القاهرة 17 اكتوبر 2017 الساعة 10:09 ص
الليلة الأولى في ساو باولو:
قال صديقي كما ختمت بالحلقة السابقة، بأنه عليّ أن أتحضر لمقابلة "المهدي المتتظر"، ونصحني أن ألتزم نوع السجائر التي أدخنها، علمًا بأنه لا ولم يدخن مطلقًا، إذ كان يرى دائمًا أنَّ: "المهدي يدخن أعشابًا إفريقية"، وكانت الجملة يقولها بآداء ربما فهمت منه السخرية من هذا النوع، وتعجبت كيف يحكم غير المدخنين على جودة سيجارة ما، ويفرقون بين دخان جيد وآخر رديء؟!
كُنا دخلنا إلى حي هاديء تمامًا يشبه حي المعادي في مصر قديمًا، الشوارع المنظمة بدقة في تقاطعاتها، وكثافة الأشجار الموجودة في الحي بأكمله، حتى وصلنا بيتهما الذي كان فوق ربوة جميلة في مطلعها حديقة واسعة للتنزه، كانت مفتوحة للرواد في هذا المساء حين عبرناها، وبعض المتريضين مع كلابهم في الحديقة، وللملاحظة فهنا في البرازيل على عمومها يثق البرازيليون في الكلاب إلى حدٍّ بعيد للغاية، جعل صديقي يخبرني –وهو من أصول أفريقية- بأن الكلاب هُنا تتمتع باحترام غير اعتيادي على من يجيء من الثقافة العربية والإسلامية، وأخبرني: "في المزرعة عندنا كثير من الكلاب، أظنك ستحبها، فهي الرفيق المثالي لرعاة البقر في المزارع الواسعة".
استقبلنا عند مدخل الفيلا الصغيرة في الشارع العمومي أحد عمال النظافة الذي يعمل حتى وقت متأخر من هذا المساء، وعلى الفور تذكرت أزمة شركات النظافة في مصر، وكيف تحولت المدن الكبيرة في مصر في الفترة الماضية إلى ما يُشبه مكب نفايات كبير وعشوائي، وحاولت الاستفسار عن سبب وجوده، وفهمت أن شركات النظافة تدفع رواتبًا جيدة جدًا لكل العاملين فيها، وأن هذا العمل الإضافي مدفوع الأجر كذلك، وأن ذلك التزام تقوم به شركات النظافة في تعاقدها مع الحكومة.
أين المهدي؟
مرت ساعة منذ وصولنا إلى البيت، وبعد جملة من الترحيبات على الطريقة المصرية التي شملتني بحفاوة بالغة، سألت عن "المهدي المنتظر"، فأخبرتني الصديقة –زوجة صديقي- بأن المهدي ربما يتأخر هذه الليلة، وأن تلك عاداته التي تعودوها، ثم تدخل صديقي وقال بأن المهدي اسمه "محمد المهدي"، "اسم مركب كما كان في مصر سابقًا"، وأنه من أصول مغاربية، وهو واحد من أقدم المهاجرين المغاربة إلى بلاد السامبا، إذ يعيش هنا في البرازيل منذ ما يربو عن الأربعين عامًا، قضى معظمها في كفاح وعمل، إذ كان صاحب واحد من أشهر مطاعم المدينة منذ سنوات، والتي كانت تقدم الطعام المغربي والعربي، وهو ما جعل للمطعم والرجل شهرة واسعة بين كل المهاجرين العرب والأفارقة هنا في ساو باولو، ولكن لأن دوام الحال من المحال، وحين كان الرجل يتخطى حاجز الستين من عمره، قرر أن يُسلم إدارة المطعم إلى أبنائه، وعلى غير المتوقع تدهور أحواله، حتى انتهى الأمر بحريق داخل المطعم قضى عليه نهائيًا ودمره تمامًا، ففقد معها "محمد المهدي" كل ثروته التي كان جمعها واستثمرها في ذاك المطعم، وعلى ما يبدو أن أولاده بالنهاية رفضوا العيش في جلباب المهدي، فتركوه وحيدًا وبقايا مطعمه الذي لم يستطع تجديده إلى الآن، وبقى أثرًا بعد عين. عرفت فيما بعد من "المهدي" حين قابلته، بأن زوجته وأولاده تركوه بعد ذلك، وأنه لم يكن لديه أي مكان يمكنه الذهاب إليه، وحتى فكرة الرجوع إلى المغرب باتت مستحيلة وغير واقعية للرجل، وتصادف أن كان صديقًا لصديقيّ، فاستضافاه في بيتهما منذ ذلك الوقت، ويجلس معهما في نفس المنزل مشمول برعاية كاملة منهما.
لم أقابل "المهدي" في تلك الليلة، وربما تأجل اللقاء به للغد المرتقب، وبينما كنتُ أتوجه نحو الغرفة التي تم تخصيصها لضيافتي، أخبرني صديقي الدكتور: "لن تُصدق أن الرجل تخطى الستين بسنوات، كما أن لغته البرتغالية متقنة إلى الحد الذي يظنه البرازيليون من سكان البلد الأصليين وليس مهاجرًا". حين كنتُ أتمدد في سريري، كانت ثمة خيوط تتشكل في ذهني عن الرجل، وكيف يمكن أن يُصبح هذا "الكاركتر" نموذجًا لبطل في إحدى الروايات، فقمت على الفور أدون في دفتر ملاحظاتي كل ما فهمته عن الرجل وعرفته، وذهبت إلى النوم ممنيًّا النفس بلقاء المهدي.
المهدي غير المنتظر:
استيقظت في صباح اليوم التالي بعد أول ليلة في ساو باولو، لم أنم غير أربع ساعات، على عكس ما توقعت، إذ كان جسدي منهكًا ومرهقًا إلى حد بعيد على إثر سفري الطويل باليوم السابق، لكن العجيب أنني صحوت نشيطًا وبلا أي أثر للتعب مطلقًا، وهنا لا بُدّ أن أذكر أن البعض تطوع يُقدم لي نصائح حول كيفية تغيير ساعتي البيولوجية والنوم نتيجة لتغير التوقيت ما بين مصر وساو باولو، فالفارق الزمنى يتخطى الست ساعات بقليل، لكن ولحسن القدر، فالسفر الطويل حرمني النوم على عكس عادة كثير من المسافرين، وهو ما جعلني أذهب إلى السرير في الليلة الماضية فأغرق مباشرة في النوم، لأصحو وقد انضبطت ساعتي البيولوجية والنوم بقدر عجيب، وتخطيت أول عقبات السفر كما قال البعض لي.
فتحت باب حجرتي، واتجهت صو المطبخ المفتوح على صالة الاستقبال الواسعة، وفي المسافة بين المطبخ وبين تلك الصالة تفننت الدكتورة –زوجة صديقي- في زراعة أصناف عديدة من النباتات والورد، لم ألحظها بالأمس حين وصلنا، تجعل الجالس في المطبخ كأنه في الهواء الطلق في حديقة مفتوحة على مشاع الكون والسماء، وبمجرد رؤيتهما لي صاح متتابعين:
- Bom dia Mukhtar
ابتسمت وأعدت عليهما تحية الصباح، فسألتني الدكتورة: "Tuido bem?"، "الحمد لله تمام"، وقبل أن نسترسل في حديثنا، جاءني صوت آخر يحمل تلك النغمة المميزة لصوت البرتغالية البرازيلية، كان يعيد تحية الصباح "Bom dia"، فالتفت، لأجد رجلاً يرتدي شورت من الجينيز وتي شيرت بنفس اللون الأزرق، وبعينين ملونتين وبشرة بيضاء تميل إلى الحمرة قليلاً، ووجه صبوح تملأه الابتسامة الطيبة، فكرر: "صباح الخير يا أُستاذ"، كانت كلمة أستاذ نطقها بتفخيم مغاربي لحرف التاء فجعها "أُسطاز"، فابتسمت وقلت: "أظنك محمد المهدي المنتظر"، فقهقه كثيرًا، وقال: "يبدو أن الدكاترة أخبروك الكثير، لكن للحقيقة أنا المهدي غير المنتظر، فوقتي فات منذ بعيد"، تبدلت ملامح الرجل في لحظة من الابتسام إلى حزن عميق، جعلني أجزم أن عمر الرجل تخطى السبعين وليس الستين، وتساءلت في نفسي عن ذلك السر الذي يجعل الحزن سببًا في أن يهزمنا العمر، فيبدو أثره علينا، وأين كانت تختفي تجاعيد الرجل حين كان يبتسم منذ لحظات؟
سيجارة بعد الإفطار:
تحركت مع المهدي بعد الإفطار إلى الحديقة الملحقة بالبيت في مدخله الأمامي كي نُدخن، فهنا جرت العادة أن يُدخن الناس خارج البيوت حفاظًا على صحية الهواء داخل البيت، واحترامًا لمن لا يُدخنون، ولحظتها عرفت مأساة التدخين في مصر في غالب بيوت المُدخنين، إذ لا نتورع عن التدخين في بيوتنا دون انتباه لاحترام الآخرين من غير المدخنين ممن يدفعون الثمن في تدخيننا، ودعوت الله "لك الله يا مصر، الله يكون في عون أهالينا". جلست إلى المهدي أستمع إليه حين كان يكلمني بلهجته المغاربية، وأعاد عليّ بعض التفاصيل التي عرفتها عنه بالأمس، ثمّ أخبرته بأن اللقب "محمد المهدي" يجيء مناسبًا جدًا لرجل مسلم مثله، فابتسم الرجل ببساطة وتلقائية وقال: "أنا لست مؤمنًا بأي دين!!"، أُسقط في يدي لحظتها ولم أعرف كيف أرد، لكن الرجل بخبرة فائقة عاود الابتسام، وراح يتحدث كثيرًا عن ذلك التحول الذي جعله يصل إلى تلك القناعة، والتي ختمها هو نفسه بقوله: "لكم دينكم وليّ دين"، أنا لا أؤذي أحدًا، كما أن التدين لم يمنع الناس من أذيتي؟ سواء كنت مؤمنًا أو كانوا هم مؤمنون، الأذية حدثت، وأنا تصالحت مع كل ذلك؟". راح يزيدني من حكاياته الشخصية التي لا يصح لي بأي حال الحديث عنها هنا في تلك الحلقات، لكنها أكدت لي أن "المهدي" بطل من أبطال روايتي القادمة التي أكتبها عن طوارق الأمازيغ.
- "أنت حكاية يا سيد مهدي!".
- "كُلنا له حكايته التي سيرويها أو يرويها عنه أحدهم".
كان للمهدي منطقًا وفلسفة بسيطة في كل شيء، انتهت به في النهاية إلى التصالح مع كل ما حدث له من خسارة وفقد، وقرر أن يستمتع بما تبقى له في هذا العالم القاسي –على حد وصفه-، ثم نصحني بكلمة كانت تطابقًا نصيًّا مع نصيحة صديق قبل السفر مباشرة: "تعلم الانبساط واستمتع بالحياة يا حضرة الكاتب".
جاءتنا القهوة ونحن نشعل سيجارتنا الثالثة ومستمرين في الحكي والضحك، حتى أن الرجل كما نقول في مصر كاد في واحدة من نوبات الضحك أن يموت "شرق الرجل من الضحك"، كنتُ أتأمل ذلك المهدي غير المنتظر كما صحح لي التسمية، أو المهدي الذي ليس الآن أوانه، شديد الغبطة لهذا العجوز الذي تصالح مع الدنيا بكل ما فيها من هذا الألم والقساوة، حتى أنه تصالح مع فكرة أن يعيش وحيدًا في العالم له دينه الخاص جدًا وعقيدته الخاصة، وهي ليست إلا حزنًا بالغًا وشديدًا بالأساس وكثير من الغضب الذي تمّ كبته، لكن الرجل سايسه حتى خرج من ناره إلى جنة الرضا –على الأقل كما بدا لي- التي نبتت في داخل روحه التائهة تلك. ناداني صديقي وطلب مني أن أرافقه للذهاب لعمل نسخة من مفاتيح البيت، وأنه سيتعين علينا شراء بعض الأشياء، فنحن سنسافر بعد ظهر اليوم نحو المزرعة في الغرب على مسافة تقرب ألف كم، وهذا ما سنتابعه في الحلقة القادمة.