القاهرة 17 اكتوبر 2017 الساعة 12:04 م
حوار ـ أحمد مصطفى الغـر | مجلة مصر المحروسة
من أقوله ..الأديب دائما هو كائن رافض وعكس التيار، ويبحث عمّا هو أفضل !
النقد هو عمل استكشافي للذات ،قبل أن يكون لنصوص الآخرين !
أنشأت قناة على اليوتيوب بها بعض أفكاري ومحاضراتي حول قضايا أدبية متنوعة
ضيفنا لهذا الإسبوع.. روائي سوداني،من مواليد بربر بولاية نهر النيل عام 1972م، درس الهندسة بجامعة الخرطوم، لكنه لم يعمل بالهندسة سوى لفترة قصيرة، إذ سرعان ما تركها وفضّل العمل في الصحافة والإعلام، نشر أول مقال له بالصحف في صحيفة الإنقاذ الوطني في الصفحة الأدبية في 1992م بعنوان (فوضى الأدب والبحث عن الجديد) ،لاحقا عمل بصحيفة ألوان، في العام 1998، أسس شركة إعلامية لكن توقف المشروع في بداياته، إستمر في عمله بالصحافة، ومن ثمَّ شرع في نشر رواياته التي توالت، ففي العام 2003م نشر أول روايتين له دفعة واحدة، وتم عرضهما لأول مرة بمعرض أبوظبي للكتاب وهما رواية (الأنهار العكرة)، ورواية (دنيا عدي)، ثم توالت الروايات والأعمال الأدبية والنقدية، وحصل على العديد من التكريمات والجوائز سواء من السودان أو الدول الخليجية، إنه الروائي "عماد البليك" الذي إلتقته (مصر المحروسة) وكان هذا الحوار:
درست الهندسة وعملت بها.. لكن ثم سرعان ما تركتها من أجل الصحافة والأدب، حدثنا قليلاً.. عن بداياتك؟، وكيف دخلت إلى الميدان الأدبي؟
شغف الكتابة بدأ معي منذ الصغر ،و ربما لا أتذكر بالضبط في أي سن، لا أعلم متى بدأت أن أكتب واقرأ، وربما لأني الابن الأكبر، البكر، فإن ذلك جعلني أفكّ عزلتي مع عالم المعرفة. وفي البدايات كتبت الشعر بكافة صوره متدرجاً فيه، ومن ثم كتبت روايات تجريبية مبكرة في مراحل الثانوية، لا أعتبرها نصوصا للنشر، ولكنها زودتني بخبرة إنعكست في أعمالي لاحقا مع بداية النشر، ورغم أني كتبت في النقد الأدبي والفكر، إلا أنني إلى اليوم أجد نفسي في الفلسفة والفكر والأدب والفنون كشيء واحد متداخل، تلك هي سيرتي مع الإبداع والكتابة بوجه خاص. أما دراستي للهندسة فقد كانت في علم أو هندسة العمارة، وكنت وقتذاك أرسم ولا زلت في بعض الأحيان، لكني لا أصنف نفسي رساما محترفا، والعمارة كانت محببة لي كفن وفلسفة أكثر من بعدها التطبيقي في السوق، حيث أنها في بلداننا تحولت إلى تجارة، عموما دفعتني التجربة الأدبية والصحفية للمضي فيها وأحببتها وصارت مشروع حياتي.
هذا يدفعني لسؤالك : هل الموهبة وحدها تكفي لخلق روائي أو صحفي بارع، أمّ لابد من الدراسة؟!
الموهبة هي أساس الإبداع والرواية طبعا، لأن الرواية بالتحديد لا يمكن لنا أن نتعلم كيف نكتبها، وقد قدمت محاضرات في اليوتيوب بعنوان (كيف نكتب الرواية؟) وكان هدفي التوضيح بأن الأساس في الرواية هو الرغبة الداخلية من ثم المهارات التي يتم حفزها. لكن الصحافة ثمة خلاف حول هل نتعلمها أم لا؟ وفي كل الأحوال فهي أيضا تتطلب حساً فنياً وذوقاً أدبياً، أو بشكل خاص؛ الإبداعية والخلاقية. لا يمكن للصحفي أن ينجح إذا لم يكن يفكر بطريقة مختلفة وجديدة في النظر إلى العالم، وثمة تشابه لحد كبير بين الصحفي والروائي بإختلاف وسائط التعبير، ودائما تجد أن هناك روائيين هم أهل صحافة مثل ماركيز وهمنغواي وغيرهما.
نشرت أول روايتين لك (الأنهار العكرة)، و(دنيا عدي) دفعة واحدة معاً، أليس الأمر غريب بعض الشئ أن يبدأ روائي بنشر أول عملين له معاً ؟، ألم تخش من المجازفة؟
ليس من مجازفة وسبق أن قلت إن العملين كانا جاهزين فدفعت بهما، مع أن كل رواية كان لها طابع مختلف، الأول كان يستند على المشروع الذاتي الذي محوره السودان وظلال السيرة في (الأنهار العكرة)، والثاني كان مشروع الروائي المتعلق بالتخييل التاريخي والواقعي في (دنيا عدي)، وتقريبا هذين الجانبين يشكلان رؤيتي للرواية إلى اليوم. وكأنما دون قصد أو بقصد مني، هدفت لأن أضع القارئ أمام صورتي، أو مشروعي عبر هذين العملين، بحيث لا ينخلق متشكل أحادي المسار منذ البداية. لهذا لم يكن من تخوف عندي، وأنا بطبعي أحب المغامرة وارتياد التجارب الجديدة التي فيها لمحة من التجريب، بوعي، وكذلك اختراق نواميس التقليد، في تجربتي الروائية عموما ومشاريعي المتعلقة بالإبداع عموما.
يقولون إنّنا نعيش (مرحلة موت الشّعر، وإزدهار الرّواية)، ألهذا السبب هجرت الشعر ودخلت عالم الرواية؟، وهل حقاً الشعراء، اليوم، هم غرباء أقوامهم؟
لا. أنا توقفت - نسبيا - عن الشعر قبل أن يكون هذا الكلام قائما، الشعر كان بالنسبة لي تجربة ولا أقول إنني توقفت عنها بالمعنى النهائي، أو الجذري، إنما انتقلت لوعي مختلف لطبيعة الشعر والقصيدة ودورهما في الحياة الإنسانية عامة. صار مفهومي للشعر يتعلق بكونه منتميا لطبيعة الحياة وتفاصيلها المختلفة دون أن يكون مجسدا أو مكتوبا في شكل محدد. وهذا الفهم أو الوعي يجعلني أفكر مرات في إعادة تعريف الشعر كما أمور كثيرة في الظواهر الإبداعية والفنون مطلقا. بالتالي الشاعر الغريب، هو الذي أراد أن يُكلّس الشعر ويحنطه في القالب أو الوعي التقليدي، لكن هناك الشاعر المتجاوز الذي يجد نفسه خارج كل المؤاطرات فيصنع قصيدته في كل زمان.. وإلى الآن أنا أكتب الشعر بفهمي الخاص، ولكن قد لا أنشره، وقد أصنع مفاجأة ما ذات يوم وأنشر ديوان شعر أو نص شعري، أو ملحمة غنائية.. كل ذلك يخضع للظروف واختمار الفكرة ،و رغبتي في كسر الحدود بين الأجناس الأدبية والفنون عامة.
كتبت كثيراً في النقد الأدبي بالصحافة، لكن لم نجد لك سوى كتاب نقدي وحيد وهو(الرواية العربية - رحلة بحث عن المعنى)، هذا يدفعني لسؤالك: هل حقاً لدينا أزمة نقد أدبي؟ .. هل لدينا مشكلة نقاد، أم مشكلة عدم وجود أعمال تستحق النقد؟
واقعياً أنا بدأت النشر بالنقد، في الصحف، ولكن مفهوم النقد عندي ولا يزال كان عبارة عن تفكير في الأطر العامة للفنون والإبداع وليس بالنقد المباشر للنصوص، حيث أرى أن العمل النقدي هي نظرة كلية للأنساق وليس مجرد تعلق بنص معين، والنقد هو عمل إستكشافي للذات قبل أن يكون لنصوص الآخرين. دفعت بكتاب واحد نعم حول الرواية العربية، ولدي مشروعات أخرى لم تر النور، وربما النشر هو أحد الأسباب، فالناشرين يميلون لنشر الرواية والقصص أكثر من النقد والفكر، ولكن أيضا لي دوافعي الشخصية في أن تصوري النقدي يتطور ويندفع نحو تشكلات في فهم المخيال الإبداعي العام، وهذا يتطلب مني ألا أتعجل، بخلاف رؤيتي للعمل الروائي مثلا التي أرى أنها تجربة مفتوحة ومتعلقة باللحظة الزمنية أكثر من انفتاحها الكلي على مجمل حركة الزمكان. أما بخصوص وجود إشكال نقدي، نعم هو موجود وسببه الأساسي العجز عن إنتاج المناهج والحكايات النقدية، نحن نستلف ما هو جاهز ونعجز عن تحقيق الأصالة، وبالتالي فهمنا للنقد تقليدي، بمعنى غياب التحديث الذاتي فيه، كما أن النقد الجديد في العالم لم يعد يحفل بالصور القديمة التي يصر عليها الناقد الكلاسيكي الذي أصبح غير قادر على المواكبة وفقد موقعه وحضوره في خارطة المساهمة في الثقافة عموما.
قلت سابقاً أن روايتك (شاورما) فتحت الأفق لقراءة أعمالك الأخرى مثل (دماء في الخرطوم) و)القط المقدس) ، التي صدرت قبلها بفترة، برأيك ما السحر الذي حملته رواية (شاورما) ولم يكن موجوداً في رواياتك الاخرى؟
رواية (شاورما) عمل بسيط للغاية في فكرته وفي طريقة كتابته، هذا سبب. وسبب آخر يتعلق بكونها تقوم على محكى إنساني، والناس عادة تحب القصص الإنسانية التي تسرد الكفاح والحب والنضال ومثل هذه الأمور. ولكن قد لا يكون ذلك كافيا لشرح الأسباب التي تبحث عنها، فالطريقة التي يتعامل بها القراء مع النصوص في الاستقبال والتقاطع والتأويل تخضع لتكهنات وظروف عديدة، قد لا تفهم بالشكل المباشر، وربما حتى لو عملنا على قراءة علمية نعجز عن الوصول إلى الأسرار التي تكشف ذلك، فالأدب برغم أنه واضح ويقوم على مفاهيم كالمتعة ولذة النص والتأويل المنفتح، إلا أنه يظل من الغوامض التي يصعب تفسيرها ببساطة. أما الاختلاف بين (شاورما) وبقية رواياتي، فليس من اختلاف عميق ما دام الكاتب نفسه، إنما تنويعات التجريب وتقنية الكتابة.
أسست صحفا الكترونية عديدة منها (سودانيزبيبر)، و(سودان بوست)، و( الزراف الإلكترونية)، و(صحيفة بربر الإلكترونية)، هل هذا نابع من إيمانك بأن المستقبل سيكون عهد الصحف والكتب الإليكترونية فقط؟، برأيك إلى متى سيصمد الكتاب والجريدة الورقية؟
نعم المستقبل للصحافة والكتاب الإلكتروني ما من شك في ذلك، سوف يأتي يوم يصبح فيه الورق نسياً منسياً، لا أعرف متى سيحدث ذلك، لكن أراه في حيز الإمكان والحضور. أما سبب تأسيسي للمواقع المذكورة لأن الانترنت أصبحت وسيط للتلقي والمعرفة أكثر قدرة على الوصول للناس، ويضاف لها السوشيال ميديا التي أعمل أيضا على مواكبتها، فمثلا عملت على إنشاء قناة لي على اليوتيوب بها بعض أفكاري ومحاضرات حول قضايا متنوعة أدبية وعامة.
لاحظت تعدد مؤلفاتك ودراستك عن سلطنة عمان، لعل أشهرها (الأمل المتحقق: قابوس بن سعيد ـ سيرة لسلطان عمان)، الكتاب الذى لاقى ترحيباً كبيراً في السلطنة، حدثنا عن علاقتك بالسلطنة؟
أنا أعيش وأعمل في السلطنة منذ أكثر من عشر سنوات، وأنجبت فيها ابني مهيار ومهيد، وهي بلد جميل ومرحاب والعمانيون شعب ودود ولطيف، وقد وجدت فيها راحة نفسية وأنجزت فيها معظم مشاريعي الأدبية والفكرية في السنوات التي قضيتها بها.
هذا يحيلني إلى سؤال آخر عن تقدير السودان لعماد البليك.. هل حقاً لا كرامة لنبيِ في وطنه ـ كما يقولون؟
ليس بهذا المعنى المطلق، فأنا معظم الذين يقرأون لي هم شباب السودان بالتحديد الجيل الصاعد فهناك من يهتم ويرغب في رؤية حياة مختلفة وأكثر نضوجا من الماضي. قد تكون بلداننا طاردة لأسباب معلومة، لكن حقيقة أي أديب أو فنان أن جمهوره الأساسي يبدأ في بلده ومن ثم يتسع لما هو أكبر في مقام العالم. أما التقدير الرسمي فهذا شيء آخر، وليس مهما لأن الأديب دائما هو كائن رافض وعكس التيار، ويبحث عمّا هو أفضل حتى لو بدا مثاليا.
لكل مبدع طقوسه الخاصة، فيُقال أن (سارتر) قد أبدع كتابه الشهير(الوجود والعدم) في مقهى باريسي، أما(ماركيز) فكان يكتب وهو يرتدي ملابس الميكانيكي، ماذا عن إبداع (عماد البليك)..هل لديك طقوس معينة عند الشروع في الكتابة؟
ليس لي من طقوس محددة في الماضي، ولكن في الحاضر أنا أكتب في غرفة هادئة بالمنزل، أتناول القهوة فقط، ولكن ليس بشراهة. وأكتب على اللابتوب مباشرة وفي فترات الصباح عادة أو الليل المتأخر أحيانا. ومنذ أكثر من 12 سنة لا استخدم القلم تقريبا في الكتابة، ويبدو أن خيالي صار مرتبطا بنظام لوحة المفاتيح الحاسوبية. بمجرد أن أحملق في البياض أفكر في كيف يمكن تسويد هذه المساحات واستعمارها بالأفكار.
هل سبق وأن زرت مصر من قبل؟، وماذا عن علاقتك بالكتّاب المصريين.. لمن تقرأ منهم؟
للأسف لا. ربما بعض الأشياء الجميلة نفعلها في أوقات متأخرة، وليس من سبب واضح سوى المشغوليات، فأنا وقتي أغلبه للعمل، ولا أجد فرصة طويلة للراحة والسفر. أما علاقتي بالكتّاب المصريين فلدي أصدقاء مع أجيال جديدة من كتاب مصر، وإن كانت ليس بهذا التوسع الكبير وهي علاقات ساهم فيها الفيسبوك والوسائط الحديثة، لكن على المستوى الصحفي فقد زاملت الكثيرين.
في الختام.. حدثنا عن مشاريعك الأدبية المستقبلية؟
أفكر في أكثر من مشروع وأعمل عليها، منها مشروع كتاب فلسفي يقوم على تفكيك اللغة ومحاولة فهم الذات والعالم وأنسقته من خلال كيمياء ومجازات اللغة، فاللغة تقول وتحيل إلى الكثير. كذلك أعمل على مشروعي فكري متعلق بالسودان، في محاولة لكتابة أو تأريخ بعض الملامح الثقافية والفنية من مراحل تاريخية مختلفة.