المغتوي بالمحال، المكتوي بنار العشق
د. هويدا صالح
هو الذي اغتوى بالمحال، فاكتوى بنار العشق والشعر والخيال، إنه صلاح جاهين عاشق البسطاء وأميرهم. عشق الصعب، وطوّع المستحيل، نسج من خيوط خياله ألوانا من البهجة والسعادة وأهداها لهؤلاء البسطاء.استطاع ببساطته وتلقائيته التعبير عن كل ما يشغل بالهم.تسعة وعشرون عاما مرت منذ أن غادرنا في ليلة من ليالي الشتاء صانع السعادة الشاعر والمسرحي ورسام الكاركاتير والكاتب صلاح جاهين. آمن بهؤلاء البسطاء، ورسم لهم أحلامهم، رغم أنه ابن لقاض، وحفيد لسياسي كبير هو أحمد حلمي الذي سمي على اسمه الميدان الشهير.
كرّم جمال عبد الناصر والد صلاح جاهين القاضي "محمد جاهين" وأثناء تسلم درع التكريم مال أحد ضباط ثورة يوليو على أذن جمال عبد الناصر وهمس له أن هذا هو والد صلاح جاهين، وبعد عودة الأب للبيت سخر من ابنه" صرت أُعرَف بك يا فاشل" وكان الأب قد حاول أن يدخل الابن كلية الحقوق حتى يصبح قاضيا مثل أبيه، لكن الابن العاشق للفن رفض ذلك، وأصر على دخول كلية الفنون الجميلة. لذا اعتبره الأب فاشلا، لكن حين عُرِّف به في حضرة جمال عبد الناصر أسقط بين يديه، بل ورأى أن هذا أمر غريب أن يعرف بأنه والد صلاح جاهين.
هل كان صلاح جاهين يدرك أنه سيرحل في الشتاء، يرحل جسدا، لكنه أبدا لن يرحل وهو الخالد بإبداعه وشعره "دخل الشتا وقفل البيبان ع البـــيوت. وجعل شعاع الشمس خيط عنكبوت. وحاجات كتير بتموت في ليل الشــتا. لكن حاجات أكتر بترفض تمــــــوت. عجبي !". وهل كان يدرك أن الحاجات التي سترفض أن تموت هي إبداعه وفنه؟ إنه رجل استثنائي بكل ما تعنيه الكلمة من معاني. عشق الوطن وأوقف كل إبداعه من أجل التغني بحب هذا الوطن. آمن بثورة يوليو وزعيمها جمال عبد الناصر ومشاريعها الكبرى، ومثل هو وعبد الحليم حافظ وكمال الطويل ظهيرا قويا يدعم ناصر ومشروعاته القومية بأغانيهم الثورية. كان يكتب الشعر الفصيح حتى تعرف على الشاعر العملاق فؤاد حداد، فعشق شعر العامية المصرية، وكتبه وتميز فيه، وصنع لنفسه بصمة لا يشبهه فيها أحد حتى أستاذه وصديقة حداد. كان أول من كتب الرباعيات، كان يكتب كل يوم رباعية في مجلة "صباح الخير" وجاءت رباعياته، لتحمل خلاصة التجربة الإنسانية والفلسفة والرؤية العميقة للعالم، والعجيب أن الشعب كان يقرأ هذه الرباعيات ويتفاعل معها.
آمن جاهين بثورة يوليو وصدق حلمها، لكنه انكسر حين انكسر حلم الثورة بهزيمة 1967، أصيب بالاكتئاب واعتزل الشعر فترة طويلة، ولم يرجع إليه إلا بعد أن جمع صديقه عبد الرحمن الأبنودي أعماله الشعرية وقصائده المتفرقة ودفع بها للهيئة العامة للكتاب، لتصدر في مجلد واحد تحت عنوان " الأعمال الكاملة.
لم يكتف برؤيته العميقة في الشعر والرباعيات والزجل، بل كان رساما للكاريكاتير متميزا،حتى أنك حين تطالع رسوماته الآن بدون أن تعرف أنها لصلاح جاهين يمكن أن تتصور أنها لرسام يرسمها ليعالج قضايا مجتمعه في عام 2015، فرسوماته تتحدث دوما عن أزمة السكان، وطوابير الغاز والخبز، والخلافات بين الرجل والمرأة، والسخرية من أداء الحكومة والوزراء الذين لا يحققون تطلعات المواطن، وكل هذا في صور كاريكاتيرية ساخرة، بل تكاد تقترب من السخرية السوداء.
أحب السينما،بل عشقها، فلم يكتف بالكتابة لها، حيث كتب العديد من سيناريوهات الأفلام مثل " أميرة حبي أنا" و" خلي بالك من زوزو" و" شفيقة ومتولي " و" عودة الابن الضال" وغيرها من ألأفلام، بل شارك في التمثيل في عدد من الأفلام مثل " المماليك" و " اللص والكلاب" و " لا وقت للحب" و " المتوحشة " و " وداعا بونابرت".
كان رائدا في كتابة الفوازير بعد بيرم التونسي، فكتب فوازير لثلاثي أضواء المسرح، كما كتب الفوازير للفنانة نيللي، فكتب لها فوازير" الخاطبة " و" العروسة". كذلك كتب عدد من مسرحيات الأطفال مثل:الشاطر حسن" و "حمار شهاب الدين" ومسرحية" الفيل النونو الغلباوي" ومن يقرأ نصوصه المسرحية للأطفال يكتشف أنه فهم جيدا كيفية الكتابة للطفل، وكيف يمكن أن يثير دهشته، فهو طفل كبير، لم تفقده الحياة بقسوتها روح الطفولة ودهشتها.وتعد قصيدة " على اسم مصر " أطول قصيدة بالعامية المصرية، فهي تتكون من 53 مقطوعة شعرية وتتعدى مئات الأبيات، يستعرض فيها تاريخ مصر، عظمة حضارتها، وتضحية أبنائها. كذلك كان جاهين يكتب المقال الصحفي الذي كان يحمل رؤية عميقة وفلسفية، وكان يعبر عن وجهة نظره في الحياة.