ / في ثرانا ويعربد / في فلسطين جراح / والعراق اليوم يوسد ) ص 21 .
وثانيهما :القاص المرحوم "بهاء السيد" الذي كان يمثل للشاعر وجيله دليلاً علي الإبداع والكتابة ( حين بدأنا السير في وادي الجوي / كنت الدليل المرشد كنت الهوي / كنت المعبد خطونا كنت الرفيق .. / حين تربت فوق أكتفنا وحينًا صرخة / حاذر فتصلح رسمنا ثم نفيق ) ص 17 كما يهدي قصيدة ( أنا باق للطفل السوري ( ايلان كردي ) الذي هز ضمير العالم لمأساته وأسرته وكل طفل سوري يلاقي نفس المصير .
إن ديوان " ماذا تبقي " يضيف لتجربة " رجب لقي " الكثير ، ويمنحه خصوصية تنبع من موقف من الوجود والحياة ، ويحكي تجربة حياتية خاصة ، تعيش الفقد والاغتراب فجاءت صادقة صدق صاحبها مع تلقيه لوجه الحياة .