القاهرة 31 اكتوبر 2017 الساعة 09:16 ص الخروج من ساو باولو:
تحركنا نحو حدود مدينة ساو باولو الكبيرة، والتي تشبه في بعض التفاصيل "القاهرة الجميلة"، لكنها أكثر نظافة وأقل ازدحامًا، كثيفة الخضرة والمساحات التي يجوز أن نسميها "براح لخلق الله"، وكما حكيت فالمدينة تتكون شوارعها من مجموعة من التلال والمنخفضات التي تجعل المدينة على الدوام آسرة –لأمثالي- متى سرت فيها. أبديت إعجابي إلى صديقي، فأشار إلى ملاحظة مفادها أن تلك الجغرافيا للمدينة تجعلك ترى في اليوم الواحد فصول السنة الأربعة، ففي لحظة أنت ستعاني من شدة الحرارة وارتفاعها وفجأة سيغيم الجو ويهطل المطر، وهو عادة ما يحدث هنا في ساو باولو في الشتاء، لكن الوقت الآن يتحرك نحو الصيف، والصيف في ساو باولو حار جدًا، لكن كثرة الأشجار تُساعد كثيرًا في نشر الظلال وتلطيف الحرارة للسائرين، إذ لا يخلو شارع من الأشجار بامتداد واتساع ساو باولو كلها.
انقضت ساعة كاملة وكُنا لا نزال في حدود مدينة ساو باولو الكبيرة، وهُنا أشار صديقي أن المدينة مثل القاهرة الكبرى في حقيقة اتساعها إذ تضم كثيرًا من الضواحي الصغيرة والكبيرة من كل الاتجاهات وهي ما تجعل الجميع هنا يُطلق تلك التسمية "ساو باولو الكبيرة" تمامًا كالقاهرى الكبرى، تدخلت صديقتنا –زوجة صديقي- وقالت بإن أسوأ ما يحدث في تلك الضواحي أن المدينة الكبيرة تبتلعها، وتغصبها من كل عاداتها، وتبدأ في غزو قلبها، فتحولها إلى قساوة قلب المدينة، وهو أمر بالغ الحزن –من وجهة نظرها- إذ يتعين على هذه الضواحي أن تتغير ملامحها شيئًا فشيئًا حتى تفقد هويتها الأولى حين تذوب في امتداد موجة المدينة الكبيرة، ويتغير الناس للأبد.
الاستثمار في شبكات الطرق:
اقتربنا من بوابة إلكترونية تشبه البوابات الموجود على طريق (مصر –إسكندرية الصحراوي)، لكنها قطعًا أكثر تطورًا وبساطة، إذ خلت البوابات من أي مظهر للفخامة والمبالغة، مجرد حاجز إلكتروني وإلى جواره حجيرة زجاجية يجلس فيها موظف مدني لتحصيل رسم العبور، وهو ما سألاحظه طوال الطريق كلما قطعنا مسافة ما، أو دخلنا إلى حدود مدينة جديدة على طول الطريق الذي امتد بنا لأكثر من (800 كم)، المُدهش في ذلك لي هو أن تلك البوابات بها بوابتين إلكترونيتين تمامًا يمكن لقائدي المركبات العبور منها، ولا تفتح البوابة إلا بعد الالتزام بسرعة محددة، ويتم تحصيل قسيمة العبور طبقًا لتصوير كاميرا للوحة السيارة، ثم إرسال الفاتورة إلى صاحب السيارة وخصمها من حسابه البنكي مباشرة، وهُنا سنفهم أنه في حالات نادرة هُنا يمكن لشخص أن يقود سيارة آخر، إذ يتم التحصيل طبقًا لرقم السيارة المسجل واسم صاحبها.
انتشرت على طول الطريق كاميرات مراقبة تعمل من خلال القمر الصناعي، تحذر من تلك المراقبة المستمرة، واكتشفت ذلك من خلال جهاز صغير معهم في السيارة يحذرهم آليًا من وجود الرادار اللاقط للسرعة الزائدة، وهُنا ضحكت وتذكرت الطرق المصرية المراقبة بالرادارات، وكيف يمكن أن تعطل "لجنة مرور" طريقك لساعات من أجل تحصيل الغرامة الفورية، بينما هُنا الأمر بسيط وسهل، الكاميرا ستلتقط سيارتك المتجاوزة للسرعة القانونية بالطريق، وسترسل صورتها بالقمر الصناعي إلى إدارة المرور، والتي بدورها ستخصم الغرامة من حسابك البنكي، مع العلم أن ارتكاب ثلاث مخالفات مرورية أيما تكون، سيتسبب في سحب رخصة القيادة ويتعين أن تعيد اختبارات القبول إذا أردت قيادة سيارتك، والأمر ليس سهلا كما كنت أتصور طبقًا لمعتقداتي المصرية، وما نعرفه جميعًا عن المرور، هُنا الأمر بالغ التعقيد لكي تعيد استخراج رخصة قيادة بعد مخالفاتك الثلاث.
لاحظت على طول الطريق الذي تتحد السرعات فيه بأن الطرق في غالبها لا يزيد عن حارتين في اتجاه واحد رغم المساحات الشاسعة، ولما سألت عن ذلك، أفهماني أن المسافات هُنا واسعة وممتدة، وأن تكلفة إنشاء الطرق باهظة جدًا إذ سيتعين دومًا تطويع الطبيعة الجبلية بين الحين والآخر، لكن في الحقيقة كانت كلها طرق شديدة الإنسيابية بلا "تضعضعات"، كثيرة الإرشادات واللافتات شديدة الإبداع في تناسقها، والحقيقة كم تمنيت لو بإمكاني تضمين المقال صورًا من هذه الطرق التي تخترق الجبال بارتفاعاتها وانحناءاتها الجميلة لتدرك عزيزي القاريء هذا الجمال وروعته حين تجد خطي الطريق الأسفلتي بينهما اللون الأخضر الممتد، وهذا كله منحصر بالجبال من حول بارتفاعاتها وانخفاضاتها الممتعة.
كان مضى على خروجنا من ساو باولو ثلاث ساعات تقريبًا، وأنا منبهر تمامًا بتلك الطبيعة وبهذه الشبكة العنكبوتية للطرق، ولم أخفِ ذلك، فابتسمت الدكتورة وقالت: "ولاية وحكومة ساو باولو الفيدرالية" استثمرت ملايين الجنيهات في إنشاء تلك الشبكة من الطرقات، وهي واحدة من أهم الاستثمارات، ومن خلالها استطاعت أن تجذب الكثير والكثير من رأس المال الخارجي للاستثمار في الولاية وفي مزارعها، فكل مستثمر يحتاج إلى هذه الطرقات حتمًا والتي تلزم لمتابعة حركة استثماراته في زراعة قصب السكر أو تربية الأبقار، وهو ما يفسر تلك البوابات التي تمتد على طول الطريق لتحصيل الرسوم للعبور من مكان إلى آخر.
استراحة قصيرة:
كُنا ندخل إلى مدينة "بارانايبا" للتزود بالوقود وببعض المواد الغذائية التي ستلزم إقامتنا في المزرعة الخاصة بعائلة الدكتورة، ومن جديد يعود انبهار الغريب إليّ ونحن ندخل هذه المدينة التي يأتي الاستثمار فيها تحديدًا في مجال صناعة الكيماويات والأدوية، دخلناها ولا أعرف لماذا ضربتني هذه الآية "ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها..." (سورة الكهف)، كُنا ندخلها فعلاً كأننا دخلناها على حين غرة، كانت الساعة تجاوزت السادسة قليلاً، فبدت المدينة شبه خالية إلا من حركة السيارات القليلة التي تروح وتجيء، وكما قلت كان قلب المدينة كعادة المدن الجديدة من الأسمنت والفولاذ ومن الضخامة بشكل ما، لكنه لا يمكن أن نقارنه بقلب المدن الكبرى.
تحركنا داخل المدينة، والتي فهمت أن والدة صديقتي الدكتورة تسكنها، وأن الفرصة طيبة لزيارتها، وربما نقضي عندها الليلة ثم نتحرك في الصباح تلافيًا للسفر ليلاً، وحتى نرتاح قليلاً، رحبت بذلك وانطلقنا نجوب شوارع المدينة الهادئة تمامًا حتى وصلنا إلى حي شديد الهدوء، وتوقفنا أمام باب واحدة من "الفيلات" التي تملأ الحي، ولا يزيد معظمها في بنائه عن ذلك الدور الأرضي إلا القليل منها، وهو في ثقافتي المصرية لمن عاش في زحام القاهرة والإسكندرية يُدرك أن تلك الأماكن خاصة جدًا، وكانت المفاجأة الكبرى في الصباح التالي حين سألاحظ أن المدينة –ما عدا قلبها- كلها على هذا المنوال من الأبنية التي لا تعلو عن الأرض أكثر من طابق أو طابقين.
رحبت بنا الأم الجميلة بحفاوة بالغة، وزاد في حفاوتها حين علمت أنني "كاتب"، وراحت تسألني عن مصر وعن أشياء أخرى حول الكتابة وما أكتبه، ثم تمنت لي حظًا طيبًا مع الكتابة، وقالت جملة رائعة: "أتمنى أن تهديك الكتابة أجمل ما فيها من الكتابة". ابتسمت للجملة وفهمتها بعد الترجمة، ثم وقفت احترامًا لجملتها، وشكرتها بحرارة.
جاء العشاء بطبقه الأساسيين في حياة البرازيليين بشكل عام، "الأرز والفاصوليا الحمراء"، إلى جانب أطباق من أطعمة أخرى أعدتها لنا الأم ببراعة تذكر المرء أن الأمهات في كل مكان لهن سمت واحد هو "المحبة" حتى ولو كانت في مجرد إعداد الطعام لأولادها، فهكذا الأمهات في العالم كله يشملن الأولاد بالرعاية والحب والدعاء.
عودة إلى الطريق السريع:
تناولنا إفطارنا في الصباح الباكر، إذ يصحو البرازيليون مبكرًا جدًا في عاداتهم إذا ما قارناه ببلد مثل مصر، وعلل لذلك صديقي مبتسمًا: "الشمس هثنا تصحو مبكرًا جدًا يا مختار"، ربما كان ذلك فيه بعض الدهشة، ورحت أتفهم كيف يمكن للأفلام والمسلسلات أن تمدنا بثقافة مغايرة للواقع تمامًا تجعلنا نبني تصوراتنا عن الأماكن والأشخاص بشكل خاطيء، تمامًا كما تفعل أفلام هوليود حين تُصر إصرارها المقيت على تصدير صورة العرب ومصر على الخصوص محصورة في صورة الجمل والصحراء، أو كما يحدث في مسلسلاتنا المصرية التي تصور فلاحات الصعيد المصري بشكل عابث ولهجة لا وجود لها بالأساس، وهو ما يمكن أن تلاحظه بسهولة إذا شاهدت مسلسلاً يحكي عن الإسكندرية أيضًا، ويُصر الكاتب والمخرج على أن يتحدث الممثل أو الممثلة بصيغة الجمعة "هنروحوا... بنقولوا... نقطعوكم..إلخ"، وهي لهجة اندثرت من الإسكندرية تمامًا إلا من ندر من عجائز بحري، وهو أمر شديد الغرابة.
امتدت من جديد الجبال من حولنا، كما امتدت على مساحات شديدة الاتساع حقول قصب السكر، والتي عرفت خلال الحديث أنها واحدة من أهم الزراعات هُنا، وليس كما توقعت أن "أشجار البن" –الكاكاو- ستكون الأشهر، وكنت مذهولاً لهذه المساحات المتسعة لقصب السكر، والذي أخبراني صديقاي أن البرازيل استثمرت في قصب السكر منذ السبعينيات وأن لذلك علاقة مباشرة بحرب أكتوبر حين منع العرب تصدير النفط إلى الغرب احتجاجًا على مساندة دولة الاحتلال، وهو ما دفع البرازيل إلى التفكير عن مصدر بديل للطاقة، وكان زراعة قصب السكر واستخلاص نوع خاص من الوقود من خلال المولاس، وهو ما جعل البرازيل إلى الآن آمنة من تلاعب براميل النفط وأسعارها المتذبذبة، وأخرجت نفسها ببراعة من تلك الحسابات الرجيمة في عالم النفط.
مرت ساعات كنت أراقب فيها الميكنة الزراعية الضخمة التي تحصد قصب السكر، وتذكرت معاناة أهلنا في صعيد مصر، وتخيلت وجود مثل هذه الميكنة الزراعية هناك في الصعيد، وكم سيكون جميلاً لو رفعنا عن هؤلاء المزارعين الصغار تلك المعاناة السنوية مع قصب السكر، لكن للحقيقة يبدو أن الطريق ما زال طويلاً لينتبه المسئولون في مصر إلى الصعيد، وينظرون نحو نظرة تنمية واستثمار حقيقية لا إعلامية تضيع أدراج الرياح بمجرد انتهاء زياراتهم المستخدمة لتلميع صورهم في الغالب.