القاهرة 17 اكتوبر 2017 الساعة 10:15 ص
بقلم: د.مصطفى عطية جمعة
كعادة السينما الإيرانية ، تأتي دائما بمذاق مختلف ، يتأتى من طبيعة الرؤية السينمائية التي تحكمها ، والفكر التي يقودها ، والجماليات التي تطرحها . إنها سينما مختلفة عما يقدم في السينما العالمية ، فهي معبأة بحس ديني إسلامي يتبدى في حفاظ صناع الأفلام على المرأة محجبة ، وعلى مشاهد من الصلوات ، والأذكار الدينية ، والأهم التصاقها بالشعب والإنسان : هموما ومشاهد وتفاصيل وجزئيات. أما الجماليات فهي نابعة من براعة استخدام الكاميرا وتركيز الضوء على التفاصيل الدقيقة ، والعناية التامة بالمشاعر الإنسانية ، والغوص في أعماق الشخصيات .
ويأتي فيلم " رجل المبيعات- The Salesman» ( 2016م ) ، للمخرج الإيراني الشهير أصغر فرهادي ، محملا بهذه الروح ، مع إضافة روح جديدة ، ونص سينمائي مختلف ، متعقد بتعقد الحياة وتكوين الشخصيات وما صادفته من أحداث ، والأجمل في هذا النص أنه يأتي عكس ما هو متوقع ، بل تكاد بنية الفيلم وأحداثه وعلاماته تخالف ما قد يتبادر إلى الذهن ،بدئا من العنوان ، ومرورا بالأحداث ، وما هو متوقع من الشخصيات ، ثم النهاية التي جاءت صادمة .
لذا ، ستأتي قراءتنا لهذا الفيلم من خلال الاشتباك المباشر والمقطع مع أحداثه وشخصياته ، وهو اشتباك قد يمتد إلى ما هو خارج الفيلم ، حيث إن هناك نصوصا أخرى تتوازى معه ، مثلما تتقاطع مع ميدان السياسة التي مهما نأت السينما عنها ، فإن السياسة – بطبيعتها تطاردها ، وتلك من مفارقات السياسة والفن وتناقضاتهما في آن .. ، فكلاً من السينما والسياسة وجهان لعملة واحدة في تعاملهما مع الواقع، السياسة تصنع واقعا وتؤثر فيه ، والسينما تعبر عن هذا الواقع وتنتقد السياسة ، وكلاهما في حاجة إلى مناخ من الحريات يجعل الواقع ميدانا لتلاقي السينما بوصفها فنا وتعبيرا ، والسياسة بوصفها أحداثا ومجريات وقرارات ، وتلك المعضلة لا تتوافر في بلاد العالم الثالث بشكل كبير ، بل تتفاوت فيما بينها ، حسب مساحة الحريات.
العولمة والسياسة :
نرى في العالم الروائي للفيلم ومن خلال مشاهده الأولى ، وصفا لأجواء العاصمة الإيرانية " طهران " ، وركضها المتسارع نحو العمران الحديث ، عبر أبنية تتطاول ارتفاعا ، وتتعاظم عددا ، تخفي في طيات شقهها آلاف الأسر والنفوس والعقول والأفئدة ، مختلفة النوازع والاتجاهات ، مثلما هي الحال المدن في عالمنا الحديث ، الذي يتسارع نحو العولمة ، شاء أهله أم أبوا ، فحركة الحداثة العمرانية لا تعرف مشاعر بقدر ما تعرف رؤوس الأموال . فعلامات العولمة باتت معلومة : ناطحات سحاب ، شوارع واسعة ممتدة ، إعلانات متحركة ، مطاعم أمريكية ، حياة متسارعة الإيقاع،الكل يلهث فيها خلف المادة ، كي يشبع ما يراه بعينيه من إغراءات العولمة.
لقد حاز الفيلم على جائزة الأوسكار في الولايات المتحدة الأمريكية ، ورفض مخرجه وكذلك ممثلوه وصانعوه الحضور لحفل الأوسكار في نهاية العام 2016م ؛ إدانةً منهم لقرارات الرئيس الأمريكي الجديد " ترامب " ورفضه دخول مواطني دول عديدة كلها إسلامية إلى الولايات المتحدة ، ومنها دولة إيران : الغريم القديم الجديد. ويبدو أن السياسة الدولية لا يمكن أن تهدأ بخصوص هذا الصراع ، فقد هدأت الأمور قليلا مع توقيع الاتفاق النووي الإيراني مع الغرب ، ولكنها عادت للاشتعال مجددا مع تولي ترامب ، فيظل المشهد مستمرا بكل صراعاته .
ودون النظر إلى هذا الموقف السياسي وما يرتبط به من تفسيرات ، قد تتناقض أو تتلاقى معه ، فإنها تظل في النهاية خاضعة لتقلبات الساسة والسياسة ، إلا أن السينما الإيرانية تظل متميزة في صناعتها وجمالياتها ، مهما قيل عن طبيعة الجوائز الغربية الممنوحة لمخرجيها وفنانيها ، وأنها تعطى لمن يتواءم فكريا مع الغرب ، أو كنوع من المماحكة السياسية ضد إيران ، فالثابت أن السينما الإيرانية احتلت مكانة عالمية يصعب تجاهلها أو اتهامها ، وصارت لها بصمتها الخاصة .
نصان يتوازيان وعنوان مفارق :
إن فيلم " رجل المبيعات- The Salesman " عجيب في مضمونه وجمالياته ، لأنه لم يتجه مثل أفلام إيرانية كثيرة نحو الريف أو القرى أو هوامش المدن وأحزمة الفقر حولها ، وإنما اتجه نحو قلب المدينة / العاصمة رأسا ، من خلال عائلة صغيرة مكونة من زوج يدعى عماد وهو الممثل " شهاب حسيني" ، ، وزوجته رانا ، وهي الممثلة "ترانة عليدوستي" ، وهما بلا أولاد ، مثقفان حالمان ، يعيشان وسط طهران الصاخبة ، المكدسة بـ ( 16 ) مليون نسمة، ذات يوم ، يعمل عماد معلما للتاريخ في مدرسة ثانوية صباحا ، وفي فرقة مسرحية متواضعة مساء ، وتشاركه العمل المسرحي زوجته رانا ، وتدور أحداث الفيلم خلال أدائهما لنص مسرحي عالمي شهير " موت بائع متجول – Death of a Salesman" ، الذي أنتج عام 1949م ، للكاتب المسرحي البريطاني آرثر ميلر وقد فاز فيما بعد بجائزة البوليتزر المرموقة عن فرع الدراما، ثم تحولت لأفلام كثيرة أبرزها فيلم يحمل نفس العنوان صدر عام 1985، من بطولة الممثل داستن هوفمان .
لقد رأينا طيلة أحداث الفيلم الإيراني مشاهد من هذه المسرحية ممثلة على خشبة المسرح ، وبأداء يشارك فيه عماد نفسه وزوجته معه ، لتكون المحصلة المرئية : أننا أمام نصين : نص الفيلم الأساسي عن حياة عماد وزوجته ، وما طرأ عليه ما من مفاجآت أليمة ، ونص تمثيلي يؤديانه أيضا ، والروابط بين النصين قائمة ، أولها عنوان الفيلم نفسه ، الذي لا يمكن فهمه أبدا من خلال شخصية عماد ، فلم نره بائعا أو تاجرا . وثانيها : فقرات درامية من المسرحية ذاتها ، نجد أنها تتلاقى مع حياة عماد وزوجته . ومن هنا ، فإن عنوان الفيلم يحيلنا بالضرورة إلى مسرحية " ميلر "، كي نفهم أن الفيلم عزف بشكل مختلف على الطرح الفكري للمسرحية ، والذي يتجاوز أحداث الفيلم ذاتها ، ليؤكد لنا أن إنسان العولمة الحالي ما هو إلا رجل للمبيعات، كلٌ يبيع حسب تخصصه ، المهم أن يبيع وأن يربح ، ليعيش في عصر العولمة بكل مادياته . فيكون السؤال : هل بالفعل أننا تحولنا لكائنات مادية نفعية بائعة ؟
الاغتصاب الحدث والدلالة :
تشكل حادثة الاغتصاب محورا مهما في أحداث الفيلم ، وتبدأ بستيقاظ الزوجين صباحا على أعمال حفر وإنشاءات بجوار البناية التي يقطنان فيها، ومن ثم تهتز عمارتهما السكنية، وتتصدع ويسمعان صوت النوافذ وهي تتشقق.
يهرع عماد وزوجته هاربين من المبنى ، بحثا عن ملاذ جديد لهما ، وما إن تستقر أقدامهما في الشارع ، حتى يعود عماد ثانية إلى عمارته السكنية المتصدعة ، لينجد سيدة عجوز ، في إشارة إلى طبيعة السينما الإيرانية التي تجعل للقيم الإنسانية الخيرية مكانا دائما لها ، وفي نفس الوقت تشير إلى حقارة الإنسان ، وكأنها تقدم الإنسان متناقضا : خيريا وسلبيا ونفعيا ، وإن انتصرت للبعد الأول .
يستقر الحال بالزوجين في شقة جديدة ، دلهما عليها أحد أصدقائهما ، حيث تتعرض زوجته للاغتصاب وهي تستحم في دورة المياه ، عندما تسمع صوتا ، فتظن أنه زوجها ، وما كان إلا لرجل كان يقطن الشقة من قبل ، ومعه المفتاح ، وعندما يدخل إلى الشقة ويجد الزوجة في الحمام فإنه يرتكب الفعل الفاحش ، ثم يهرب بعدما غابت الزوجة عن الوعي فلم تر وجهه ، ويكتشف عماد المأساة عندما يعود ويجد آثار الجريمة ، وزوجته في حالة إعياء شديدة . ثم تطورت الأحداث بعد ذلك ، بحثا عن المغتصب ، الذي سنعرف بعد ذلك أنه رجل كبير في السن .
إن الملاحظ هنا أنه لم ترد أية تفاصيل لمشهد الاغتصاب على نحو ما نجد في الأفلام الغربية والعربية ، بل كل ما رأيناه هو دم في الحمام فقط لا غير ، ونعلم أن الكثيرين يعشقون مشهد الاغتصاب بكل ما فيه من صراخات وتلذذ بامتلاك الأنثى في أشد لحظات ضعفها ، لذا يتفنن المخرجون في تصوير المشهد ، وإثارة المتفرجين ولا يزال يعلق في أذهاننا مشهد اغتصاب سعاد حسني في فيلم الكرنك على يد مخبر أمن الدولة ، وكيف رضخت بعد ذلك لرئيس المخابرات .
في فيلم رجل المبيعات ، كان الزوج حريصا على ستر زوجته ، بالرغم من حالة الجفاف العاطفي الذي كان مسيطرا عليهما خلال هذه الفترة ، وحريصا على استرداد كرامة زوجته ، والانتقام بشكل مختلف ممن ارتكب الجرم ، فيبدأ في الشك في كل الأشخاص الذين حوله : مثل باباك زميله في المسرح ، والسيدة المستأجرة القديمة، وعامل المخبز. بل إنه يعامل بقسوة تلميذًا لديه في الصف على تصرف أخرق بدَرَ منه ، ويستغل دوره على المسرح في سب وإهانة باباك بطريقة فهمها الأخير، لكن الجمهور اعتقد أنها جزء من المسرحية . حتى يتوصل في النهاية إلى المغتصب فيحبسه ، ثم يحضر أسرته ، ويفضحه أمام زوجته وأولاده ، ويرى أن ذلك كافيا كعقاب ، فقد أذله وحقّره أمام الناس ، خاصة أسرته ، وتركه يغادر دون أن يبلغ الشرطة عنه . لينتهي الفيلم بنوبة قلبية تنتاب الرجل المغتصب ، الذي وجد احتقارا في أعين من حوله ، فهاجمه المرض بشدة ، واستسلم الرجل للأزمة ، لعلها يجد فيها ملاذا للموت ، هربا من مستقبل يكون محتَقَرا