القاهرة 31 اكتوبر 2017 الساعة 10:52 ص
عماد يسى
شغلت الحارة جزء كبيرا من فكر السينما المصرية لأنها تتعرض للطبقة التى طالما حركت الأحداث و صنعت تاريخ مصر و هى الطبقة الشعبية . و لعل من أكبر المهتمين بالحارة المصرية أديبنا الراحل الكبير " نجيب محفوظ " .و قد يكون اهتمام نجيب محفوظ بالحارة ،يأتى من أنه عايش الطبقة الشعبية، فهو من مواليد حى الحسين، و لذلك فإن نجيب محفوظ الإنسان ، ارتبط وجدانيا بالطبقة الشعبية بحكم نشأته، أما نجيب محفوظ الأديب فنظر إليها نظرة أخرى ،فقد رأها بعين الباحث عن الكنوز، فالطبقة الشعبية هى فى الحقيقة كنز إنسانى لمن يبحث عن شخصيات متميزة تكون أبطالا لروايات خالدة ، لذلك التقطت أيضا السينما المصرية هذا الخيط الرفيع المستوى من الأدب و الفن، و أعطت اهتماما خاصا للحارة المصرية، بذلك الشبح الذى يخيم عليها ،و يخرج أفضل و أسوء ما فيها من الطمع و الأحلام ، ذلك الشبح هو الفقر ، و الذى أخرج من شخصيات الحارة معجما إنسانيا ،ساهم بقوة فى إنتاج أفضل الأفلام فى تاريخ السينما المصرية .
فى ذلك المحيط من شخصيات فيلم "زقاق المدق" إنتاج رمسيس نجيب عام 1963 و الذى أخرجه " حسن الإمام " و هو فى الحقيقة مخرج متميز له بصمة فى تاريخ السينما المصرية، و قام ببطولته نخبة من فنانى الزمن الجميل ، وهم شادية ، صلاح قابيل ، حسين رياض ، يوسف شعبان ، محمد رضا ، حسن يوسف ، عقيلة راتب .عبد الوارث عسر . توفيق الدقن . تدور الأحداث فى فترة الأربعينات أثناء الحرب العالمية الثانية ،و هى فترة غيرت خريطة السلوك الإنساني كما غيرت خريطة العالم الجغرافية و السياسية.
و يستعرض فيلم زقاق المدق تفاعلات الطبقة الشعبية من أهل الزقاق، مع ذلك المتغير الكبير فى تاريخ العالم ،و ذلك من خلال محور الطموح، و الذى يتبلور من خلال تطلعات أبطال الفيلم و أحلامهم، و خاصة "حميدة" و التى تقوم بدورها الفنانة شادية، و تبدو لنا شخصية حميدة و هى تنظر إلى العالم من خلال نافذة زجاجية يخيم عليها الضباب، فهى بالضبط لا تعرف ماذا تريد ،و لكنها فقط شخصية متمردة تتأرجح بين الرضى و الطمع و التطلع إلى ما هو أفضل، فهى بعد محاولات عديدة تقبل بالرضوخ للظروف و الرضى بما هو موجود، فتقبل خطبة " عباس الحلو " جارها الشاب الفقير، و يقوم بدوره الفنان " صلاح قبيل " و هى فى ذلك ترضى بما بين يديها، و لكنها فى الوقت نفسه تقبل على مضض ، و لا تتردد فى فسخ الخطبة ،حينما يتقدم إليها المعلم سليم علوان لخطبتها.
و لكن القدر لا يحقق لها أملها فى الغنى و الحياة المترفة، فالمعلم سليم علوان يقع صريع المرض فى ذلك اليوم الذى يلوح لها فيه الخلاص من شبح الفقر ، و يظهر فى تلك الشخصية تناقضا واضحا بين الأخلاق و الطموح ،فهى فى البداية ترفض بشدة دعوة "فرج" القواد، و يقوم بدوره الفنان " يوسف شعبان " و الذى يحاول إغرائها بالمال لإقامة علاقة غير شرعية معه ، و لكنها ترضخ فى النهاية و تقبل العمل معه.
يتبلور ذلك الصراع داخلها ،حينما يواجهها فرج بحقيقة أنها صارت من فتيات الليل فتصفعه ، فهى ترفض هذه الحقيقة ،بالمكون الخلاقى الذى يقبع متواريا فى شخصيتها خلف الطمع و التمرد، و تأتى نهايتها مثل نهاية معظم فتيات الليل فى السينما المصرية ، حيث تتم تلك النهاية على مرحلتين ، و هما الندم ثم الموت . فتموت حميدة أثناء محاولة عباس الحلو تخليصها من جحيم الكازينو الذى تعمل به .
لم يمنع اهتمام الكاتب و معه صناع الفيلم ببلورة شخصية حميدة، و التركيز عليها كإحدى الشخصيات الرئيسية ،من الرسم الجيد لشخصيات باقى الأبطال ، فهناك شخصية "حسين " و يقوم بدوره الفنان حسن يوسف ، و يجسد تلك الشخصية الواضحة المتصالحة مع نفسها ،و لكنها غير متصالحة مع واقعها، و هى تختلف عن شخصية حميدة التى تعانى من التناقض و الصراع ، و لكن شخصية حسين جاءت واضحة متبلورة تعلم إلى أين تتجه، فهو يذهب إلى حيث يكون المال ، و لا يعانى من عقدة ذنب ، بل هو شخصية لاهية عابثة لا تخجل من شيء و يوضح تلك الشخصية الحوار الذى يدور بين حسين و عباس الحلو فى الخمارة، فهو لا يخشى شيئا، و لا يقيم وزنا لشيء ، فهو يتحدث عن الموت بلا وجل و لا خوف، كما يتحدث عن زوجته ،قائلا لعباس الحلو الحزين على حبه لحميدة التى تركته وهربت مع رجل آخر ، فيقول حسين عن زوجته أنها مخلصة له ،و لكنه لا يأبه أن تخونه و تهرب مع رجل آخر ،حتى يزيح عبئها عن كاهله. و رغم قبح الفكرة و فجاجتها ،و رغم الرداء اللا أخلاقى ،الذى تلتحف به الشخصية، إلا أنها تأتى واضحة خالية من التناقضات بل و بها أيضا بعض الطرافة .
تأتى باقى الشخصيات كشخصية "أم حميدة" ، و تؤدى دورها الفنانة "عقيلة راتب " ،و شخصية "عم كامل" ويؤدى دوره القدير عبد "الوارث عسر" و المعلم "كرشة" ويؤدى دوره الفنان محمد رضا ، تأتى تلك الشخصيات على هامش الفيلم، و لكنها شخصيات مكتوبة جيدا، و لربما كانت متبلورة أكثر فى الرواية حيث تتسع المساحة لمناقشة جميع الشخصيات و تحليلها، بينما لا يتمتع الفيلم بتلك المساحة من التحليل و نقد الشخصية ، فيكتفى المخرج بإدراج مشاهد سريعة ،ضمن سياق الأحداث تشير إلى سمات تلك الشخصيات بعمق و مباشرة .و فى الحقيقة فإن الفترة الزمنية التى تدور فيها أحداث الفيلم، جعلت الحرب و العمل مع الجيش الانجليزي ، هو المهرب من الفقر الذى يخيم على الزقاق و أهله، بل أن الحرب التى تشير دائما إلى الموت و الدمار ،كانت هى المهرب و الخلاص لأهل الزقاق من الفقر، و فى هذا تناقض مع طبيعة الحرب لربما كان غير مقصود، و لكنه أضفى شكلا على الفيلم مغايرا لصورة الحرب المتعارف عليها، من الموت و الدمار و الخراب ، بل و كان أحيانا يعطى مساحة لمشاهد التخفيف، التى يتندر فيها أهل الزقاق على الجنود الإنجليز بقولهم أن هتلر سيلبسهم الطرح .
الحارة فى السينما تعبر عن عالم موازى، عن مجتمع مغلق يحده عن العالم الخارجى أسوارا غير مرئية تحيط بحالة من الخصوصية والتفرد ، تنسجها مجموعة من العلاقات الإنسانية المعقدة، و التداخل الطبقى الذى لا يتواجد إلا فى مجتمع الحارة ، فالحارة تجمع بين الفقير و الغنى فى مجتمع واحد لا ينفصل، فالحارة لا تعرف الطبقية، ففى زقاق المدق نجد أن السيد سليم علون تاجر العطارة الغنى، يتقدم لخطبة حميدة الفتاة الفقيرة ابنة الخاطبة ، لا يمنعه عنها فقرها أو أصلها البسيط ، فالحارة لها قوانينها التى لا تخضع لقوانين المجتمع الذى حولها ، فلها أخلاقها و أعرافها الخاصة بها، لذا فالحارة تخلق حالة فريدة فى الدراما ، كذلك لها أسلوب فى سرد الحكاية خاص جدا، يلقى بظلاله على إيقاع الفيلم.
و فى معظم الأحيان تتشكل حكايات الحارة من الأشخاص لا من الأحداث، فالحارة ما هى إلا مكون بشرى تتمحور الأحداث حوله ،و نستطيع أن نقول إن الحكاية فى الحارة تبدأ دائما من الشخص، و هذا يظهر فى العديد من الأفلام التى أخذتها السينما عن أديبنا الكبير نجيب محفوظ و هو أشهر من كتب عن الحارة ، بل أن إبداعه الأدبى تمحور فى معظم رواياته حول الحارة ،فهو فى فيلم "الشيطان يعظ " يحكى حكاية "شطا الحجرى" الفتوة الطموح الذى يتعرض للخيانة، و لكنه فى النهاية يقتص ممن خانه ، و فى فيلمه "الحرافيش " يحكى حكاية الفتوة عاشور الناجى. و فى فيلم " قلب الليل" يروى قصة " جعفر الراوى " الفتى المتمرد على حياته ،التى رسمها له جده الراوى الكبير شيخ الطريقة ،على خريطة من الايمان و الأمان ،و لكنه يترك درب السلامة الذى مهده له جده، و يخرج عن ذلك الدرب ليسلك مسالك وعرة ، و يرقص مع الشيطان على حافة الهاوية ، فهو يترك جده و يتزوج بغجرية ، و يعمل فى تخت إحدى العوالم ، و ينحدر به الحال لأسفل سافلين .
و لكن عندما يخرج نجيب محفوظ عن الحارة ،فيكتب "ثرثرة فوق النيل" نجد أن الحدث هو سيد الموقف و هذا الحدث هو النكسة عام 1967 ،و رغم أن العوامة التى تدور بها أحداث الفيلم، تعتبر هى الأخرى عالما موازيا ،يبدو منعزلا هو الآخر عما حوله و له قوانينه الخاصة، إلا أن الفكرة تختلف هنا ،فالعوامة ليست عالما موازيا ،و لكنها نموذج مصغر للعالم الخارجى من حولها، فهى صورة مصغرة منه تتعرض لما أصاب بعض قطاعات المجتمع المصرى بعد النكسة من ترهل و لا مبالاة ،و هروب من المسئولية، ينتقدها الفيلم بقوة فى مشهد النهاية فى جملة الفنان الكبير عماد حمدى الختامية " الفلاحة ماتت و لازم نسلم نفسنا " و التى ظل يرددها طوال مشهد النهاية .
فى الثلاثية و رغم أن " قصر الشوق " و السكرية " و بين القصرين " هى أيضا مناطق شعبية تدخل فى نطاق الحارة إلا أن نجيب محفوظ خرج بالحدث عن نطاق الحارة إلى عالم مفتوح يمتزج فيه الأدب بالتأريخ، ففى الأفلام الثلاثة نجد أن الفيلم يتعرض لتاريخ المرحلة التى تقع فيها الأحداث، كثورة 1919 و التى تقع فيها أحداث الفيلم الأول بين القصرين ، فنجد الفيلم يتعرض للمجتمع المصرى فى تلك الفترة اجتماعيا و سياسيا ،يظهر هذا فى علاقة السيد أحمد عبد الجواد و عائلته، و النقد الموجه للمجتمع الذكورى الذى يضع الرجل فوق المسائلة و الحساب ، و يظهر هذا فى حياة المجون التى يعيشها رب الأسرة السيد أحمد عبد الجواد ، بينما يحاسب أبناؤه و زوجته حسابا عسيرا على أى خطأ يقترفونه ، فهو يطرد زوجته من منزله لمجرد خروجها و هو غائب عن المنزل .
كما يتعرض الفيلم بإسهاب لأحداث ثورة 1919 ، من خلال شخصية "فهمى" الشاب المناضل الذى يموت فى المظاهرات ، و هكذا فى الفيلمين الثانيين من الثلاثية، يخرج الفيلمان من نطاق عالم الحارة المغلق و يستعرضان النطاق الزمنى للمجتمع المصرى ما بعد ثورة 1919 و خلال الثلاثة عقود التالية ، و رغم نجاح الثلاثية، إلا أن عالم الحارة يبقى له رونقه و غناه فى السينما المصرية ، و يظل لامعا براقا ، له سحره و غموضه الذى لا يذوى و لا يذبل بمرور الزمن ، و بعد مرور عقود كثيرة على العصر الذهبى للحارة فى السينما المصرية إلا أنه حتى اليوم تبقى الحارة موضوعا سينمائيا غنيا و نهرا للإبداع لا ينضب و لا يجف .