القاهرة 17 اكتوبر 2017 الساعة 10:25 ص
كتبت: هــدى يونس
داخلها رضا بما قُسم ..
لا تنظر فيما يملكون ..
وتطلب من الله أن يزيدهم من خيره ..
يتتبعون تحركاتها، وتصرفاتها في تركة زوجها الهزيلة ..
تدبر أمورها ..
ولا تطلب شيئًا ..
يرسلون الصغار .. تعطهم مما تملكه ..
وتكتفي بالقليل ..
دائمًا تذكر فضل الله وستره ولا تعطي تفصيلا ..
يوم صرف معاشها تحضر هدية لكل زوجة من زوجات ولديها ..
يغرقونها بالاستفسار عما معها .. فتبتسم وتنسحب إلى حجرتها ..
*************
تلاميذ المدرس يملئون المكان على دفعات بحركات وضجيج وعراك ..
ولا يحل الهدوء إلا ليلًا ..
ملأ يد وأصابع زوجته ذهبًا ..
بهرها بريقه باركت ودعت بالمزيد .
*************
عندما سكنت حركتها داخل حجرتها ..
تذكرت بيع آخر ما كانت تملكه لدفع مصاريف دراسته النهائية ..
تداعت مواقف بيع باقي مصاغها وأزماتها وحيرتها بعد موت الأب ..
بكت ولا تعرف سبب بكائها .. احتارت ..
اتهمت روحها بالحقد على ذهب زوجة ابنها..
وبعد اللوم .. تراجعت .. وفكرت ..
ربما حزنها من إغفال الابن وعدم تذكره بأن يعلن اهتمامه بها.
حاولت أن تبرر سلوكيات كثيرة لتمحو صورة سقوطها من ذاكرة اهتمامهم ..
*************
غسلت وجهها واستغفرت الرب راجية أن يسامحها..
وانشغلت بترتيب دولاب ملابسها ..
بعدها قررت الذهاب إلى الخياطة بقماشها الجديد ..
*************
مرت أيام ..
اشتري الابن الآخر لزوجته مصاغًا ..
باركت ..
وانصرفت لحالها ..
**************
ماتت أختها الكبرى ..
واحتفى زوجها الثري بمراسم دفن بهرت الجميع ..
بكت يومها كثيرًا .. وظلت شهور ساهمة ..
لا تخبر أحدًا عن الذي تجهله..!!
تساءل نفسها عما يحزنها غير الفقد الذي توقعته منذ سنة مضت .. لا تعرف ؟..
*************
ذات ليلة .. جافي النوم جفونها ..
وشبح الموت يلاحقها..
وماذا أعدت له ..
تذكرت أعمالها للخير .. لم تقنعها ..
تربية الأيتام ..
قالت باستهانة : دور كل أم !! ..
ما عانته من قسوة أبنائها وتنكرهم لها قالت : طبيعة الحياة وظروفها ..
تراكم صعوبات واجهتها في صبر وصمت ..
تقول : هناك من يتحمل ظروف أكثر صعوبة !!
فجأة أطل الغيب بدون حجاب ..
تجلى أمامها مراسم دفن أختها .. فانتبهت ..
وبدأت تخطط لادخار تكلفة الجنازة التي لن يدفعها أحد وستذهب دون دراية من أحد..
وقتها سينكرني الأقربون .. ويجهلني الأبعدون
*************
أخيرًا .. بعد سنوات امتلكت عقدًا كبيرًا من الذهب ..
اعتبرت ما فعلته انجاز يفوق كل شئ .. تتزين به في الحياة
وبعد الموت ينفق ثمنه على مراسم ليلة الدفن ..
*************
فوجئوا بما ترتديه ..
واستولي عليهم سؤال واحد : بكم ؟ ومن أين ؟ وكيف ؟
لم يعلموا انه ثمرة حرمان سنوات من أشياء كثيرة ..
كثيرة بعد احتلال حلم امتلاك ما يسترها عند الدفن ..
لم تبكي .. أشفقت عليهم من الأنانية التي شكلت هياكلهم ..
*************
كانوا يتابعون تحركها .. الآن يتابعون رقبتها ..
تبتسم لغفلتهم عما يحملونه في أيديهم وعلى صدروهم ..
*************
تسعد لحالهم .. واكتفت بالصمت ..
************
بدأ زوجها وأختها في زيارتها ..
تتذكر الأحلام وتفاصيلها .. وبما يودون قوله ..
تؤكد لنفسها حقًا الموتى لا يتكلمون !
*************
شغلها تذكر تفاصيل الأحلام المتتابعة .. والتي تنهمر على ذاكرتها كل ليلة !!
*************
بعد أيام ..
لازمت سريرها غير راغبة في مغادرته ..
عفت نفسها الطعام ..
يمر اليوم وهى شبه صائمة .
*************
دخلوا حجرتها، عيونهم تتفحص محتوياتها ولم يهتموا بفحص ما تعانيه ..
يتردد سؤال فاتر : هل تريدين شيئًا ؟
ترد : لا شئ غير الستر !!
*************
اليوم السابع
طلبت من الابن الأكبر أن يأتي بصغري بنات أختها ..
تعجب وتساءل : ولماذا هي بالذات ؟ تصمت !!
تعاود الطلب .. هو لا يملك وقف فضوله لجهله بما تفكرفيه !!
وبتكرار السؤال : تبتسم وتطلب بصوت يشبه صوت النبوءة : " نفذ أول وآخر شئ لي "
ينزعج ويوقف اندفاع تساؤله !!
**************
غارقة هي في استعادة الأحلام الأخيرة .. تقوي بامتدادها في أرواحهم ..
وتسترجع تفاصيل وصور لقائها الشفاف بهم .. ولم تنتبه بأن الأفق يراقب النهاية ..
*************
تتوهج ضربات القلب لرؤيتهم في وضح النهار .. بعد اعتياد رؤيتهم ليلاً ..
بعث وجودهم صحوة حياة في تجاعيد الجسد ..
ثم اختفوا على غير العادة ..
*************
تساءُل نفسها : لماذا لم تأتى ابنة أختي ؟..
لم يمر وقت حتى رأتها أمامها..
ابتسمت .. وضمتها بحرارة إلى صدرها وهى نائمة ..
منحتها لمسة جسد الصغيرة ابتهاج واطمئنان .. نظرة عين الصغيرة المتلهفة زادتها قوة ..
فلم تحس وجعًا أو تعبًا ..
أما الصغيرة ذُعرت من رؤية خالتها تحتضر مثل أمها والكل غافل عما يحدث !!
تبكي ..
تضمها الخالة وتحنو مهونة ما يحدث ..
تحاول الصغيرة أن تتكلم ..
ويفقد اللسان القدرة .. فتضمها بحنو وتخفي وجهها في صدرها
وتقول هامسة وواهنة في أذنها : لا تتركيني فلم يتبقي غير دقائق !!
لم تستطيع النظر إلى وجه الخالة ..
وهى تقول : " اعلمي يا صغيرتي وحبيبتي أن الشخص الذي أريده الآن وأنا أحتضر غير الذي أريده عندما كنت حيه ".
يرتجف بدن الصغيرة على ما تبقي من أثر أمها التي تجدد وقع وصور فراقها.
************
تقدمت زوجة الأصغر وانكبت على الخالة .. انزعجت وسألتها عما تفعله .. فلم تجب ؟
رأتها تحاول فك محبس العقد من الرقبة.. أبعدتها الصغيرة برفق وأمرتها أن تؤجل هذا ..
نظرت غاضبة ومحذرة ..
لا تملك الصغيرة غير الرجاء ..
تستجدي أن تتركها ترحل في هدوء ..
زوجة الابن حركتها متوترة وضاغطة على صدر الخالة في لحظات الاحتضار.
تستغيث نظرات الخالة بالصغيرة لتبعد غيلان تجردت من الإحساس ..
ثم ينسحب خيالها غارقًا في عوالم آخري ..
تفيق وتستغيث بالصغيرة تحاول أن تقول شيئًا ولم تجد ما يقال ..
زوجة الابن لم توقف محاولات حصار الرقبة وفك المحبس المعاند ..
أحست بتوسل الخالة الصادر من بدن وعيون تقاوم الاحتضار..
وجدت الصغيرة نفسها تسير في شوارع القرية ظهرها للطريق..
عيناها الباكيتين تبحث عمن ينجد خالتها من سدنة جهنم ..
تتجسد أمهامها عيون الخالة وأنفاسها الهاربة ..
تمد يديها لتبعد الحصار فلا تجد غير الهواء ..
يبرق وميض اختفاء الأنفاس وصعود الروح ولا يخرج صراخها مدويًا في أرجاء الطريق.