القاهرة 31 اكتوبر 2017 الساعة 09:05 ص
2ــ الفلك
توقفنا فى مقال الإسبوع الماضى عن ارتباط علم الفلك بمظاهر الحياة اليومية ، فبعد أن قسم المصريون السنة أياماً و شهوراً قاموا بتقسيم الأيام ، منها : أيام تفاءلوا بها و أخرى كانت نذير سوء .و رغم الأساس الفلكى إلا أنهم ربطوا ذلك بالميثولوجيا المفسرة للدين . ( وهنا يجب أن نشير إلى أن الكاهن المصري لم يكن رجل دين فحسب بل كان عالماً من طراز رفيع .) فعلى سبيل المثال كان اليوم الأول من الشهر الثانى من فصل الزراعة يوماً يدعو للتفاؤل فهو اليوم الذى رفعت فيه السماء ، أما يوم (13) من الشهر نفسه فكان يوم شؤم إذ كانت الربة سخمت تنشر فيه المرض .
و من العلوم التى برع المصريون فيها و ارتبط ارتباطاً وثيقاً بعلم الفلك كان العلم الذى عرف بتفسير الأحلام ، و كان علماً يدرس يستخدم أيضاً فى تشخيص الأمراض غير العضوية أى الأمراض النفسية .
فى كتابه عن الحياة اليومية فى مصر القديمة يعرض بيير مونتييه بعض الأمثال عن الأحلام و تفسيرها :
فمن يرى فى منامه أنه يذبح ثوراً أو أنه يشرب دماً فهذا أمر يدعو للتفاؤل لأنه يعنى أنه سوف يتخلص من أعدائه و يقضى عليهم ، أما رؤية قطة كبيرة فتعنى رزقاً وفيراً و كذلك قطف التمر يعنى نعمة من الله ، و ارتقاء صاري سفينة يفسر على الترقى و رفعة الشأن
أما (ليز مانيكه) فتختار بعض الأحلام الجنسية وتوردها في كتبها عن الجنس في مصر القديمة :
- من يرى في منامه أن قضيبه منتصب خير : هذا يعني أن أملاكه ستزيد
- أنه يتصل جنسياً بأخته خير : فهذا يعني أنه سوف يرث .
- أنه يتصل بامرأة متزوجة شر : فهذا يعني حزناً .
- أنه يتصل بحدأة شر : فهذا يعني أنه سيخسر ثروته .
- أنه يرى مهبل امرأة شر: فهذا يعني أشد المعاناة
- أنه يضاجع زوجته في الشمس شر: فهذا يعني أن ربه يرى سيئاته .
أما إذا رأت المرأة في منامها أن زوجها تزوج بامرأة أخرى غيرها ، فهذا يعنى أنه سوف يقضي عليها . واذا احتوت زوجها بذارعيها فإنها ستصاب بغم . وإذا رأت أن حصاناً يتصل بها جنسياً ، فأنها ستصير عنيفة تجاه زوجها . وإذا اتصل بها فأر فإن زوجها سيعطيها . وإذا رأت أن حماراً يتصل بها ، فإنها سوف تعاقب على ذنب عظيم. وسوف تموت مبكراً إذا رأت في منامها تيساُ يتصل بها . واتصال الأسد بها يعنى أنها سترى شيئاً جميلاً . وإذا رأت أن تمساحاً يتصل بها فإنها سوف تموت عاجلاً . وإذا اتصلت بها حية فسوف تتزوج رجلاً يعاملها بشدة ، وسوف تمرض . وإذا اتصل بها قرد فإنها ستفعل خيراً بإنسان .
*
أما ارتباط العلوم ببعضها البعض و ارتباط هذه بالميثولوجيا و الدين وحياة المصري فى الدنيا و فى العالم الأخر فيرجع إلى العقيدة المصرية القائمة على وحدة الكون بكل كائناته و ظواهره سماوية و أرضية .
وهكذا نرى علم الفلك قد ارتبط كذلك بعملية التحنيط التى كانت بمثابة عملية جراحية معقدة و فى الوقت نفسه ركناً راسخاً من أركان الدين المصري .
فبعد رصد ظاهرة ارتباط بدء الفيضان بظهور نجم الشعرى اليمانية فى السماء رصد المصريون أيضاً أن ضوء هذا النجم العظيم يخبو 70 يوماً ثم يظهر متألقاً ليكون هذا إعلانا بوصول ماء الفيضان أرض مصر وهو ما يعنى اشارة السماء إلى عودة الحياة للأرض التى كانت ميتة . و كان ذلك هو ما جعل المصريين يؤمنون بأن الماء هو أصل كل شىء حى ومن بين مدن مصر التى انتشرت منها عقيدة الخلق من الماء كانت مدينة الأشمونين التى كان ربها هو تحوت نفسه " سيد الزمان " الذى يُنسب إليه و ضع علم الفلك و التقويم المصري .
هكذا كان بين موت الأرض و عودة الحياة إليها سبعون يوماً فلِمَ لا يجرى على الإنسان ما رآه يجرى للأرض التى يعيش عليها !
فكانت هذه الظاهرة الطبيعية المتكررة دائماً بانتظام عجيب مبعث إيمان المصري بعدم الفناء بل إنه اتخذ من مدة السبعين يوماً عبرة و آية فجعلها الفترة التى لابد أن تتم خلالها فترة التحنيط أى تجهيز جسد المتوفى لعودة الروح إليه . فكانت العملية ( الجراحية ) العظمى تنتهى بعد أربعين يوماً و هو سر احتفالنا بـ " الأربعين " حتى اليوم ، ثم يلى ذلك إقامة طقوس و شعائر لتكتمل فترة السبعين يوماً .
وهي الفترة نفسها المدة التي نصت عليها التوراة أيضاً حين شاء سيدنا يوسف تحنيط أبيه يعقوب [إسرائيل] ، الذي مات في مصر :
" ولما فرغ (يعقوب) من توصية بنيه ضم رجليه إلى السرير ، وأسلم الروح وانضم إلى قومه " . (سفر التكوين \ إصحاح \ 49 آية 30) .
" فوقع (يوسف) على وجه أبيه وبكى عليه ، وقبله ، وأمر (يوسف) عبيده الأطباء أن يحفظوا أباه ، فحنط الأطباء إسرائيل . وكمل له أربعون يوماً ، لأن هكذا تكمل أيام المحنطين ، وبكي عليه المصريون سبعين يوماً " . (سفر التكوين \ إصحاح \ 50 آيات 1 و2 و3) .
وقد وصلنا وصف مثير سطره المؤرخ الإغريقي هرودوت (القرن الخامس قبل الميلاد) ، وهذا النص يبدأ بوصف مشهد حزن أهل المتوفي فيقول :
"وهذه أساليب الحداد والدفن عند المصريين ، إذا مات - في بيت من البيوت – رجل ذو قدر ، لطخت كل نساء هذا البيت الرأس أو الوجه بالطين ، ثم يتركن الجثة في الدار ، ويجُلن في المدينة لاطمان وقد شمّرن ، وكشفن عن صدورهن ومعهن كل قريباتهن. والرجال كذلك يلطمون ويشمرون ، وعندما ينتهي ذلك يحملون الجثة لتحنيطها".
وهكذا يحمل أهل المتوفي جثمانه إلى مكان خصص لعملية التحنيط. وكان هذا المكان المهيب مقسماً إلى ثلاثة أقسام ، أولهما يسمح بدخوله لأهل المتوفي للتشاور مع رئيس المحنطين على نوع وسعر عملية التحنيط ، التي كان لها ثلاثة أنواع ، تختلف في درجاتها وسعرها حسب مكانة المتوفي وقدرته المالية.
وعن عملية التحنيط وأنواعها المختلفة يقول هرودوت :
"عندما يؤتى إليهم بجثة ، يعرضون على من جاء بها نماذج لجثث مصنوعة من الخشب ، تشبه الحقيقة بنقشها ، ويقولون إن أجود أنواع التحنيط إتقاناً هو ما يرجع إلى من لا أستبيح ذكر اسمه في هذا المجال.
ثم يعرضون نماذج الطريقة الثانية وهي أقل من الأولى جودة وثمناً. والثالثة وهي أقلها نفقة. وبعد شرحهم هذا ، يستفهمون منهم عن الطريقة التي يريدون أن تعد لهم بها الجثة.
وبعد أن يتفق أصحاب الجثة معهم على التكاليف ، يذهبون عنهم ويتركونهم في محلاتهم.
فيقوم المحنطون بتحنيط الجثة على الوجه التالي ،
وهذه أحسن الطرق : أولاً :
بوساطة قطعة معقوفة من الحديد يخرجون المخ من المنخارين يخرجون بعضه هكذا والبعض الآخر بفضل عقاقير يصبونها (في الرأس) ، وبعد ذلك يشقون الكشح بحجر أثيوبي مسنون. ويخرجون الأحشاء كلها التي ينظفونها ويغسلونها بنبيذ التمر ، ثم يطهرونها بالتوابل والمجروشة. وبعدئذ يملأون الجوف بمر نقي مسحوق ودار صيني وسائر أنواع الطيب ماعدا البخور ، ثم يخيطونها ثانية. وبعد أن يفعلوا ذلك يملحون الجثة بتغطيتها بالنطرون سبعين يوماً ، ولا يجوز أن تستغرق عملية التمليح وقتاً أطول من هذا ، وفي نهاية الأيام السبعين ، يغسلون الجثة ويلفون الجسم كله بشرائط من الكتان الشفاف مغطاة بالصمغ الذي يستعمله المصريون غالباً بدلاً من الغراء. وعندئذ يتسلم الجثة أصحابها ، ويعملون لها هيكلاً خشبياً على شكل إنسان ، ويضعونها فيه.
وبعد إغلاقه عليها ، يحفظونها بعناية في غرفة الدفن ويقيمونها مسندة إلى حائط. هكذا يعد المحنطون الجثث بأبهظ الوسائل نفقات. ولكنهم يجهزونها على النحو التالي لمن يرغبون في الطريقة الوسطى ويتجنبون النفقات الباهظة : يملأون الحقن بزيت الصنوبر ، ثم يملأون به جوف الجثة دون أن يشجوها ، ودون أن يستخرجوا الأحشاء. ولكنهم يضعون الزيت من الشرج ، ويسدونه لكيلا ينساب منه الزيت بعدئذ. ويملحون الجثة أياماً عدتها (سبعون يوماً). وفي نهايتها يخرجون من الجوف الزيت الذي كانوا أدخلوه من قبل. وقوة هذا الزيت عظيمة ، حتى أنه يجرف معه الأحشاء والمصارين التي تكون قد تحللت. أما اللحم فيذيبه النطرون وبذلك لا يبقى من الجثة إلا الجلد والعظم فقط. وبعد أن يفعلوا ذلك يردون الجثة إلى أهلها دون عناية أخرى بعدئذ.
وهذه هي طريقة التحنيط الثالثة التي تستخدم لإعداد جثث من هم أقل ثراءً. يغسلون الجوف بماء الفجل. وتترك الجثة في الملح سبعين يوماً ثم ترد لأصحابها ليذهبوا بها".
ونضيف إلى ما ذكره هرودوت أنه في النهاية كانت الجثة تلف بأربطة من الكتان مغمورة في الصمغ ، وكان كل عضو من أعضاء الجسد يلف على حدة ، ثم يلف الجسد كله ، وكان طول هذه الأربطة يبلغ عدة مئات من الأمتار. أما المؤرخ ديودور الصقلي فيروي طقساً طريفاً كان يجري أثناء عملية التحنيط ، فيذكر أن العامل المكلف بشق البطن كان – بمجرد إتمام عمله – يفر هارباً ويتبعه الناس يقذفونه بكل ما تطوله أيديهم ، ويلعنونه جزاءً لما ارتكبت يداه من عبث بجسد الإنسان.