القاهرة 31 اكتوبر 2017 الساعة 09:40 ص
بقلم: صلاح صيام
لماذا أدون حياتى فى يوميات ؟ لأنها حياة هنيئة ؟ كلا.. أن صاحب الحياة الهنيئة لا يدونها،و إنما يحياها، إنى أعيش مع الجريمة فى أصفاد واحدة ، إنها زوجتى و رفيقتى أطالع وجهها فى كل يوم ولا أستطيع أن أحدثها على إنفراد .هنا فى هذه اليوميات أملك الكلام عنها و عن نفسى و عن الكائنات جميعا..أيتها الصفحات التى لن تنشر .. ما أنت إلا نافذة مفتوحة أطلق منها حريتى فى أوقات الضيق . هذه الكلمات جاءت فى مقدمة "يوميات نائب فى الأرياف" للأديب توفيق الحكيم و هى ردا على سؤال لماذا يكتب الكتاب سيرتهم الذاتية ، و رغم ذلك وصف نفس اليوميات فى أواخر حياته بأنها هراء و
لا قيمة لها ،ولو عاد به العمر لاختار طريقا آخر.
و فى عام 1989 فجر الناقد لويس عوض قنبلة مدوية عندما أصدركتابه " أوراق العمر"الذى تضمن الجزء الأول من سيرته الذاتية اتسم بالراحة المطلقة ، و تعرى فيها تماما أمام المتلقى ،و تطرق إلى أفراد أسرته ، فشقيقاته أصابهن الأمراض و الجنون ، و شقيقه أستاذ الجامعة كان متوسط الذكاء لا يتمتع بالإبداع ، و يغار منه فى أعماق نفسه و يحسن إخفاء هذه الغيرة تحت قناع هدوئه ، و إنه مهما حاول فلن يصيبه ربع ما أصبت من تأثير فى المثقفين سواء بالقبول أو بالرفض .
و لم تتوقف الاتهامات عند هذا الحد ، بل وصلت إلى وصفة بالجبن و الخوف من الأعداء و المجازفات, و سرعان ما نفذت طبعات الكتاب خلال أسابيع قليلة و مات لويس عوض و رفض الورثة إعادة طبع الكتاب مرة أخرى. و الآن بعد مرور 27 عاما على رحيل لويس عوض هل مازالت نظرة المجتمع لاعترافاته ثابتة ، و هل لو امتد به العمر لدافع عنها و لم يتنصل منها ، الحقيقة الكاملة خالية من القشور العابرة و المصالح الزائفة و تعد درسا للأدباء و الكتاب فى الإخلاص للحقيقة التى غالبا ما تكون صادمة وعنيفة ومؤلمة ليست لصاحبها فقط ،بل للمحيطين به.
إختار "عوض"- من وجهة نظره- القسوة مع نفسه وتصفية الحسابات معها ومعاقبتها عن طريق كشف جميع أخطائها ونزواتها أمام الجميع , ورفض التلميح والإشارة والتخفى وراء البطل كما فعل جميع من سبقوه عندما أرادوا البوح والفضفضة , لكن بطريقة ضمنية .. فهل إختار الطريق الصحيح. يذهب البعض إلى أن اعترافات لويس عوض فى كتابه"أوراق العمر" فتح جديد فى عالم الأدب وتحمل الكثير من الجهد، وصدرت عن مفكر حر وعالى الهمة ، يتمتع بالليبرالية الراديكالية ممزوجة بالاشتراكية التفاعلية ،و"عوض" بدأ حياته الأدبية مبكرا.
حيث كتب "مذكرات طالب بعثه" وهو مازال طالبا ،و تعد هذه المذكرات من أجرأ السير الذاتية إن لم يكن أجرؤها على الإطلاق ، فهى أجرأ من سير طه حسين و ذكى نجيب محمود و العقاد ،ولا يساويها سوى مذكرات شكرى عياد ،الذى نجح مع عوض فى اختراق"التابوهات المجرمة" بطريقة عصرية ورقى رائع. و يكفى أن نعرف أن الذين تحدثوا عن حياتهم الخاصة بشجاعة مصطنعة ذكروا لنا الأحداث المعلومة للجميع مثل تزوجت من فلانة وعملت بكذا .
والفريق الآخر عندما أراد البوح إختار الرمز وتوارى خلف البطل كما فعل العقاد فى"سارة" والمازنى و غيرها ,وحول ما سببته مذكرات "عوض " من بعض المشاكل لأسرته عندما أذاع بعض أسرارها يقول هذا البعض :إنها مشاعر صادقة فيها إرتقاء للروح وتطهير للنفس ، ويعتقد هذا الرأى أن كل مبدع مطالب بالصدق و الشفافية وكشف الحقائق أمام المتلقى ويختلف فى ذلك مبدع يستخدم أدوات تعينه على التعبير برقى ، ومبدع آخر ينزلق إلى الحديث بألفاظ تخدش الحياء و تنفر المتلقى من متابعة ما يقرأ.
ويوضح هذا الرأى أن لويس عوض قدم فى سيرته الذاتية والفكرية أفضل نموذج يمكن أن يصل إليه المثقف فى اعترافاته حيث لم يكن بوسع أحد أن يصل فى الصراحة و المكاشفة إلى ما وصل إليه"عوض"الذى تمتع بقوة معنوية وروحية هائلة جعلته يجسد المثل الإبداعى الأعلى .
فاعتراف"عوض" بالضعف دليل قاطع على العظمة , وبالتالى استطاع من خلال هذه الصفحات من سيرته الذاتية أن يكشف عن أصدق ما يمكن أن يثور داخل المثفق المبدع فى نقد الذات ومواجهة نقائص الأسرة وبعدا عن الزيف والتكلف والمداهنة الاجتماعية, واستند "عوض" رغم لبراليته وتحفظه على الأسس الدينية والوعى المسيحى الذى يجعل من الاعتراف خلاصا وبراءة من الزيف , وقربا إلى الحقيقة وطهارة للنفس مما يزيد قدرة المعترف التاريخية دون أن ينتقص ذلك من مكانته الأدبية. ومما لا شك فيه أن بعض أفراد أسرته تأذى قليلا من تلك الاعترافات , لكن الحياة الثقافية والفكرية والعربية اكتسبت نموذجا فائقا فى اعترافات لويس عوض لا يقوى على اللحاق به كبار الكتاب المصريين والعرب حتى الآن .