القاهرة 18 نوفمبر 2017 الساعة 12:21 ص

محمد عبد السميع نوح

لو جئنا نطبق الأدوات السيميائية بكل حذافيرها، على نص روائي طوله مائتا صفحة، فقط، لخرج التحليل المكتوب عن هذه الرواية، في ألف صفحة أو أكثر من ذلك كثيرا".
بلوافي محمد ـ موقع ديوان العرب

الغلاف علامة بصرية + علامة لسانية
"إن العنوان على المستوى اللغوي يعتبر مقطعا لغويا يعلو في النص وتتحكم فيه قواعد نحوية وسيميائية". "رولان بارت".
بالنظرة الأولى لغلاف رواية "لعنة ميت رهينة" للدكتورة سهير المصادفة، نقع على لوحة تشكيلية لوجهٍ شبحيٍّ ذي خلفية واقعية، مما يشي بطبيعة الحمولة الدرامية للرواية، من حيث الاتكاء على عدد وفير من الرموز، يقع كل رمز كمعادل موضوعي يشير إلى جزئية مقصودة في واقع ميت رهينة، ميت رهينة نفسها رمز ومعادل موضوعي أكبر.
الوجه المتصدر للغلاف حائر بين الذكورة والأنوثة، وإن كان للأنوثة أقرب، ذو عينين فاحمتين مسبلتين غارقتين في ظلام مريب، والشَّعر أكثر تفحما، وطويل بما يكفي للحكم بأنوثته، ذو قسمات تشبه النيجاتيف الذي هو أصل الصورة الصحيحة، تقع صورة الشبح من الوجود الإنساني في منطقة الكوابيس، والغموض، تتناثر على خلفية الشبح معالم متنوعة، بين الجدة والقدم، فمن شواشي النخيل، إلى قنوات وترع مشقوقة، إلى أطلال لأحجار ونُصُبٍ أثرية، إلى ظلال قباب ومآذن، أو هكذا أوحِيَ إليَّ، إلى سماء وسط بين الصفاء والكدرة. على ورق مقوىً مزيدٍ بالطبقة اللامعة التي تحفظ رونق الإخراج لفترة طويلة.
ويوضع العنوان على شكل سلم هابط لأسفل، ثلاث كلمات، كل كلمة في سطر يتوسط الصفحة بين اليمين واليسار في ثلثيها، كلمة :لعنة، تحتها كلمة: ميت، تحتها كلمة: رهينة، تقع الكلمة الأولى عند أسفل رقبة صاحبة الوجه الشبحي، بحيث لا تطغى على ملامح الوجه، وتحتها الكلمة الثانية، ثم الثالثة بموازاة ركبتي الشبح.
وكتابة كلمات العنوان بالخط العملاق الشبيه بأعمدة المعابد القديمة أو المسلات، الكلمات مبنية بناءً مقصودا يحمل علامة مرتبطة بالمضمون، وبنوع الخط ذاته جاءت الكلمات المكملة: رواية.. سهير المصادفة.. الدار المصرية اللبنانية، مع التنويع في حجم البنط بما يتفق والذوق المناسب لعنوان عمل أدبي. ويقع العنوان الداخلي مكررا في صفحتين عاديتين بذات نوع الخط الموجود على الغلاف الخارجي.، وعلى كعب الغلاف بين الوجهين ثلاث جمل: سهير المصادفة ... لعنة ميت رهينة ... الدار المصرية اللبنانية.
أما الغلاف الخلفي فيحتوي على أربعة عناصر علاماتية، بالإضافة إلى دار النشر، أولا فقرة من الرواية تقع في عشرة أسطر، ثانيا، كلمة الناشر في توصيف فني موجز للرواية، ثالثا: سرد لبعض إصدارات الكاتبة، ورابعا صورة الكاتبة أسفل يمين الصفحة.
الكتابة كلها باللون الأبيض المنقوش فوق الرسم نحتا، بحيث تبدو اللوحة التشكيلية خلفية لها.
إن أهمية قراءة الغلاف تنبع من أنه النص المرسوم بالتوازي مع النص المكتوب، وكثيرا ما يكون الغلاف مفتاحا مهمًّا نلج من خلاله إلى دروب في النص المكتوب ما كنا نستطيع عبورها إلا به.
ولنفتتح رحلتنا مع الرواية بالثيمة التي افتتحت بها الكاتبة فصول الرواية العشرة، أقول:
على الداخل إلى "رواية" ميت رهينة أن يتسلح بالعدة اللازمة لقراءة غير المكتوب بوحي من المكتوب، هذا أولا، أما ثانيا: فعلى القادم من واقع حياتنا اليوم إلى هذا العمل الأدبي أن يستحضر عدته من تاريخ مصر القديم والوسيط والمعاصر، وإن كنت أشك في قدرتي على هذا الاستحضار كما ينبغي، أما ثالثا: فعلى الداخل أن يحمل مشعلا ينير له أول الدرب إلى أن تتعود عيناه السير في هذا النفق فيسير بالغريزة، وهذا المشعل أعني به عشرة أسطر اختارتها ووضعتها الكاتبة على ظهر غلاف الرواية، ولنستمع:
"تهامس الأهالي فيما بينهم عن الاختفاءات الغريبة لبعض ناس ميت رهينة، وأصبحوا فجأة يتابعون الجرائد اليومية، لعلهم يجدون بها ما يحدث في قريتهم، قرروا ألا يخرجوا ليلا أبدا لأي سبب من الأسباب، وأن يرسل شبابهم المتعلمون إلى مواقع التواصل الاجتماعي استغاثات حول حوادث الاختفاء التي يرونها غرائبية في ميت رهينة؛ حتى تتحرك الحكومة، ولا تكتفي بتحقيقات القسم الجنائي في مركز الشرطة، قرروا أن يمنعوا أولادهم من اللعب في ساحات القرية وأزقتها، وألا يسيروا فرادى، بل في جماعات؛ حتى يروا بأعينهم كيفية اختفاء أحدهم هكذا، دون أن يترك خلفه أثرا يدل على مكانه سواء كان حيا أم ميتا"
وفي هذه القراءة نحاول استجلاء إشارات النص، مطيلين الوقوف مع الشخصيات التي تتجاوز الأربعين شخصية تضج بالحيوية والفاعلية، مشيرين إلى ما لها من جذور ومن فروع، وذلك في فقرات على النحو التالي:
موجز الرواية
*دلالات أسماء الشخصيات وأفعالها
*بدايات الفصول وعلاقاتها بمحتوى كل فصل، وبالسياق العام
*نظرة عامة حول هذه الرواية
***
موجز الرواية:
تقف قرية ميت رهينة على آثار أول عاصمة مصرية، أول عاصمة لدولة مدنية في التاريخ "منف"
1975م عبد الجبار أول من يطالعنا، والتقائه أدهم الشواف، والأخير سعودي وشاعر هائم في بحثه عن الجمال، وفيما يشبه الاختطاف يتزوج من هاجر محبوبة عبد الجبار، ويظل الأخير بحسرته إلى أن يختفي، يموت أدهم بعد سنتين 1977م وتعيش مصر رواج الانفتاح، فيما تلقي نساء ميت رهينة أكياس القمامة في معبد الإله "بتاح"!
تنجب هاجر من أدهم ابنتها ليلى، تنجب ليلى من الدكتور نور الدين ــ الأمريكي من أبوين مصريين مهاجرين إلى أمريكا ــ ابنتها نور، ونور هذه مخلوق عجيب، ذكية أكثر مما ينبغي، وعلى ذكائها تنبني حركية تنامي الدراما، حيث تمثل نور ميزان العدالة الذي قد يوازي إلهة العدل عند الفراعنة "ماعت" ذات الشعرة على رأسها، فتلقي بالظالمين في قعر الجحيم وبالطيبين في الفردوس.
وينشأ الصراع بين جبهتين قويتين: الأولى: مجموعة ناهبي الآثار وتجارها ومروجي المخدرات ومحققي الثراء الفاحش: عبد الجبار وفانوس جرجس وهند القاضي ومن يساعدونهم: متولي الحرامي، وعزوز ابن بهانة، وطائفة أخرى ضمن معسكر الفساد من بينهم اللقيطة سلمي التي كادت تدمر حياة شاب صالح هو صلاح، وأيضا الشيخ خالد الطوبجي شيخ الفضائيات الذي اجتمعت في شخصيته آفات ذوي الفتاوى الشاذة في الحقبة الراهنة، ومنهم الدجالون كابن ستيتة والشيخ برهامي، والفساد مهما تنوعت أشكاله فإنه يصب في هوة الفقر والتخلف الذي تعاني منه الأمة، أما الجبهة الأخرى وتتمثل في المحبين لميت رهينة حبا حقيقيا بدءًا من أدهم الشواف نفسه، الذي ترك مخطوطا ضخما به سر المقبرة التي تفنن في إخفائها عن أعين اللصوص، ومنهم هاجر التي ترك لها أدهم الشواف هذا القصر، وهذه الإمكانات الضخمة لتؤي الضائعين من أهل القرية، وتعيش كاتمة قصة حب لعبد الجبار لم تكتشفها في نفسها إلا بعد موت أدهم، وبعد انجراف عبد الجبار في طريق الثروة والجشع، وتعيش نور مع أمها ليلى وجدتها هاجر قابعة في مكتب أبيها ومع مخطوطاته حياة شديدة الغرابة، ومع كونها ذات بنية شديدة الضعف مجردة من كل شيء تتباهى به أية أنثى، مريضة بتناقص مطرد في بنيتها، غير أنها تكون هي السلاح الفاتك ضد المفسدين من لصوص الآثار والدجالين وجامعي الثروة من الفضائيات في سبيل تغييب عقول الناس، تحقق نور ما يشبه المعجزة حتى تطلع شمس السلام والجمال على ميت رهينة من جديد.
تتخلل هذه الحكايةَ الرئيسة حكاياتٌ فرعية تعكس واقع الناس ميت رهينة من ولادة وموت ولقاء وفراق وصراعات وازدهار واضمحلال وعلو وهبوط، مما يشكل للوحة العامة تفاصيلها التي لا تقل أهمية عن صلب التشكيل.
كل أحداث الرواية على أرض قرية "ميت رهينة" بتفاصيلها بطلٌ قدمته الكاتبة من كل جهاته تجسيما ونحتا كتمثال إله من آثار العاصمة الأولى في التاريخ. وتطل أماكن أخرى في السياق إما على لسان الراوي، أو على لسان إحدى الشخصيات، من هذه الأماكن: الحجاز/ السعودية، نيويورك، القاهرة/ فنادق الخمس نجوم، وجاء ذكر هذه الأماكن لصالح المكان البطل/ ميت رهينة لا أكثر.
في نهاية هذا العرض الموجز أنبه إلى أن بعض مواضع السرد تنتمي إلى الرومانسية في علاقة هاجر الروحية بعبد الجبار، علاقة صلاح بداليا.
وتنتمي مواضع أخرى إلى البوليسية كما في تشابك الأفكار والتخمين حول المتسبب في اختفاءات الناس والبحث البوليسي في هذه المسألة.
وتنتمي في مواضع أخرى للعلاقات الجسدية المحرمة، كعلاقة منصورة بعزوز بن بهانة، وأفعال ابن ستيتة مع زائراته للاستشفاء بالوهم، وإلى حد كبير علاقة ليلى بالدكتور نور الدين والد نور، والذي تُركت الحقيقة فيه مفتوحة بين أن يكون زواجا أو أن تكون مخادنة، وطموح سلمى "اللقيطة" في الإيقاع بصلاح ذلك الشاب المهذب المتعلم .
وتنحاز كثيرا جدا إلى الواقعية النقدية، ويتبدى ذلك في طرح جوانب من سلوكيات الناس مع الوطن في هذه الأيام مقارنة بالماضي، بل في الغناء والفن أيضا، كما يتبدى في عرض آثار الانفتاح والتكنولوجيا الحديثة التي سيطرت على كثير من الوقت لغالبية الناس.
وتتميز بسلاسة الانتقال والحركة ما بين الواقعي والغرائبي، التاريخي والأسطوري، فكان الراوي/ الكاتبة على مسافات مناسبة من كل عنصر: واقعي ـ غرائبي ـ تاريخي ـ أسطوري، هذه المسافة التي جعلت حرية الحركة من هذا إلى هذا أمرا مقبولا ومقنعا في الوقت ذاته.

الشخصيات: 
ـ عبد الجبار، أول من يطالعنا، وكان ذلك عام 1975م، وله نصيب من الجبروت، شاب قوي البنية، في حدود العشرين من عمره، يذوب حبا في هاجر ابنة عم لطفي مرجيحة، وهو من نبش الأرض "عشرين فدانا" بحثا عن المقبرة التي فتحت له مرة ثم ضل عنها، وبعد أن تزوج أدهم من هاجر محبوبة عبد الجبار يتوجه عبد الجبار توجها انتقاميا فيثري ثراء فاحشا بعد أن كان عاجزا عن كسب عشرة قروش في اليوم، أو كسب رغيف جاف يغمسه في المش، يثري عن طريق التجارة في الآثار والمخدرات، ويظل قلبه معلقا بهاجر، إلا أن حجابا غير مرئي يمنعه من الاقتراب منها بعد موت زوجها أدهم الشواف، وينجب عبد الجبار ثلاثة ذكور اثنين منهم في اسم كل منهما حرف الجيم: عبد الجليل وهو الأصغر، وعبد الموجود وهو الأكبر ، وبينهما عبد الرحيم وهو الأوسط والأحن قلبا، ويعتبر عبد الجبار هو أخف أهل ميت رهينة دما. وربما كان اختيار الاسم من زاوية جبروته في الحفر والإثراء.. وربما كان سخرية من وقوعه فريسة للمسخوطة كما كان يسميها: نور..
ـ أدهم الشواف، وفي الاسم ما فيه من تناقض بين جزءيه، فالأدهم الليل، أو السواد، والشواف بخلاف ذلك.. وهو شاعر محدود الموهبة، إلا أنه ذكي، وباحث، ترك أثرا هاما في مؤلفاته: السيرة الذاتية، وجذور الفتنة. وأدهم الشواف = أفعل الفعال، صيغة تفضيل تعقبها صيغة مبالغة، وكأنه شاف/ رأى مستقبل آثار ميت رهينة وتكالب اللصوص عليها فوضع خطة عبقرية لحفظها، نتعرف عليها من أفعال نور. أضف إلى ذلك مجيئه من الحجاز، السعودية حيث جاء العرب الفاتحون وجاء معهم الإسلام، ومن هنا تنطلق رمزيته، فقد كان في طفولته يمرح في رحاب الكعبة المشرفة، ومعلوم أن الكعبة اليوم ليست مراحا للأطفال كما كانت قديما.
ـ هاجر: تجسدت في هاجر سمات الشخصية النسائية المصرية الأصيلة، هدوء ورضا وسلام لكل خلق الله، هاجر التي زوجها أبوها لطفي مرجيحة لأدهم الشواف، السعودي الوافد، ولم تتأبَّ على قراره، برغم يقينها في صدق حب عبد الجبار لها، هاجر التي منحت ابنتها ليلى قدرا من الحرية أسرفت ليلى في ممارستها فكان ما كان، ظلت هاجر سقفا هادئا للقصر، آوت عفاف بنت رحمة زوجة شحاته ابن الخالة تبارك، كما آوت اللقيطة سلمى أرحم إيواء، بل امتدت رعاية قصرها إلى صلاح بن عفاف، حفاظا على صلة رحم مع جدته رحمة وحماتها الخالة تبارك، هيأت هاجر في القصر مناخا مناسبا لنشاط نور الذهني الجبار وصديقها الوحيد صلاح، وبعد أن تزداد الأحداث تشعبا ويتغير وجه الحياة تسقط من ذاكرة هاجر كل تفاصيل فترة الثراء التي شهدتها بعد موت أدهم وتمتعها ما ورثته من أموال طائلة، يختفي عبد الجبار، فتذبل هاجر، وتهيم على وجهها مختفية في أرض الله الواسعة.
هاجر الاسم العربي الأصيل لجدة العرب زوج سيدنا إسماعيل عليهما السلام، وكم كانت السيدة هاجر هادئة مطمئنة راضية بأمر ربها، مذعنة لأمر زوجها الخليل، فعاشت في واد غير ذي زرع عند بيت الله المحرم، ثمة شبه كبير بين الشخصيتين هاجر التاريخية وهاجر الفنية في الرواية، وكلتاهما مصرية.
ـ ريتاج: الزوجة الأولى لأدهم بالمملكة، ولها أربع بنات منه، وتأتي لزيارة مصر بشكل دوري منتظم، وريتاج اسم مفتاح الكعبة، ورتاج في اللغة بغير الياء الترباس الذي يحكم غلق الباب من الداخل غالبا، وهي سيدة صاخبة، على النقيض من ضرتها المصرية، وهي أكبر سنا من هاجر بأكثر من عشرين عاما، حادة الطباع، أصرت على حمل جثمان أدهم ليُدفن بالحجاز خلافا لوصيته بأن يُدفن في ميت رهينة، وهي من النوع الذي يحب ـ فقط ـ أن يأمر فيطاع.
ـ نور: الشخصية الأهم في الرواية، هي فيما أرى طين هذه الأرض، هي ملحها، هي سيف القدر المسلط على رقاب الخونة، ولئن كانت للمكان في الرواية بطولة ناصعة، فللمكان في شخصية نور التجلي الأروع، يتحول تاريخ مصر كله وعبقرياته كلها كما لو كان كوبا من العصير شربته نور وتمثلته فلم يخرج منه شيء بطريق الإفراز الطبيعي، كان إفراز شخصية نور من العبقرية والذكاء موازيا لسر التحنيط لدى أجدادها المصريين لا السعوديين، ونندهش كيف استطاعت الكاتبة أن تصيغ هذه الشخصية من لحم ودم في مزيج رائع من الواقعية والغرائبية في سبيكة هذه المسخوطة كما كان يسميها من لا يرضون عنها.
اليوم في حياة نور يساوي عشر سنوات أو مائة سنة مما نعد، ولعل الإشارة هنا إلى هذا المزج بين الحضارة المصرية من جهة أمها والأمريكية من جهة أبيها والعربية السعودية من جهة جدها، ربما أنتج هذا المزج تلك التركيبة الغريبة. ولا بد أن يتطوح العقل إلى الحضارة الغربية التي سبقتنا بمئات السنين، فكانت نور تجسيدا نابضا لهذا البون الشاسع!
تتعلم اللغات وتمهر في علوم الكمبيوتر وهي في الرابعة من عمرها، وتعلم صلاح صديقها الوحيد ما لا يمكن لأية مؤسسة تعليمية أن تعلمه لأحد في عشرات السنين، وهي بوصف صلاح لها: أنقى وأروع وأطهر من في هذه الحياة.
والأهم في شخصية نور، امتلاكها طاقة من الجبروت مكنتها من إرساء العدل الناجز في محيط القرية، برغم نحولها واقترابها من الموت الجسدي، تقع المعجزة على يد نور/ العلم/ الثقافة/ الحكمة، في مواجهة الجهل/ التخلف/ الفوضى، تؤدي نور مهمتها وتمضي مع الماضين إلى سراديب الذكرى والتاريخ مخلفة على ميت رهينة شمسا طال غيابها. 
ولنور رسائل موجهة إلى أبيها الدكتور نور الدين، رسائل متسلسلة تكاد تكون ظلا لما يحدث في القرية، لهذه الرسائل أهمية كبيرة في سياقات البناء الدرامي نتعرض لها في موضعها. 
الغريب أن نور تكلمت في المهد، قالت لأمها وهي بنت ثمانية أشهر: "نعم، هذا الشيطان هو أخي الأصغر". وتتوالى كرامات ستنا نور بما يثير الكثير من الدهشة عبر فصول الرواية.
ـ ليلى: بنت أدهم الشواف الوحيدة، أمها هاجر، مختلفة عن أمها تماما، متحررة إلى حد كبير، تحب الدكتور نور الدين "الأمريكي" وتنجب منه ابنتها نور، ويهجرها الدكتور نور الدين ويختفي تماما، تحب مايكل سمير، وتراهما نور في علاقة محرمة وتعرف أسرار أمها، وتنكرها، إلى أن تأمرها بالهجرة، فتهاجر ليلى، ويهاجر مايكل سمير، ويتزوجان في أمريكا.
ـ الشيخ برهامي: والشيخ خالد الطوبجي: الأول دجال بطريق ادعاء السحر وادعاء تسخير الجن، ولم يأت اسمه إلا مقرونا بـ "الشيخ"، ألا يدعونا ذلك إلى إعادة النظر في استحقاق صفة المشيخة، أليست إشارة إلى عموم الفوضى التي نعيشها، أما الثاني فشيخ من شيوخ الفضائيات الذين كثروا، وباتت فتاواهم مثار جدل بين الناس، وشاركوا إعلاميي "التوك شوز" في سبوبة الملايين التي يمتصونها عن غير استحقاق، وكلاهما وجه لذات العملة المضللة المنتفعة من الجهل المتفشي، هذا بوهم السحر، وهذا بوهم الوكالة عن الله "تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا". ويلقيان مصيرهما من اللعنة بالقصاص الذي رأته ـ أيضا ـ من تملك الوكالة عن العقل الجمعي المفترض فيه الصواب من وجهة نظرها!
ـ ابن ستيتة: دجال آخر جاء بطريقة عجيبة، ماتت أمه وهي حامل به في أيامها الأخيرة، بعد دفنها خرج إلى الدنيا قبل إغلاق القبر عليها، وظهرت عليه غرائب في طفولته، ونبوغ في حفظ القرآن الكريم، ثم امتهن الدجل، وكانت له مع السيدات ممارسات جنسية، وعلاقة جنسية تامة بالبنت اللقيطة سلمى، وكان لا بد أن يلحق بالملعونين.
ـ عمَّار المصري: المهندس الذي بنى لأدهم هذا القصر، وتدل معطيات الأحداث أن أدهم قتله ودفنه في المقبرة الرخامية تحت المقبرة الفرعونية، ليلقى جزاء سنمار فلا يبوح بسر إخفاء المقبرة عن لصوص الآثار، وقد يكون قتله ودفنه حتى لا يدل أحدا على طريق المقبرة، وقد أحب أدهم الشواف ميت رهينة حبا عظيما، أكثر من حبه لهاجر بحسب السرد في الرواية.
واسمه عمار ولقبه المصري، وكان أجدادنا المصريون معروفين بأنهم البناءون العظماء.. وامتداد هذه الصفة في أحفادهم أمر له دلالات إيجابية في حق هذا الجيل أو هذه الأجيال في نصف القرن الأخير تقريبا..
ـ عزوز بن بهانة: أبوه عبد الستار الذي اختار أن يكون عبدا لعبد الجبار، ويزوجه عبد الجبار من كائن شائه هو بهانة، ويقتلها، ويتولى عبد الجبار تربيته ليكون ذراعه الأيمن في النبش عن الآثار. ويسوقه قدره إلى اللحاق بالملعونين.
نلاحظ: عزوز بن بهانة، وابن ستيتة.. ومع أن صلاح كان يتيما مثلهما إلا أن أحدا لم يقل صلاح بن عفاف، وهنا تمجد الرواية العقل والعلم والأخلاق، وتلك صفات زينت شخصية صلاح، وخلا منها عزوز وابن ستيتة.
ـ متولي الحرامي، وهو نفسه تعود على هذا الاسم، خفير حراسة الآثار، ولكنه لص، وكان ضمن مجموعة عبد الجبار، أكلته اللعنة التي أكلتهم.
ـ سارة، وإستير: فتاتان مسيحيتان الأولى أخت مايكل سمير، والثانية خطيبته ثم زوجته، بعد أن تلقى مايكل سمير تحذيرات من التمادي في حب ليلى، من المقدس فانوس، ومن أخته سارة، وتهديدا من عبد الجبار، يتزوج إستير بنت خالته، وتتعرض سارة لهجوم وحشي واغتصاب قذر من شباب ميت رهينة التابعين للشيخ خالد الطوبجي، ثم تنسى الأمر حتى لا تزداد الأمور سوءا وتؤدي إلى فتنة طائفية بين الطائفتين. واختيار اسم سارة له دلالة تاريخية تستدعي السيدة سارة الزوجة الأولى لسيدنا إبراهيم عليه وعليها السلام، وإشارة أيضا إلى وحدة جذر هذه الأمة المسلمة + المسيحية على أرض مصر الطيبة السموحة. ولا يبتعد اسم إستير الذي يحتوي من اسم سارة على حروف سارة كاملة!
ـ الخالة تبارك وابنها شحاتة وزوجته رحمة وابنتها عفاف وابنها صلاح، أسرة طيبة في أربعة أجيال تؤرخ لحدوتة الرواية، وأسماؤهم كلها من نبع واحد، كأن هذه الأسرة إطار حقيقي لميت رهينة يضع الأصالة في مواجهة الزيف، والأمانة مقابل الخيانة، آخرها صلاح بعد أن ينجو من انفجار القصر وأمه عفاف وخطيبته داليا.
بالإضافة إلى شخصيات ثانوية مكملة يرد ذكرها في السياق.

بدايات الفصول وارتباطها بالمحتوى:
لم تسمِّ الكاتبة أقسام الرواية فصولا، وإنما عناوين، يؤدي كل عنوان دور بداية فصل، وللتنظيم فقط أضع أرقاما للفقرات الشبيهة بالفصول.
1 ـ الغريب: يظهر ويختفي في الفصل الأول، ولذلك جاء عنوان الفصل عنوانا محيطا بالغريب إحاطة تامة، ولو كان له وجود بعد هذا الفصل لما وسمت الكاتبة هذا الفصل بسمة: الغريب. هو فصل يحتوي على قصة مكتملة الأركان، غريب مختفٍ، وله غرابة أخرى وهي أنه برغم اختفائه ترك الأثرَ الفاعل في تحريك أحداث الرواية متمثلا في نور ابنة بنته ليلى، نور هذه العبقرية الفذة، والتي دخلنا عالم ميت رهينة وخرجنا دون أن نتمكن من الحكم أشريرة هي أم خيرة؟! وغرابة أخرى أن يجعل من المقبرة المصرية لغزا يستعصي حله على محترفي النهب، وعلى الدجالين والحفارين بكل الأساليب.
والغرابة الثالثة أن هذا الغريب ونسله تركوا ميت رهينة على غير ما استقبلتهم به، ولم يؤثر أحد قبله "ربما ولا بعده" تأثيره!!
وغريب أن يلتهم اللقمة الطيبة من فم ابن البلد ببساطة شديدة، وتزوج الغريب أدهم من القريبة هاجر! وغريب أن يشوف الشواف طمع الطامعين في المقبرة وعلى رأسهم عبد الجبار، شاف الشواف ذلك وهو على فراش الموت، وأمَّن المقبرة بما أعيا عقول الجميع.. غريب كل ما فيه غريب حقا. أحال العشة إلى قصر، حفر بركة هاجر التي خلدتها ذاكرة ميت رهينة، منح لطفي مرجيحة والد هاجر فرصة أن يحج وأن يدفن بجوار حبيبه النبي صلى الله عليه وسلم. ولا تخفى صلة الرحم بين حروف الغرابة الثلاثة: غ. ر. ب، وبين الغراب النابش في الأرض، وغرائبية كثير من مشاهد الرواية. وأضيف غرابة جديدة، وهي أن تتمكن كاتبة الرواية من تقديم هذه الحالة في سرد منطقي سلس برئ من الترهل، حتى الجمل الوصفية التي هي مظنة الإسهاب جاءت موجزة وغير ملغزة ولا غامضة ولا في لغة حوشية مهجورة، تصف سهير المصادفة هاجر المصرية في أكثر من موضع، أختار واحدا من هذه المواضع:
"قامة طويلة خيزرانية ريَّانة، ووجه أبيض حليبي وأنف صغير ومستقيم بشموخ، وشفتان حمراوان وممتلئتان مثل وردة تتفتح، وعينان واسعتان كحيلتان تحتلان نصف وجهها، وطابع حسن فاتن في ذقنها، وشعر فاحم يصل في شلالات لا تنتهي إلى وركيها". صـ10
وآخر خبر عن هذا الغريب:
"يقولون إن أدهم مات بعد زيارة عبد الجبار بأيام، كأنه لم يشأ أن يترك الدنيا إلا بعد أن يرى أول من فتح له أبواب ميت رهينة، ويقول معمرو القرية بأنه لا شيء تبدل فيها مذ موت أدهم، سوى موت بعض الأهالي وولادة بعضهم، واختفاء بعض الحقول وزراعة ..إلخ". صـ 35 
هكذا انسحبت الغرابة على مساحة الفصل الأول حول هذا الغريب.
2 ـ نابش القبور: بهذه البنية "المبتأ والمضاف إليه" وسمت الكاتبةُ الفصلَ الثاني، وكما جاء عنوان: الغريب، من قبل مبتدأ دون خبر "الغريب كائن" أو خبرا دون مبتدأ "هو الغريب" جاء الفصل الثاني، و"نابش" اسم الفاعل من: نبشَ، واسم الفاعل على ما هو معروف يفيد الاستمرارية في الفعل، بما يعني خروج الصفة عن أن تنحصر في شخصية عبد الجبار، بل تنسحب الصفة على كثرة من النابشين في كل عصر، والنبش الذي لاحظناه نبش فنيٌّ، إنْ في اللغة، وإنْ في الأحداث، ونبش القبور تيمة تراثية شاعت على نابشي القبور لسرقة الأكفان وما شابه ذلك، نحن هنا أمام نبش آخر. رحَّبَ عبد الجبار برغم ثرائه الفاحش أن يحفر البركة ويعبث في طبقات الأرض تلبية لرغبة ليلى، وهو بنفسه لا يبرح العمال وهم يحفرون:
"لا يصدق عبد الجبار أن السبب في تنظيف البركة وإعادتها إلى الحياة كما طلبت هو خوفها من الثعابين، فعيناها الذاهبتان بعيدا تقولان عكس ذلك، ورغم أنه لا يستطيع تخمين أسبابها بعد، إلا أنه يردد صاغرا: "حاضر"، فتصفق بيديها مثل طفلة وهي تغمز له بعينها اليمنى: "حلو، وبدلا من أن تحفر في الظلام سرا، احفر في عز النهار" واقتربت من أذنه وهي تدعي الهمس رغم استحالة أن يسمعهما أحد: "خلي اللعب على المكشوف يا عم عبده". صـ 48
نبشت ليلى في أعماق غريمها في سبيل الهدف، وكاشفته.
نبشة أخرى حين لفته عزوز بن بهانة: "أدهم باشا ضيع فلوسه عبثا يا عم الحاج، يحفر حفرة طولها خمسة أمتار ثم يسدها بالحجارة، ويحفر إلى جوارها حفرة طولها متر واحد، كان رجلا عبيطا، الله يرحمه". صـ54 
لم ينتبه عبد الجبار إلى إشارة عزوز الذي تظنه القرية عبيطا، لقد كانت المقبرة التي داخ عبد الجبار في البحث عنها راقدة تحت هذه الحفرة!
ومع نابش القبور نجد نبشا في الأنساب، تسرد كاتبتنا حكاية عزوز بن بهانة، وكان أبوه عبد الستار عبدا لعبد الجبار، زوجه عبد الجبار من بهانة، وسقته بهانة صرصورا مغليا مع الشاي، فذبحها، وكان عزوز حديث الولادة، فضمه عبد الجبار إليه، ونرى جانبا من عشرة عبد الستار لبهانة وكيف كانت نبشا آخر في تربة النسل ليجيئ هذا العزوز ذو الصفتين النقيضتين، يبدو عليه العبط، ولكنه ذكي، ويكفي دليلا على ذكائه تعجبه من الحفرتين اللتين تحتهما المقبرة المبتغاة!
وتنبش سهير المصادفة في جمال هاجر لتستخرج جمالا آخر في ابنتها، على طريقتها في الوصف الدقيق غير الممل:
"ليلى عيناها واسعتان مثل فنجانين من الصيني مملوئين بالعسل، عندما يمعن أحدهم إليهما النظر، يغرق في عسلهما دون أمل في نجاته، كسر أدهم الشواف بشرة أمها هاجر البيضاء بسمرته، فجاءت بشرتها بلون الخمر مع غمازتين فاتنتين وشفتين ممتلئتين وعود فارع، على الرغم من نحافته، إلا أنه مدملج يهتز عندما تمشي، مثل غصن بان يتمايل في أول الربيع، إنها حتى لا يمكن مقارنتها بأمها هاجر التي تبدو إلى جوارها مجرد دمية جميلة خرساء". صـ41
وآخر نبشة ذكية لعبد الجبار في كشفه لخطط هاجر وليلى:
"يا بنت الأبالسة! كيف طبختِ الموضوع بهذا الشكل؟ وطبعا مطلوب مني تصوير هذه الشهادات مئة صورة لأهل البلد يا هاجر هانم حتى يعرفوا أنها ليست بنت حرام" صـ61
3 ـ بركة هاجر: أيقونة استمدت شهرتها من شخصية هاجر، وكما كانت هاجر الأم الأولى صاحبة عين ماء زمزم، كانت هاجر المعاصرة على رأس بركة ماء، وبالتوازي مع انفجار الماء من العين ومن البركة تنفجر من بركة الحكايا ملامح معمقة لأهل ميت رهينة، وكالتقاء الماء الجوفي من الطلمبة مع ماء النيل تجتمع في أبناء ميت رهينة صفات متضادة، تلوح منذ افتتاح هذا الفصل:
"فرغم أن أعينهم مصوبة إلى الأرض، إلا أن أنوفهم الكبيرة متجهة إلى السماء، مما يجعل أعينهم تشي بالحزن واللامبالاة والكبر والانكسار في الوقت نفسه، يهيأ للعابر أنهم مغلفون بغلالة شفافة ما، لا يستطيع أحد معرفة مكوناتها... قد تتخشب ملامحهم وهم يحدثونه بكلمات مرحبة وحلوة، وقد تلين ملامحهم وهم يحدثونه بخشونة". صـ 63، 64
وإنَّ لهاجر لبركة أخرى، حيطانها ملساء، إنها العزوبة الجسدية والروحية بعد موت أدهم، وتستيقظ لتجد جذوة حبها تشتعل، فيما ـ يبدو لها ـ أن عبد الجبار لم يعد يهتم بأمرها، إلا أنه هو الآخر واقع في البركة، ويمنعه إباؤه وغلبة روح الانتقام عليه، انتقام منها لاستسلامها لرغبة أبيها في الزواج من أدهم، والأنكى من ذلك ذلك الحجر الذي رطمه به أبوها ليبتعد، فشج رأسه.
وما أعمقها من بركة!
"تعرف أنه لن يسامحها أبدا، لكنها بينها وبين نفسها تتهمه بالغباء، وأنه مثل الثور الهائج لا يستطيع التفكير، أوَلم يكن عليه انتظارها عامين فقط لا غير؟ لقد مات أدهم بعد زواجهما بعامين، فلماذا تعجَّلَ على هذا النحو في الزواج من هند أم منخار؟!". صـ66
وتعيش هاجر في بركة شبه القطيعة لها من أهل القرية لأنها انتقلت إلى الثراء والعز من دونهم وتركتهم كما هم:
"فهن لن يسامحن هاجر أبدا، التي خلفتهن منذ زمن طويل في فقرهن، وغادرتهن وهي بينهن لتعيش حياة الأثرياء بزواجها برجل ليس من بني جلدتها، بل كانت تتعمد أحيانا أن تأتي بالبنات اللاتي لعبت معهن الحجلة أمام عشتها ليخدمنها ويخبزن لها خبزها، هن وأمهاتهن". صـ76
أما نصيب عبد الجبار من بركة هاجر فهو في حواره مع أدهم:
"الحقيقة يا باشا أن الحياة بقصورها وبحارها وجبالها مثلها مثل حفرة قبر هائلة، ونحن ينادَى علينا الواحد بعد الآخر لنهبط فيها قليلا... نكبر لنموت وتظل سيرتنا بها يوما بعض يوم أو آلاف السنين، سيان، لأن اليوم عند الله بألف سنة مما يعدون، المهم أن الواحد منا يأخذ دورته في الحياة حتى يسمع صوتا يصم أذنيه: "إللي بعده"." صـ84
ولبركة هاجر أهمية أن تحتها المقبرة المفقودة، هذا ما استطاعت نور أن تفهمه من مخطوط جدها أدهم الشواف.
4 ـ مقبرة تواصل اختفاءها: تماما كما التصق فعل الديمومة والاستمرار على حركة الحياة في ميت رهينة طيلة آلاف السنين:
"سيرى سواقي ومحاريث لم تتغير كثيرا منذ آلاف السنين، مذ اخترع الإنسان هاهنا الزراعة في وادي النيل". صـ90
بل تقع المقبرة التي تواصل الاختفاء موازية لتواصل التوقف الحضاري الذي عانينا ونعاني منه:
"وقد يضحك عندما يرى الصبي الذي يقف كحارس مرمى يترك فجأة الكرة لتخترق الشبكة الوهمية المحددة بحجرين كبيرين، ويجري ليصطاد قرموطا نصف حي ونصف ميت". صـ90 
كما يتوازى اختفاؤها باستمرار مع اختفاء الدكتور نور الدين والد الطفلة نور، ومع استمرار عبد الجبار في الحفر بلا طائل!
يغيب عبد الجبار سنة مطرودا ومخاصَمًا من ليلى، ثم يعود مع ريتاج، وكان قد مارس الحفر خلسة مع كل ليل حتى بزوغ الفجر فيسارع بردم الموقع قبل أن ينتبه له أحد:
"فتنطلقان في الثرثرة، كأن تقول لها ريتاج: "عبد الجبار". فتجيبها ليلى متبرمة وشعرها الكستنائي المتموج الجميل يهتز: ما زال يحفر الأرض، ولا يجد شيئا"... "تنفرج أسارير ريتاج، وتسأل: "أمممم. وهو"، فتنظر ليلى إلى أمها وابنتها، وتجيبها باقتضاب: "الوضع كما هو عليه". لا تستطيع نور تخمين من المقصود بـ "هو" هل يقصدان أباها الذي تركها جنينا في بطن ليلى وهرب؟" صـ95 
ثم في جو سيريالي محير نمر بالخالة تبارك التي فقدت ابنها شحاته في حادث مدفع الإفطار الذي طيَّرَ ذراعه، وكان سببا في موته، وكيف تكون الفاجعة الكبيرة سببا في حال شديد الغرابة تصيب أمه، وربما كان التهامها لأي طعام يصادفها حتى صارت في حجم نصف فيل طريقة مختلفة للانتحار، انتحار بالتخمة أم ذهاب للعقل، ولكن ينفي ذهوبية العقل أن رحمة زوج ابنها تعرف تماما ما تقصده تبارك، ويظل هذا اللغز مضفيا نوعا من الغرابة التي تكتنف الريف المشغول بالميثولوجيا والعفاريت والسحر، بل نوعا من غرابة الخالة تبارك نفسها التي ما كفت عن تحذيرهم بأنه ستسيل في ميت رهينة دماء كثيرة:
"وإنها منذ هذا اليوم لم تخرج من بيتها لأي سبب، وإنما ظلت تأكل كل ما يقابلها من طعام حتى أخذ لحمها ينمو حولها دون توقف وصارت في وزن نصف فيل.
رحمة وحدها كانت تعرف ما تخطط له؛ فتخفي عنها الطعام وتصرخ في وجهها أن تكف عن الأكل حتى يستطيعوا إخراجها من الغرفة وحملها إلى قبر ابنها شحاتة لترقد إلى جواره". صـ106
لعلها ـ في نظرة غريبة منا ـ تأكل لها ولابنها وتظن ذلك واصلا إليه، وربما تعوض لحما آخر بمقدار اللحم الذي دفنوه "جثة شحاتة"، وتصريح الكاتبة بأن رحمة وحدها تعرف ما تخطط له، يزيد الأمر حيرة، لأن هناك من يعرف، فكيف لا نعرف، ولا أظنننا أقل ذكاء من الست رحمة! 
وظل آخر لمعنى التواصل نلمحه في همس نور لأمها في لعبة الأسرار، تقول نور هامسة لأمها: "أنا سأعيش حتى أدفن كل من لا يعجبني هنا". صـ 119 
5 ـ نبوءة سوداء: برغم بروز مفردة نبوءة، وارتباطها القوي بالخالة تبارك، إلا أننا في هذا الفصل لا نجد أثرا للخالة تبارك ولا لنبوءتها، إلا أنَّ أحداثا خطيرة تقع، أخطرها طرد الدكتور نور الدين لليلى فجأة، على غير توقع المتابع للأحداث، وعلى غير توقعها هي نفسها! فهل يمثل هذا الحدث جزءا من نبوءة الخالة تبارك: "ستسيل دماء كثيرة في ميت رهينة"، وهل لهذه العلاقة بين ليلى والدكتور نور الدين موقع الجذر المنبت لهذه الدماء؟ وهل هذا الفراق بمثابة إسالة دماء كثيرة بالمعنى لا بالمادة؟
"كانت الحروف تخرج من بين شفتيه في البداية بصعوبة، كأنه هو الضحية المعذب: "أرجوك، ارحلي إلى حال سبيلك يا ليلى، فأنا لم أبق على امرأة معي لمدة عام أبدا، وجودك أصبح خطرا عليَّ"، حزنُ صوته يمزقها تمزيقا، ولا تستطيع النهوض من مكانها لتستر عريها الذي خجلت منه فجأة: "هل تتكلم بجد؟!"، يكشر عن أسنانه ويزداد غيظه حدة: "أنا لا أجيد المزاح، وليس لديَّ وقت له... اذهبي، رجاء، بهدوء وسلام ودون دموع، ودون قرف ميلودرامي، فأنا لا أحب الميلودراما". صـ141، 142
ويقول لها: "هذا هو جسدك، لم تنقص منه خلية واحدة، كامل، وحر، وهو ملكك وحدك، تستطيعين أن تفعلي به ما تشائين، لكن بعيدا عني".
ويقول لها: "أنتِ ضحية معتقدات شرقية غريبة يا ليلى، لقد استمتعنا كل منا بالآخر، وانتهى الأمر، وأنا على كل حال لم أعدك بشيء". صـ142
هذا هو منطق الاستعمار بالضبط! يغوي البلدان المستضعفة بوعوده البراقة الكاذبة، فينهب ثرواتها ويذل شعوبها، ويعطل نهضتها، ويهزم حضارتها ويفرغ تواريخها من أي مجد، حتى إذا تحقق له ما أراد، إذا به يلغي انتدابه عليها فجأة ويتركها فريسة للعصابات.
هذا هو الدم الذي أفهمه من نبوءة الخالة تبارك!
أم أن نور كانت تنتقم لأمها ـ فحسب ـ من الدكتور نور الدين الذي أغواها لتسلك معه سلوكا يتضاد مع البيئة المحافظة التي أسسها والدها أدهم الشواف، وهي تقاليد ميت رهينة المنتمية إلى الثقافة ذاتها التي ينتمي لها أدهم؟ وعلى كل حال ففي هذا الفصل تبدأ حلقات الدم في التوالي، ألم يسبق أن اعترفت نور في إحدى رسائلها لنور الدين بأنها بدأت أولى جرائمها بابن ستيتة؟
وماذا جنى ابن ستيتة؟ لم نره يحفر مع عبد الجبار، وليس من سارقي الآثار، لا يتبقى إلا أن نفكر في يوم أن زارته مع جدتها هاجر وهي بنت أربع سنوات، وأجلسها على رجليه كما تعود أن يفعل مع النساء، وبالذات المسنات منهن، فهل تحمل له في قلبها ضغنا لإجلاسه إياها كما يجلسهن؟ هل بدر منه ـ على رغم ضآلة جسمها ـ ما يؤهله للانضمام إلى قائمة الضحايا؟!
تقول له نور في آخر الرسالة رقم 2 صـ131 "لقد بدأت عملي كسفاحة منذ وقت قصير، وكان ابن ستيتة هو أول ضحاياي. المهم وكما وعدتك سأخبرك في النهاية أين خبأت جثث ضحاياي. فقط إذا ما استطعت معي صبرا!" 
وفي أول الرسالة ذاتها: "أنا أحملك أيضا مسئولية ضياع أول عاصمة مدنية في العالم". 
وتطالعنا الرسالة الثالثة صـ146 بوضوح: "نحن نتقدم يا دكتور،... ولكن ماذا أفعل لك وأنت تجبرني أن أشرح لك دوافعي، وأسهب في وصف المكان ووصف المقتولين، الذين هم قتلة في الوقت نفسه".
سبع رسائل تنسخها ليلى من جهاز كمبيوتر نور، ولا تدري كما لا ندري هل كانت ثمة رسائل متبادلة بينها وبين الدكتور نورد الدين؟ أم هل هو موجود ومخبَّأ في مكان ما لا يعرفه غيرها؟ لا نعرف من أمر الرسائل إلا نصوصها التي تحمل كثيرا من العلامات التي تنتظر قراءتها.
تمثل هذه الرسائل السبع رواية أخرى في بطن رواية لعنة ميت رهينة، رواية تجنح إلى التفكير البوليسي، أو الجرائمي، وملامح فنية تعيد إلى الذاكرة ما كنا قرأناه لأجاثا كريستي وأفلام هتشكوك التي لا تُنسى، غير أن الجريمة هنا ملساء هامسة، تختلف عن المألوف من أدب الجريمة الزاعق، الجرائم والقتل والدم والدفن تحت التراب وتحلل الأجساد وفناؤها، كل ذلك يمر في أذهاننا مرورا طيفيا يشبه اجتراحَ الظل والضوء كل منهما للآخر، وتبقى للكاتبة ميزة هذا السَّرَيان المدهش!
6 ـ سفاحة ميت رهينة: تتكشف الخيوط بشكل كبير في هذا الفصل، وتقل النقلات ما بين الخيوط، لتركز على قصتين محوريتين، عبد الجبار وابن ستيتة، وفي جملة عابرة نجد أن نور أشارت إلى موضع المقبرة، وتجرنا العبارة إلى ما تصوره عبد الجبار خيطا يوصله إلى المقبرة، وتكون بداية سيره نحو حتفه، يُجَلِّي هذا الفصل كونها هي السفاحة الحقيقية، ويظل إعجازها في ارتكاب هذه الجرائم لغزا محيرا، إلا أننا لا نحتار كثيرا إذا قسناه بما عرفنا من حدة ذكائها، تتنهي من ابن ستيتة، وتنتهي من عبد الجبار. مررنا بما أصاب ابن ستيتة من لعنتها حين شاب في غمضة عين، مررنا برسالة مهمة من رسائلها التي وقعت في يد أمها ليلى:
"... كل من قتلتهم يطاردونني بلا رحمة، ويجبرونني على ألا أنسى لحظة من لحظات حياتهم، وحتى وصولهم إلى حتفهم. عرفت أنني غريبة عن سائر البشر... هل تصدق أنني أتذكر حتى شكل الهوام التي كانت تمر فوق رأسي وأنا بعد في مهدي؟!..." صـ 159ـ 160
وتقول عنها الكاتبة في السرد: "وهي التي قرأت ديوان الشعر العربي كله ابتداء من الشعر الجاهلي حتى آخر ديوان شعر نثري". صـ 161 
وهذه علامة صادقة تؤكد كون نور شخصية معنوية، شخصية حالة، موضوع، فكرة، قارئة واعية مثقفة متابعة لتفاصيل واقع الأمة، والقادرة على مضاهاة كل هذه التفاصيل برموزها المستقرة في الوعي بهذا الواقع. 
ونقفز إلى مشهد الختام لعبد الجبار على يديها، وهي تكلمه بآخر ما سيسمعه في حياته:
"ـ هل تتذكر كل ما نهبته منها يا عبد الجبار؟
ـ هل قمت بتذويب التماثيل الذهبية التي تجاوز عمرها آلاف السنوات وسبكتها في سبائك ذهبية؟
ـ لماذا تريد الاستيلاء على بقية محتوياتها يا عبد الجبار؟
ـ هل تعرف أنك أحط مَن عرفت ميت رهينة؟! لقد أضعت الزرع والضرع، واستبدلت بهما قمصان نوم ملونة، خنقت زقزقة العصافير وهديل الحمام، وأطلقت في سماء القرية أصواتا قبيحة لمغنين تطلقها دون توقف أجهزتك الكهربائية وتلفزيوناتك الكئيبة، لقد أضعت الأرض وما فوقها وما تحتها.
آه لو يستطيع حتى أن يتمتم لقال لهذا المسخ إنها أرض أجداده وإنه حفيدهم، وما زال حيا، فلماذا تضع الحكومة إرثه في المتاحف ليتفرج عليه الغرباء؟ إنه لم يلعب أحد في أصله مثلها، وإنها كاذبة، فلقد أخذ ذهب المقبرة وحوله إلى أراض، زرع عليها ذرة وفولا وقطنا وربى على حشائشها بقرا وجمالا وأغناما ليطعم الناس ويكسو أبدانهم العارية" صـ 169 
قصدتُ من إيراد هذه الفقرة الطويلة أن نضع أيدينا على فلسفة المستبد الذي يحتكر مقدرات الناس ناسبًا لنفسه إطعامهم وكسوتهم، ويحل لنفسه وضع يده على ثرواتهم، في مقابل اللقمة والهدمة، وهو منطق استبدادي واستعماري، أقنع به عبد الجبار نفسه، بينما يستند منطقها على قدسية المال العام، وقدسية الأثر التاريخي الذي يحمل هوية الأمة والعلامة المؤكدة لحضارتها الرائدة...
7 ـ شَرَكٌ ينادي فرائسه: في الرسالة الخامسة من رسائلها، تستمر نور في مخاطبة أبيها، تحدثه عن ميت رهينة، ولكننا لا نرى ميت رهينة بقدر ما نرى مصر كلها موضوعا لهذه الأسئلة:
"ما الذي يغري الغرباء في ميت رهينة يا دكتور؟ حقيقة، أكثر ما يحيرني هو تكالب الغرباء على هذه البقعة من الأرض، يأتون إليها هاربين من ظلم إخوتهم أو غزاة، أو حتى عاشقين؛ فتكرمهم وتأويهم، ولكنهم لا يتركونها إلا وهي مجروحة ومغتصبة ومنهكة القوى، ما الذي يغريهم فيها منذ أهدت تاريخهم فجره؟!
ما الذي يجعلهم يعطلونها عن الوقوف على إرثها الذهبي الأسطوري برأس مرفوع، لكي تمسح التراب عن آثار مجدها، وتعيد تقديمه إلى العالم من جديد؟! تقريبا لم توجد جنسية في الأرض إلا وطمعت في الاستحواذ على بريق مقابرها". صـ177
بهذه الحرقة والألم تتساءل الكاتبة على لسان أهم شخصيات الرواية لتمنحها شرف هذه الحمولة من الوطنية والحمية للوطن، بل يتحول إرث ميت رهينة / مصر كله إلى معنى الذهب أنفس ما نعرف من المعادن، ومن هذه القيمة لا من غيرها، تتمدد فكرة الانتقام وتنمو غريزة الثأر في نفس الطفلة/ الحالة/ الفكرة: نور، فتواري جثث هؤلاء المنحرفين واحدا تلو الآخر في المقبرة الرخامية التي تقع تحت المقبرة الفرعونية لتكون رمزا لعلو التاريخ والحضارة المصرية العظيمة فوق عظام ناهبيها، فهل فعلنا في المستعمرين ما فعلت نور في الناهبين؟!
وتحاول ليلى أن تحلل فقرات من رسائل ابنتها نور، وتضاهيها بالواقع، فترسل رحمة لتتقصى ابن ستيتة، وتعود رحمة بخبر اختفائه، كما قرأت في إحدى الرسائل على لسان نور أن ابن ستيتة هو أحد ضحاياها: "في النهاية تعرف منها ليلى ما تريد أن تعرفه: اختفى ابن ستيتة منذ شهرين فجأة، ولا يوجد له أي أثر في ميت رهينة، ونبش جيرانه غرفته القذرة، لعلهم يجدون النقود أو الحلي الذهبية التي كان يأخذها من نسوتهم، ولكنهم لم يجدوا شيئا.
ترتعش يد ليلى..." صـ179
لقد بدأت رسائلها من صـ 114 باعترافها بأنها سفاحة ميت رهينة، وفي الرسالة الثانية 
صـ 131 "لقد بدأت عملي كسفاحة منذ وقت قصير، وكان ابن ستيتة هو أول ضحاياي، المهم وكما وعدتك سأخبرك في النهاية أين خبأت جثث ضحاياي. فقط إذا ما استطعت معي صبرا"
فإذا عرفنا أنها توجه الحديث إليه بضمير المخاطب وبقرائن الحضور، مثل: "أنا لا أريدك أن تهز رأسك هكذا كما تهز بطة سمينة رأسها وهي تمشي على حافة ترعة المريوطية، أريدك أن تفكر معي في الأمر قليلا". صـ178
إذا عرفنا ذلك عرفنا أن ثمة رواية داخل الرواية أو خلفها، رواية جلب الدكتور نور الدين وحبسه خفية عن كل العيون، وأغامر فأقول وعن عيون المتلقين كذلك، بحيث أن الكاتبة استولت على ذكاء نور في مواقف عدة، ومن أبرزها أنها نجحت في إخفاء الوجه الآخر من لعنة ميت رهينة فلا يدركه القارئ، ولا تستسلم له الحقائق إلا بعد جهدٍ كبير.
إن الدكتور نور الدين ليس فقط موجودا ومحبوسا في مكان ما، بل إنها تجبره على مشاركتها فيذعن، كما سنرى في قادم الأحداث!
ويقع هذا الفصل "شرك ينادي فرائسه" موقع الشرك للقارئ، رسمت سهير المصادفة فخاخها عبر الفصول السابقة، ثم أحكمت عقدتها، وفي هذا الفصل أضاءت سهير فخاخها عبر الفصول السابقة، ثم أحكمت عقدتها، وفي هذا الفصل أضاءت الطريقَ أمامنا، لعلنا نخرج من هذا النفق، أو لعلنا ننجو من شرك الحيرة، ولكننا على أي حال واقعون في شرك الدهشة لم نزل!
وفي الرسالة رقم 6 وهي الرسالة قبل الأخيرة نجد ما يشبه الفلسفة الأخلاقية التي تبني عليها نور نظريتها في التخلص من هؤلاء المنحرفين، وتقرأ ليلى:
".. لا يا دكتور، لقد تطور الشر كثيرا حتى تكاد تراه في أجساد ملائكية.
على كل حال، أنا أعرف أنك لا تفقه شيئا مما أقول، فأنت عشت طوال عمرك بعيدا، تحت حكم القانون، وليس حكم الضمائر، نحن هنا يحكمنا الضمير، لم نعترف بعد بحكم بضعة كلمات منمقة في مواد وبنود وفصول وأحكام، الناس في بلادي يتحايلون على مثل هذه الأشياء ويستخفون بها ويعودون مرة أخرى إلى الأحكام التي تمليها عليهم ضمائرهم، وهم متمسكون بها، سواء كانت هذه الضمائر نقية أو ملوثة بالسواد، فأنَّى لك أن تفهم ذلك وأنت بعيد عن ميت رهينة؟!" صـ 180
"لعلك تسأل نفسك الآن: وماذا عني أنا نفسي، كروح شريرة اتفق الجميع على كونها شيطانة؟ وأقول لك: سترى أنني ضمن هذه القائمة أيضا، ولكنك لا تستطيع معي صبرا" صـ181
في النصف الأخير من هذا الفصل نقرأ خريطة المقبرة الفرعونية المختفية، وتحتها مباشرة المقبرة الرخامية التي بناها أدهم الشواف وتدفن فيها نور ضحاياها، نور تكلف سلمى بإحضار الشيخ برهامي، ونرى جريمة الخلاص منهما في ضربة واحدة، لينتهي الفصل بهذه الرسالة السابعة والأخيرة بهذا اليقين القوي:
"كدنا نصل يا دكتور نور الدين، ولعلك لاحظت معي كيف هو صعب الإجهاز على امرأة". صـ202 
8 ـ ما يصعب محوه: ونحن ننبش في ذاكرة الجمال عبر دوال النص نربطها بمدلولاتها، نجد صفاتٍ يصعب محوها بالفعل، ونمر بغريزة الطمع التي تملكت هند القاضي امرأة عبد الجبار، يختفي زوجها وتسكنها الشهوة التي أودت به، ولا تفلت هند من الملاحظة الدقيقة التي تمارسها نور عليها وعلى أمثالها الكثر:
"في الأيام القليلة الماضية تأكدت نور أن هند القاضي لم تأت لزيارة القصر لكي تعترف بمحبة عبد الجبار لهاجر، وإنما لكي تضع قدمها على الأرض، وتجلس فوق المقبرة التي فشل زوجها في فتحها، لتحاول البحث عن طرق جديدة لإيجادها". صـ 207
وعلى طريقة الدعابة يكشف السرد عن حالة باطنة للمقدس فانوس، حول شريعة الزوجة الواحدة في المسيحية، حالة لا ينكر إخوتنا المسيحيون انشغالهم بها، وفي حوار مازح مزاحا ظاهريا، والجد في باطنه، يقول المقدس فانوس للشيخ برهامي:
" طيب لماذا يحكم علي بزواج واحدة، وأنت بشكلك الجعر هذا تتزوج وتطلق كل يوم ما تشاء من الأبكار الحسان؟
يضج عبد الجبار ورجاله بالضحك، وتهتز ليَّات الشيش في أيديهم، ويضع الشيخ برهامي باروكته على رأسه، ويعيد فوقها الشال الأبيض، ثم يقول بغيظ: قل أشهد ألا إله إلا الله، محمد رسول الله، وأنا أزوجك يا مقدس الغبرة، فيمثل فانوس أنه يفكر تفكيرا عميقا في الأمر، وبنبرة متوسلة باكية يقول لعبد الجبار: يعني يا عبد الجبار يا حبيبي، إما أن أعيش بوزي في بوز أم بطرس طول العمر، وإما أخرج من ديني؟". صـ 209 ـ 210
وهذه الشريعة أيضا مما يصعب محوه، بل إن للبابا شنودة رحمه الله كتابا عنوانه: "شريعة الزوجة الواحدة في المسيحية"، وكان في غاية التشدد في هذه المسألة. ولا أظن أن هذا الأمر يمكن أن يتحلحل بسهولة.
ومن آيات جمال هذا النص السردي الدرامي الطويل وصف صوت ام كلثوم، وعلى لسان من؟ على لسان نور/ السفاحة نفسها! وهو صوت يتجاوز الوصف بـ "ما يصعب محوه" إلى "ما يستحيل محوه"، بعد نضوج ذائقة نور تتراجع عن رأيها السابق في أم كلثوم، لتفاجئنا بهذه المقطوعة اللغوية التي تشبه مقطوعة موسيقية من أبدع ما أنتجت القرائح العربية جميعا في التأليف والموسيقى، أو في اللغة الروحية على السواء!
"في صوتها تصول وتجول مخلوقات الله في فضاءات شاسعة وأرض رحبة، في بساتين صوتها الغنَّاء تستطيع لمس السكون وهفهفة أغصان الأشجار وصهيل خيول وهدير بحار... تستطيع رؤية الحب الأزلي الملحمي الذي يجمع بين آدم وحواء، ربما لذلك كتبوا عن صوتها كثيرا أنه ليس صوت أنثى وليس صوت ذكر، تحمل بحة صوتها النادرة كل صخب العالم، الذي نعرف والذي لم نتعرف عليه بعد... العالم بكل ثقله وعواصفه وأعاصيره وجماله وقبحه وليله وصباحاته وقمره الحالم وشمسه الحارقة والدافئة ونجومه البعيدة اللامعة... حين تستمع إليها وهي تغني، تكاد تسمع صوت الشعب العربي كله، وترى جيوشا تزحف لتنتصر أو تعود وظهورها محنية جراء هزيمتها، ترى باعة جائلين، ودموع وآهات عشاق ملتاعين، ومآذن تخترق السماء، ورفرفة رايات فرحة، وأجراس كنائس تداعب المساء"ً صـ211،212
لهذه الفقرة أهميتان، الأولى خارجية، لي كمتلقٍّ، الثانية داخلية، تزن كثيرا في سياق الرواية العام، ونعني به موقف نور من العاطفة بشكل عام، وقيمة هذه الفقرة أنها اختلفت عمَّا قالته لأمها في بداية الرواية، صارفة لها عن التفكير في الدكتور نور الدين:
"الأمر ببساطة يا أمي هو نشاط هرموناتك، فلا يوجد شيء اسمه حب أو كراهية أو غضب، نشاط هرموناتك يجعلك تتصرفين هكذا، فتبكين، وتصرخين، وتتسولين محبة رجل لا يريدك. بمجرد أن تكبري، وتنتهي حاجة جسدك إلى الجنس، وتتوقف بويضات رحمك عن الانفجار كل شهر، ستتخلصين من كل ذلك، لم يعد أحد يرسل الآن مثل هذه الكروت، فتوقفي عن إرسال هذه الكلمات المضحكة، وتوقفي عن البكاء، الآن فورا". صـ 100
فهل محتْ أو تمحو إحدى الفقرتين الأخرى؟!
ورد ذكر ابن ستيتة، ووردت تسجيلات لقليل من المشاهد عنه، أبرزها زيارة نور له، ذلك وجه أول لقصته، أما وجهها الآخر المنتمي لـ "قصة وراء القصة أو خلفها أو في باطنها، فهو ما روته نور لصلاح، وهي تشيطن أفعاله وكذلك سلوك سلمى معه؛ للإيقاع بصلاح في فخها، في فقرة طويلة نجتزئ منها:
"جعلها تسقيك دماء دورة طمثها الشهرية في كل أكواب الشاي التي قدمتها إليكَ، ونقش لها على شمع المواليد الأبيض نقوشا غريبة، وأمرها أن تضعها في فرجها، ثم تخرجها وتتركها مشتعلة في الحمام تأكل نفسها طوال الليل، لتذوب على مهل، بشرط ألا يدخل عليها أحد لليلة كاملة، فإذا ما اختفت آثار الشمعة في الصباح، يكون العمل قد نفع...
وبالطبع كانت سلمى تجد بقايا مزق القميص في الزجاجة، سواء احترقت بكاملها أم لم يكتمل احتراقها، فتعاود الذهاب إليه، ليخبرها ابن ستيتة بهدوء، وهو يرفع عينيه إلى السماء مستسلما، بأن روحها أرضية ثقيلة وبأنها ليست امرأة طبيعية، ولذلك تحتاج إلى قبس من نوره يسكنها، ولا توجد طريقة لتحقيق ذلك إلا بأن يدخلها، وهكذا فض بكارتها واعتاد معاشرتها... إلخ". صـ213،214
وإن سقطة الشرف للبنت العذراء لممَّا يصعب محوه، وهكذا تجتمع أحداث وأوصاف ومواقف تندرج كلها تحت: ما يصعب محوه، وفي سياق صعوبة المحو نمر بالمد التكفيري الغريب عن جذور مجتمعنا الوسطي المعتدل، تمثله شخصية الشيخ خالد الطوبجي، شيخ الفضائيات، المليونير جار صلاح والذي نشأ وتربى في بيت طيني، ثم التحق بكلية الطب، ثم هجر الطب ليكون أحد مشاهير الفضائيات وواحد من شيوخ الفتنة والفتاوى المثيرة للجدل، الشيخ خالد الطوبجي، نزعة تشددية يغلب الظن على أنها غير صافية لوجه الله، وإنما تخالطها شوائب من النفاق كوسيلة لجمع الملايين، ليعيش الشيخ منهم حياة مترفة إلى حد كبير، بينما يحثون الناس على الزهد والتقشف، ناهيك عن الحديث عن إرضاع الكبير ومضاجعة الميتة... إلى آخره، وهو نوع من المد المتطرف يصعب محوه أيضا:
"لا يدري أحدٌ متى أصبح خالد، ابن محمد الطوبجي داعية من الدعاة الجدد "المودرن" في ميت رهينة، ليتحلق الشباب حوله هكذا... وجهه أبيض متورد، على غير عادة وجوه الرجال والشباب في القرية، وشعره أسود ناعم يمشطه إلى الخلف مثل شكري سرحان، ولولا لثغته، لأصبح مؤهلا لأن يكون ممثلا سينمائيا بامتياز". صـ 216
وفي وصف لتركيبته النفسية:
"كانت ابتسامة الشيخ خالد هي الترجمة الأكثر دقة لليقين المطلق، كانت ملتصقة بوجهه ليس تعبيرا عن أي شيء، ولكن ليقينه المطلق بأنه المحامي الوحيد المعتمد لله تعالى على هذه الأرض، وبأنه يقوم بدوره تماما حيث يرسل أعداء الله إلى الجحيم، ويرسل أحباءه وعباده المطيعين إلى الجنة". صـ25
يتبقى لنا ممَّا يصعب محوه الحديث عن الطبقية، حيث يسقط أسماء الفقراء حتى من التحقيقات الرسمية، ولا يبقى في الكشوف إلا الشيخ خالد، يسقط متولي الحرامي، ويسقط ابن ستيتة، كأنهما لو يوجدا على هذه الأرض!
وهي إشارة إلى تأصُّل النزعة الطبقية التي لا تعرف للفقراء أو المغمورين ذكرا في بلادنا.
9 ـ الرائي الصالح
10 ـ ضحكة ميت رهينة
في هذين الفصلين الأخيرين يرى صلاح حادث اغتصاب سارة أخت مايكل بواسطة الشباب أتباع الشيخ خالد، ويكون صلاح هو الرائي الصالح في مقابل شهادات الزور التي يتفنن في نسجها الأهالي لتبرئة ذويهم، وكما كان صلاح رائيا صالحا مستعدا لشهادة الحق، كانت سارة المعتدى عليها أيضا رائيا آخر يرى ـ من وجهة نظره ـ لَمَّ الوضوع، ووأد الفتنة في مهدها وإطفاء فتيل الأزمة حتى لا تتفجر فتراق دماء بريئة، فتشكر صلاح وتطلب منه أن ينسى، وكان فعل الشباب معها انتقاما منه لما بين أخيها وبين ليلى.
ويختفي المقدس فانوس، ومعه هند القاضي، وتقدم الصدفة خدمة للسفاحة بأن يظن أهل ميت رهينة أن اختفاءهما جاء ردا على حادث اغتصاب سارة؛ فأراد المقدس فانوس أن يرد الضربة لأهل القرية باختطاف هند القاضي، مما يضلل الشرطة فتعتبر الأحداث مسلسل صراعات في إطار الفتنة الطائفية.
وتعود صورة مصر لتقتحمنا في محادثة بين نور وصلاح، تقول: "يا الله... من هنا مرَّ الهكسوس، أكاد أستمع إلى سنابك خيل قمبيز الحاكم الفارسي الذي احتل مصر". صـ244 
وينتهي السرد نهاية منطقية، أسَّست لها الفصول العشرة لتشرق الشمس من جديد على ميت رهينة ويكون اليومُ يومَ عيد.
***
بين الأربعين إلى خمس وأربعين شخصية إذا أخذنا في الاعتبار سندس أم هاجر وزوج لطفي مرجيحة التي ورد اسمها بعد موتها.
تغطي الأحداث حوالي أربعين سنة من سنة 1975م سنة الانفتاح الاقتصادي الساداتي، إلى ما بعد ثورة يناير 2011م بعام أو أقل قليلا أو أكثر قليلا، وهي فترة التطور التكنولوجي الرهيب ما بين عصر الراديو البسيط والتلفزيون الأبيض وأسود بقناتين أو أكثر قليلا وعصر انفجار تكنولوجيا المعلومات في شكلها اليوم 2016م سنة إصدار الرواية.
وإذا بدأنا في تجييل أجيالها، فإن الجيل الأول هو جيل الخالة تبارك وسندس ولطفي مرجيحة، يليه الجيل الثاني جيل هاجر وعبد الجبار والمقدس فانوس وعبد الستار والد عزوز وريتاج والشيخ برهامي وشحاتة ابن تبارك وزوجه رحمة وأكبرهم أدهم الشواف، والجيل الثالث عزوز بن بهانة، وابن ستيتة ومتولي الحرامي، والجيل الرابع جيل ليلى وعفاف (ابنة رحمة وشحاتة) ومايكل سمير وسارة وإستير، والجيل الخامس جيل صلاح وداليا ونور فقط.
ومؤكد أن الفروق ليست حاسمة بين الأجيال، فهي خمسة في تداخل، بمعنى أن جيل الوسط أدرك ما قبله وما بعده. 
وأعلم أنني أسهبت في الاستشهاد بنصوص من الرواية؛ وذلك لكي أبرهن على تعميق الشخصيات بشكل متجسد في لحم ودم، عايشنا كل شخصية بمختلف مكوناتها، ووقفنا على الأمزجة والتكوينات الداخلية شديدة الخفاء لكل شخصية.
أما بدايات الفصول فإنها تستحق دراسة أخرى قائمة بذاتها لتحليل البدايات، وهي بإيجاز شديد في معظمها تنتمي كثيرا إلى الواقعية السحرية، فنهار يتحول إلى ليل فجأة وبلا مراحل للغروب، وليل يتحول إلى نهار فجأة، وعمود ينقلب امرأة أو رجلا أو عفريتا، وتتحول الحجارة ويتحول الشجر، ويتجسد الفتى ساقي الملك الذي ورد ذكره في سورة يوسف وهو أحد الفتيين "ودخل معه السجن فتيان"، كما تتجسد له إحدى النسوة اللاتي قلن: "امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه"، وليس الأمر لمجرد التناص مع القرآن الكريم، كما أنه ليس درسا تاريخيا، ولكنها تقنية فنية اعتمدت واقعيتها السحرية كوسيلة ربط وتلاصق بل توحد بين حاضر الأمة وماضيها.
وإن القارئ ليندهش من هذا الحجم الكبير من الخبرة لدى كاتبة هذه الرواية، وليس لهذا التراكم الضخم إلا تفسير واحد، وهو أنها أي الرواية كُتِبَتْ بقلم شاعر عاشق لتراب هذه الأرض، فما كان يكتب كما يكتب الناس، بل ينقل إلى الأوراق ترجمة لغوية لمشاعر نابضة بحب هذا الوطن بترابه ورماله وناسه وأشجاره ومياه ترعِهِ ونيله العظيم وسمائه ونجومه وقمره وأهرامه وكل ذرة فيه.