القاهرة 15 نوفمبر 2017 الساعة 01:55 ص
هالة موسى
لدراسة المسرح الملحمي لا بد من العودة الى جذوره، وأصوله، فبعد عام 1923 وظهور الاتجاه الواقعي الجديد ظهر اتجاه مزيج بين الواقعية الجديد والمسرح الوثائقي، وكانت أولى الخطوات بهذا الاتجاه قد جاءت عن طريق مسرح العمال 1919، وكان مؤسسها (كارل هانز مارتن) الذي قال «إن المسرح يجب أن يكون منبراً للوعي»، ودعا الى أن يتغير جذرياً لتحقيق ثورة مسرحية جديدة، ودعا الى التوجه نحو المجتمع لا نحو جمهور معين، كما دعا الى ارتباط المسرح بالطبقة العاملة، ليكون الجمهور أشبه بالحكم على ما يحدث على المسرح.
تأثر بيسكاتور بهذه الطروحات، وبيسكاتور أول من اعتنق المسرح السياسي وقدمه ونظر إليه من ناحيتي الشكل والمضمون (الفلسفة)، وهو بذلك لم يرد أن يلعب دور الفنان بمعزل عن دور السياسي، وإن كان دور السياسي ـ بالنسبة له ـ يغلب على وعيه الفني انطلاقاً من التسليم بالحاجة الى التعريف بشكل واسع بالصراع الطبقي، والمشاركة بقيادته... كان يريد للطبقة العاملة ان تعرف وأن تكافح عن وعي بالحقائق. غير أنه مارس هذه الرسالة من خلال المسرح، وهو يرى أن الجمهور في الواقع هو الروح الداخلية للإنتاج المسرحي، ومن دون مشاركته يفقد المسرح معناه، ويصبح شكلاً من أشكال الترف، إنه يريد مسرحاً يعبّر عن الحاجات الأساسية للجماهير، معتقداً أن المسرح السياسي يجب أن لا يكتفي بعرض الأحداث الفردية، بل عليه أن يتخطى ذلك الى تحليل انعكاساتها الاجتماعية والاقتصادية، وتقرير الوقائع التاريخية المتعلقة بها كافة.
هذه الطروحات لمارك وبسكاتور كان لها تأثيرها على بريخت في تأسيس المسرح الملحمي. ويعد بريخت شخصية بارزة في الأدب والمسرح الألمانيين، بل والعالميين في الحقيقة، منذ نصف قرن من الزمان على وجه التقريب. ولم يكن تأثر بريخت فقط ببسكاتور، بل بمسرح (النو) الياباني؛ إذ استلهم منه الإيماءة والإضاءة، وتقنية الممثل، كما تأثر بالمسرح التعبيري.
والدارس لمسرح بريخت يلاحظ أنه مر بثلاث مراحل وضحت التطور الإيجابي عنده:
المرحلة الأولى: التعبيرية، ومثال ذلك مسرحية (بعل)، (في غابة المدن)، (الإنسان إنسان). المرحلة الثانية: المرحلة التعليمية، ومثال ذلك مسرحية (الأجزاء)، (القاعدة والاستثناء)، (جان دارك)، (القاتل نعم). المرحلة الثالثة: وهي مرحلة المزج بين المرحلتين السابقتين، ومثال ذلك (غاليلو)، (الأم شجاعة)، (الإنسان الطيب)، (بونتلا وتابعه ماتي)، (دائرة الطباشير القوقازية).
لقد كان بريخت في بحث دائم عن وسائل جديدة ومبتكرة للوصول الى الجمهور... فوجد وسيلة كسر الإيهام أده مهمة لعملية التواصل بين العرض والجمهور المعني مباشرة به إن المهمة الجوهرية لنظريته هي صراع مسرحه ضد الإيهام أو الدراما المسرحية.
ومن ضمن الوسائل الأخرى التي اعتمدها بريخت في توثيق العلاقة بين الجمهور والمسرح اعتماد مبدأ التسلية والمتعة أولاً، فهو ينظر الى المسرح بالدرجة الأولى على أنه يلبي متعة لدى الجمهور، ثم عن طريقها يفكر ويحلل ما يقدمه. المسرح عند بريخت يتألف من تقديم عروض حية الأحداث بين البشر، منقولة أو متخيلة، وبذلك يقصد التسلية، وبريخت يرى مهمة مسرحه التغيير... وهكذا يتحول المسرح الى أداة للثورة الاجتماعية، ومن ثم يقلب المسرح التقليدي رأساً على عقب بتحوله من أداة ترفيه نلمسها الى أداة تغيير، مع الأخذ في الاعتبار أنه كثيراً ما يركز على مدى مواءمة نوعية الجمهور لنوعية الترفيه والتسلية المقدمة له.
ومن التقنيات الأخرى المعتمدة في مسرحه الملحمي تلك التي من شأنها تحقيق جوهر مسرحه ما اطلق عليه التغريب: أي جعل المألوف غريباً، كأن تفقد الحادثة أو الشخصية كل ما هو بديهي مألوف وواضح، وذلك لإثارة الدهشة والفضول، وهذا ينطبق على شكل ومضمون العرض المسرحي سواء في النص أو عناصر العرض الأخرى.
والأثر التغريبي الذي عمل على إثراء المسرح البريختي كان شاملاً عبر وظائف ودلالات متعددة وواضحة ومحددة بدقة لعناصر العرض المسرحي كافة، فلم يستخدم تقنية التغريب لتطوير وعي الجمهور فحسب، وإنما كذلك لتطوير الشخصية المسرحية ضمن إطار العرض المسرحي.
ومن الوسائل التي استخدمها لتغريب عناصر العرض المسرحي شخصية الراوي الذي يفسر ما هو كائن وما يجب أن يكون، والتكرار والازدواجية في الشخصيات والأحداث، ومثال ذلك في مسرحية (القاعدة والاستثناء) حيث نلاحظ ان الأحداث التي رآها المشاهدون على خشبة المسرح لخصت في مشهد المحاكمة في نهاية المسرحية، وكذلك استخدام التعليقات او الايمائي او المقطوعات التي تتخلل الأحداث، تلك التي تخاطب الجمهور بشكل مباشر، هذا في ما يخص النص المسرحي، أما في ما يخص العرض فقد عمد بريخت لتعميق هذه الفكرة الى اضاءة قاعدة المسرح كاملة (الصالة والخشبة) بأضواء ساطعة، بحيث تكون مصادر الضوء واضحة وظاهرة للجمهور، وذلك حتى يتأكد ان ما يراه هو تمثيل لا غير، وكذلك استخدام الاكسسوارات للايحاء بالمكان والزمان، حتى لا يحس المتفرج بواقعية الأحداث ويندمج ويسلب وعيه، فيكتفي المخرج على سبيل المثال بتعليق قمر صناعي للدلالة على الليل الواقعي وتأثيره الكامل. وفي مجال التمثيل فانه يشكل الجزء المهم في تلك العملية، فالممثل عليه ان يبين للجمهور انه يقوم برواية الأحداث واتخاذ موقف الشخص الثالث بالنسبة لها، وعدم اظهار التعاطف مع الشخصية ليتيح للمشاهد امكانية التفكير والتحليل اضافة الى ضرورة مواجهة الممثل لجمهوره بصورة مباشرة، اذ لا يوجد جدار رابع يفصل الخشبة عن الصالة.
لقد وقف بريخت موقفاً خاصاً في طريقة ستانسلا فسكي في التمثيل حيث يعارض مبدأ التعايش والاندماج بين الممثل والدور، فالممثلون عند بريخت يعرضون القضية دون ان يتقمصوا الشخصيات التي يقدمونها، وذلك حتى لا يخدع الممثل الجمهور فيندمج معه وينسى القضية الأساسية والتفكير، مع مراعاة ان لا يحس الجمهور بأن الممثلين لم يتدربوا على أداء أدوارهم، وأن ما يقدمونه يبدو غير واضح الملامح، فهم ممثلون يعرضون مواقف انسانية تفترض الدراسة والمناقشة والوصول الى نتائج محددة بمشاركة الجمهور عن طريق دفعه الى التفكير في الواقع المعروض أمامه. وبذلك فانه لا يريد من المشاهد ان ينسجم ويندمج مع الأحداث المعروضة بطريقة سلبية، بل عليه، اي المشاهد، رصدها حتى لا تضيع شخصيته فيصبح عنصراً سلبياً.
لقد استخدم بريخت وسائل يستخدمها الممثل لتساهم في تعميق فكرة التغريب في مسرحه الملحمي ومن هذه الوسائل النقل على لسان الشخص الثالث، النقل بالزمن الماضي، قراءة الدور الى جانب التعليقات والملاحظات.
واستخدام صيغة الغائب والزمن الماضي من شأنها منح امكانية مراعاة المسافة التي تفصل بين الممثل والشخصية، تلك التي تساهم الى جانب قراءة الدور والتعليقات والملاحظات الجانبية الواردة في النص في اثارة حماس المتفرج لتجعله مشاركاً في العرض وناقداً له، وهذا يعني ان على الممثل ان ينسى ما تعمله من طرق قديمة في التمثيل وتظهر البساطة كذلك في طرق تقديم العرض، اذ يؤكد بريخت انه لا قداسة لمكان العرض، ليس هناك اهمية للمكان الذي يتحدث فيه الجمهور او يعرض عليه اشياءه، سواء أكان ذلك في الشارع، في غرفة، على مسرح، والأمر ينطبق على الملابس والمكياج.
وتجدر الإشارة هنا الى انه عندما يريد الممثل ان يربط نفسه بعلاقة جديدة مع ما يحيط به على خشبة المسرح فعلية ان يدعم ذلك بالتبرير عن طريق مخيلته الابداعية، ويضرب بريخت مثالاً على ذلك في انه اذا ما كان هناك قبعة على منضدة أو ارضية غرفة، واراد الممثل ان يتعامل معها على انها جرد، يستطيع تحقيق ذلك عن طريق الخيال كلياً مع ما يقدمه، الا انه من الضروري جداً السيطرة على تركيزه، سواء أكان ذلك من خلال مخاطبة الجمهور بشكل مباشر، اوتعامله مع احدى مكونات العرض المسرحي الأخرى.
و 10 ـ وهنا نخلص الى القول بأن بريخت استطاع من خلال مسرحه الملحمي المرتبط بنظرية التغريب تأسيس دراما لا ارسطية، وتحقيق شكل ومضمون جديدين خاصين به، من خلال تأكيده على جعل المتفرج قريباً وناقداً للعرض المقدم، وجعل الانسان موضوع بحث وتحقيق ومحور نقاش.
واستطاع بريخت بذلك ان ينال قسطاً وفيراً من الاعجاب من قبل المسرحيين العالميين والعرب.
وتجدر الاشارة هنا الى ان بعض المسرحين العرب قد تأثروا بمسرح بريخت، وقد نقلوا او طبقوا من غير فهم دقيق لتفاصيله.. لذلك ادعو من هذا البحث المسرحيين العرب الى العودة لقراءة مسرح بريخت بتفاصيله والاستفادة منه لأن هذا الشكل من المسرح ما نحتاجه في هذه الأيام لما يعصف بالمنطقة من تسارع في الأحداث السياسية التي تحتاج الى المبدع لقراءتها من جديد.
|