القاهرة 17 اكتوبر 2017 الساعة 10:25 ص
علم الفلك -1
أقبل المصريون الأوائل على النزول إلى الوادى السهل لما رأوا فيه من ماء يسيل بين ضفتين فعاشوا هناك يشربون من هذا الماء العذب و يأكلون مما ينبت عل ضفتيه من خير . هكذا كان النيل هو منشأ الحياة و أساس استمرارها ، و كان أول ما لاحظه المصريون الأوائل هو ظاهرة انحسار الماء لفترةٍ ما ثم عودته مرةً أخرى ، فلما راقبوا هذا الظاهرة أدركوا تكرارها المنتظم ، ثم تحولوا من الترقب إلى التحسب و التأمل ، ثم إلى دراسة هذه الظاهرة المتكررة فعرفوا ارتباطها بظواهر كونية عظيمة أخرى هى باعثة الحياة فى هذه البقعة من الأرض . و هكذا صارت مراقبة الظواهر الكونية و محاولة سبر أغوار تكرارها و ارتباطها ببعضها البعض هى أساس نشأة الفكر الدينى و الدنيوى و من هنا أيضاً نشأت فكرة وحدة الكون التى ميزت الرؤية الفلسفية المصرية للحياة و ما بعدها
. فإذا عدنا لظاهرة فيضان النيل نجد المصريين الأوائل قد رصدوا ارتباط وصول الماء إلى أرضهم بظهور نجم الشعرى اليمانية فى السماء ، تحديداً فى الفجر فى الأفق الشرقى لما عرف فيما بعد بمدينة منف ،عاصمة مصر الموحدة . فكان أن حسبوا الفترة بين تكرار حدوث هاتين الظاهرتين على الأرض و فى السماء ، فوجدوها 365 يوماً . وهى الفترة نفسها التى يستغرقها دوران الأرض حول الشمس ، فكان هذا هو منشأ التقويم السنوى . ثم قاموا بتقسيم هذه السنة - طبقاً لطبيعة حياتهم - إلى ثلاثة فصول هى فصل الفيضان " اخة " أو " اخت " الذى يبدأ من 19 يوليو حتى 18 نوفمبر ثم فصل البذر أو بدء الزراعة "برية" أو بريت" من 19 نوفمبر حتى 18 مارس يله فصل " شمو " وهو فصل الحصاد
. و كان المصريون قد قسموا السنة إلى إثنتي عشرة شهراً ، وكان كل شهر منها ثلاثين يوماً وبهذا صارت أيام السنة 360 يوماً وقسم اليوم إلى اربع و عشرين ساعة ، وهى الفترة نفسها التى يستغرقها دوران الأرض حول نفسها . وتحت عنوان أقدم ساعات العالم، نقرأ في كتاب "مصر في العصور القديمة"لابراهيم نمير و آخرين : " ... ولقياس الزمن اخترع المصريون المزاول لمعرفة الوقت نهاراً والساعات المائية لمعرفته ليلاً. ويتكون أبسط أنواع المزاول من قضيب خشبي عليه خطوط تدل على الساعات، وفي أحد طرفيه كتلة خشبية يعرف الوقت بسقوط ظلها على خطوط القضيب، ولذلك توضع بحيث تكون في الشرق صباحاً وفي الغرب مساءً.
وتتكون الساعة المائية من إناء يملأ إلى حافته بالماء، ويتقطر الماء ببطء من ثقب صغير في أحد جوانب القاعدة، فينخفض سطحه إلى العلامات المنقوشة بداخل الإناء، فتدل تلك العلامات على الساعات في الشهور المختلفة. وفي المتحف المصري ساعة من هذا الطراز مصنوعة من المرمر، عثر عليها في الكرنك، وتنتسب إلى عصر (أمنحتب الثالث)، الأسرة الثامنة عشر، وقد ظل هذا النوع من الساعات مستعملاً في المعابد المصرية إلى ما بعد عهد (الإسكندر) بزمن طويل"
. ثم كان أن أضاف المصريون لهذه السنة المكونة من 360 يوماً خمسة أيام أخرى عُرفت بالنسيء واعتبروا أن الأرباب قد ولدت في هذه الأيام الخمسة فصارت هذه الأيام أعياداً ومع نهاية العام وفي أيام النسيء الخمسة هذه كان الكون كله يتعرض للمخاطر فكان لابد من الحفاظ على منظومة الوحدة الكونية حتى يبدأ عام جديد ويفيض النيل بمياهه فتتجدد قوى البلاد ، فإذا اجتاز الكون ( مصر ) مرحلة الخطر ونجحت المساعي في درءه إلتأم شمل الأرباب والملك ، ليحتفل الجميع بحلول عام جديد سعيد ، فكان هذا إذن سر إحتفال الناس ببدء عام جديد . و هو الاحتفال الذى نقله العالم عن مصر بمولد العام الشمسى الذى كان المصريون يسمونه " مسو رع " أى مولد الشمس
. و هو العيد الذى ارتبط عند المصريين بوصول مياه الفيضان (أخيت)، وكان العيد يبدأ بتحرك مركب "آمن" المقدس من معبد (الكرنك)، محمولاً على أكتاف الكهنة، حتى يصل إلى النيل. ومن خلال نقوش بصالة الأعمدة بمعبد (الأقصر)، نرى الموكب الرباني يُستقبل عند النيل بالطبول والتصفيق، وبينما يشد الجنود المراكب المقدسة، يحتفي الناس بهذا الموكب، فيغنون ويرقصون على ضفاف النيل.
وقد حرص الفنان المصري على تسجيل الاستعدادات لهذا الحفل، فسجل على جدار المعبد طباخين وجزارين وهم يذبحون الأبقار ويعدونها، من أجل الموائد العامرة بأطيب الطعام، من خضروات وفاكهة وشراب وفير. أما "شمو"، أو شم النسيم، فهو عيد عظيم غني عن التعريف، لأننا مازالنا نحتفل به إلى اليوم. إنه عيد الربيع، مولد الحياة، الذي انتقل من مصر إلى جميع شعوب العالم، الذين ما زالوا يحتفلون به، ويحافظون على بعض طقوسه، ومن أشهر مظاهره البيض الملون، وكان المصريون [القدامى] قد اعتبروا البيضة مبدأ الحياة وأهم مظاهرها، فلونوها وضموها إلى قائمة مأكولاتهم في هذا العيد.
و لم يكتف المصريون بهذا ولكنهم ربطوا أيام السنة بأفراحهم وأتراحهم، فكان منها الأيام السعيدة وأيام أخرى غير ذلك. يقول (هيرودوت) : "من بين الاصطلاحات التي اتفق عليها المصريون أنهم كانوا يحددون الرب الذي ينتمي إليه كل شهر وكل يوم، وما سوف يكون المصير المقدر للمولود، حسب يوم مولده، وكيف سيموت، وكيف يجب أن يكون". وقد قام المصريون بتقسيم الأيام عدة أقسام، منها : قسم أدرجوا تحته الأيام السعيدة، وقسم آخر وضعوا فيه الأيام التعسة، أو كما نقول "أيام النحس"
. وقد خضع هذا التقسيم لأحداث معينة، ربطوا بينها وبين الأيام التي وقعت فيها. أما هذه الأحداث نفسها، فأرجعوها إلى تاريخ موغل في القدم، هو يقيناً تاريخ ميثولوجي، أي مرتبط بالأساطير القديمة، يعود إلى بدء الخليقة. فحددوا مثلاً يوم رفع السماء بأول يوم من الشهر الثاني من الفصل السنوي الثاني، أي فصل "بريت"، وجعلوا من هذا اليوم يوماً مباركاً، فإذا صادف وقوع حدث ما في هذا اليوم يكون حدثاً سعيداً، وعلى النقيض من ذلك كان اليوم الثالث عشر من نفس الشهر بنفس الفصل، يوماً شؤماً، إذ كانت ربة الوباء "سخمة" تقوم بنشر الأوبئة في هذا اليوم، وعلى ذلك نستطيع تفسير تشاؤم الناس – في جميع أنحاء العالم – من الرقم 13.
وبالطبع كان يوم مولد الرب "ست"– رب الشر – يوماً سيئاً لا يتفاءل به أحد، بل كان الجميع يخشون هذا اليوم، حتى أنهم كانوا يلزمون السكون، فلا يفعلون شيئاً على الإطلاق. وعموماً كانوا يتخذون حذرهم في أيام "النحس" هذه، حتى مجرد الذبح كانوا يأجلونه لأيام أخرى. كما كانوا يؤجلونالخروج للتنزه، أو ركوب القوارب، في هذه الأيام. و قد اهتموا اهتماماً شديداً بالأحلام وتفسيرها، وعدوها من العلوم العظيمة، وقد بلغوا في علم تفسير الأحلام حد أن كانوا يقومون بتشخيص بعض الأمراض عن طريق "الحلم". وكان الجميع يتساوون في هذا الأمر، حتى أبسط أفراد الشعب. بل إن الملك كان يحاط بمفسري الأحلام. وقد وضعوا قوائم لتفسير الأحلام للاطلاع عليها، والاسترشاد بها.