الجزء الثاني من الفصل الثالث من كتاب الزنوج
ترجمة صلاح صبري
تحبس أمي أنفاسها. أنا واثقة أنها لا تحب فانتا هي أيضًا، غير أنها تمسك لسانها.
نسير والبدر يتلألأ فوقنا في السماء، ويغمر نوره الفضي طريقنا. وبينما نحن على مشارف القرية، تنطلق أمامنا ثلاث من الأرانب البرية، التي سرعان ما يبتلعها ظلام الغابة. يريح فومبا دلوه على الأرض، ويأخذ حجرًا من جيب صغير في مئزره، ويرفع ذراعه. يبدو وكأنه يعرف أن الأرانب قد تعود لتتواثب ثانية في الطريق. عند ظهورها ثانية، يصيب فومبا أشدها بطئًا في رأسها تمامًا. ينحني ليلتقط صيده، فتجذبه أمي للخلف. ثمة انتفاخ في منطقة البطن. تتحسس أمي الجثة بإصبعها. الأرنب حبلى. تقول أمي لفومبا إن الأرنب قد تعطي حساء طيبًا، غير أن عليه في المرة القادمة، إذا رأى الأرانب تمرق في الطريق، أن يُصعِّب هدفه ويختار أسرعها، لا الأنثى التي تنوء بحملها. يومئ فومبا بالإيجاب ملقيًا فريسته المنتفخة البطن على كتفه. ينهض واقفًا، ويواصل سيره، ولكنه، فجأة، يميل عنقه بأكثر من المعتاد، ويروح يتسمع.
ثمة خشخشة أخرى في الغابة. أبحث عن علامة أخرى تدل على ظهور الأرانب. لا شيء. نسرع الخطا. تمد أمي يدها وتمسك يدي.
تقول: "أميناتا.. لو قابلنا الغرباء... " ولا تكمل عبارتها.
من خلف الأجمة، يتقدم نحونا أربعة عمالقة، سيقانهم ضخمة وقوية، وأذرعهم مفتولة العضلات. في ضوء القمر، أستطيع أن أرى أن لهم أوجهًا مثل وجهي، غير أنها بلا ملامح. أيًّا من كانوا، فقد جاءوا من قرية أخرى. معهم حبال، وسيور جلدية، وسكاكين، وقطعة خشبية طويلة وغريبة، وفي طرفها ثقب دائري. نلبث هنيهة يحملقون فينا، ونحدق فيهم ذاهلين. أسمع حشرجة الخوف محبوسة في حلق أمي. أتمنى لو أجري. لن يستطيع أي من هؤلاء الرجال الغلاظ اللاهثين أن يلحق بي وأنا أنطلق مسرعة لأروغ بين الأشجار، وأعدو بين ممرات الغابة مثل ظبية تلوذ بالفرار. ولكن أمي تحمل قرب الماء على صينية فوق رأسها، بينما أحمل أنا فوق رأسي بعض ثمار الأناناس، وفي اللحظة التي أتردد فيها محتارة لا أدري ما أفعله بهاتين الصينيتين، وخائفة من أن تقع الفاكهة على الأرض لو أنني تحركت بطريقة غير ملائمة، في هذه اللحظة، يحيط بنا الرجال.
فومبا هو أول من يتحرك منا. يجذب الرجل الممسك بالعصا الغريبة مطوقًا عنقه بإحدى ذراعيه، وخابطًا رأسه بالدلو. يترنح الرجل. يجذب فومبا رقبته بإحدى يديه، ويلويها بشدة لليمين. ينطلق من حلق الرجل صوت غرغرة قبل أن يسقط على الأرض. يستدير فومبا ويمد يده ناحيتي، غير أن رجلاً آخر يقفز من ورائه فجأة.
أصرخ قائلة: "فومبا.. احترس!"
ولكن قبل أن يستدير فومبا، يضربه الرجل بهراوته على مؤخرة رأسه. يترنح ساقطًا على الأرض. تنزلق جثة الأرنب من فوق كتفه. لا أتخيل أن رجلاً في مثل حجمه وقوته من الممكن أن يتهاوى بمثل هذه السرعة. يسرع أحدهم فيقيَّد يديه، ويلف حول عنقه حبلاً، ويلتقط الأرنب. ولكن فومبا لا يحرك ساكنًا.
تصرخ أمي فتأمرني بأن ألقي الثمار وأفر هاربة. ولكني لا أقدر على الحركة. لا أستطيع تركها وحدها. تستدير لتواجه الرجال وهي تصرخ في شجاعة المحاربين قائلة: "عليكم لعنة الموتى جميعًا.. دعونا نذهب."
الرجال يتكلمون بلسان غريب. أظن أنني التقطت الأصوات: "جيرل، يَنج، نُت تو ينج" ، غير أني لست متأكدة.
تهمس أمي بلغة الفولا قائلة: "اهربي يا بنيتي." غير أني لا أستطيع. فقط لا أستطيع.
أمي ممسكة بالأدوات التي تستخدمها في التوليد، وما زالت تحمل قرب الماء فوق رأسها. حملها أكبر من أن يسمح لها بالهرب، فأبقى إلى جانبها. أسمع صوت تنفسها. أعرف أنها تفكر. ربما تبدأ في الصراخ، فأصرخ معها. قريتنا ليست بعيدة. ربما يسمعنا أحد. يمسك رجلان بأمي، ويطيحان بقرب الماء. رجل آخر يمسك ذراعي. أطوح يدي وأركل برجلي هنا وهناك، وأعض يده. يجذبها مخلصًا إياها من بين أسناني. هو الآن غاضب، وأنفاسه تزداد سرعة. عندما يندفع ناحيتي، أرفسه عند ملتقى فخذيه بكل قوتي. يئن ويترنح، ولكنني أدرك أنني لم أصبه بما يكفي لجعله يسقط على الأرض. أستدير مهرولة نحو أمي، ولكن رجلاً آخر يعرقلني، ويثبتني على الأرض. أبصق التراب من فمي، وأحاول أن أفلت هاربة، ولكن ليس لي طاقة على مواجهة الرجل الذي يمسكني.
أصرخ قائلة: "هذا خطأ.. أنا مسلمة حرة.. دعوني أذهب!" أقولها بالفولانية، ثم بالبامانية، ولكن تذهب كلماتي أدراج الرياح، فأصرخ بأعلى صوتي. لو يتصادف وجود أي واحد من القرية بالخارج في الليل، لربما يسمعني. أحدهم يربط يديَّ خلف ظهري، ثم يلف حول عنقي طوقًا جلديًّا، موثقًا إياه حيثما يمكنه كتم أنفاسي، فأصبح غير قادرة على الصياح، ولا على التنفس إلا بالكاد. مخنوقة الأنفاس، ألوِّح بوحشية في وجه الرجال. يرخون الطوق بما يكفي لتنفسي. ما زلت حية. أهتفت: "الله أكبر." على أمل أن يسمع أحد تلك الكلمات العربية، فيتأكد من الخطأ. ولكن لا أحد يسمعني. لا أحد يكترث.
أرفع رقبتي عن الأرض لأنظر. تفلت أمي من أحد الرجال، تلطمه على وجهه وتعضه في كتفه، ثم تمسك فرعًا غليظًا وتخبطه على رأسه. يسكن تمامًا، ويترنح. تنقض أمي على الرجل الممسك بالطوق الذي حول رقبتي. أزحف بكل قوتي صوب أمي، على الرغم من الطوق الذي يضيق حتى يكاد يخنقني. ولكن رجلاً آخر يعترض طريقها، رافعًا هراوة كبيرة وغليظة، ويهوي بها على رأسها. تسقط أمي. أرى دمها القاني في ضوء القمر وهو يتدفق من رأسها غاضبًا. أحاول أن أزحف ناحيتها. أعرف كيف أتصرف مع مثل هذا الجرح. كل ما هنالك هو أن أبسط راحتي عليه، وأضغط بقوة. غير أني لا أستطيع أن أزحف، ولا حتى أن أتحرك ولو قيد أنملة. يستطيع اللصوص الآن أن يحكموا وثاقي، فيضيقوا القيد حول رقبتي من جديد. يجبرونني وفومبا على النهوض، ولا يعود أمامنا أي خيار سوى أن نتبعهم.
أكافح مع القيد حول رقبتي لأتمكن من النظر إلى الخلف، فأرى أمي ما زالت راقدة على الأرض في سكون. أتلقى صفعة قوية على وجهي، الذي أُدِير عنوة للأمام، ثم أتلقى دفعة شديدة في ظهري، وأصبح مجبرة على تحريك قدميَّ.
لم أرَ أمي ساكنة قط إلا في نومها. لا بد أنني في كابوس مخيف. كم أتوق إلى أن أستيقظ فأجد نفسي في سريري، وآكل شطيرة دخن مع أمي، معجبة بطريقتها وهي تدس قرعتها في الجرة الفخارية وترفعها من دون أن تسكب قطرة واحدة على الأرض. من المؤكد أنني سأتحرر عاجلاً من هذه الأرواح الشريرة. وعاجلاً، سأجد أبي ونعدو راجعين سويًّا إلى أمي، فنوقظها قبل أن يتأخر الوقت، ونحملها إلى بيتنا بجدرانه الرطبة.
ولكني لا أحلم.
أطول صرخة من بين الصرخات جميعًا، تنطلق من رئتيَّ. يحشو الرجال فمي بالقماش. كلما تتباطأ خطواتي، أتلقى دفعة شديدة أخرى في ظهري. نسير بسرعة تجعلني ألهث. يخرجون القماش من فمي ولكنهم يوضحون لي، بإشارات غاضبة بالأيدي، أنهم سيحشون فمي ثانية لو أصدرتُ أي صوت. يجعلونني أواصل السير مبتعدة عن أمي. سحائب الدخان ترتفع في الهواء. نحن نسير في دائرة واسعة حول قريتي. طبول الخطر تدق في بايو. أسمع طقطقات تتكرر مرات كثيرة. كأنها أصوات أغصان تتكسر. يتوقف قرع الطبول. أستطيع أن أرى ألسنة اللهب عبر فرجة في الغابة. بايو تحترق. خمسة آخرون من الغرباء ينضمون إلينا، ومعهم ثلاثة أسرى يسوقونهم نحونا. من مشية رجل واسع الخطوة، أستطيع، في ضوء القمر، أن أتعرف أبي.
أهتف: "‘فا’!"
يصرخ: "أميناتا!"
"قتلوا ‘با’." الرجل الذي يمسك بالطوق حول رقبتي يلطم وجهي.
أصيح في اللص الذي اختطفني قائلة: "أنت أحقر من خراء فأر." ولكنه لا يفهم.
أراقب أبي. الأسيران الآخران يرزحان في قيودهما، بينما يسير أبي معتدلاً، ويحك معصميه معًا حتى يحررهما. يغرز أصابعه في عيني واحد من اللصوص منتزعًا السكين من يده، وقاطعًا بها الطوق الذي يلف عنقه. يندفع واحد آخر منهم صوب أبي، فيغمد السكين في صدره. يبدو الرجل وكأنه يزفر، ويظل واقفًا بما يكفي أبي لكي ينتزع السكين من صدره، ثم يسقط قتيلاً.
أريد أن يعثر أبي على أمي، في الطريق المؤدية إلى بايو. لو أنها ما زالت على قيد الحياة، أريده أن ينقذها. يندفع أبي ناحيتي، في حين ترتفع صيحات اللصوص. ينقض على الرجل الممسك بالطوق الملتف حول رقبتي، فيطعنه في ذراعه طعنة عميقة. يخر صريعًا وهو يئن من شدة الألم. ينقض رجلان على أبي، ولكنه يطيح بهما بعيدًا. يطعن واحدًا، ثم الآخر، ويروح يدور حول الجرحى الثلاثة. وإذا بواحد من الغرباء يرفع عصًا غريبة طويلة، ومستطيلة الشكل. يزم شفتيه، مصوبًا إياها نحو أبي من مسافة خمس خطوات. يتوقف أبي حيث هو، رافعًا راحته عاليًا. تنفجر نار من العصا، مخترقة ظهر أبي. يدير رأسه لينظر ناحيتي، ولكن تتجمد في عينيه نظرة محايدة، لا تعبير فيها على الإطلاق. تخرج الحياة من صدر أبي، تفيض من بين ضلوعه، متدفقة على الأرض العطشى التي راحت تمتص، في نهم، كل قطرة نابضة تخرج منه.
يجيء أسيران جديدان. لا أعرفهما. ربما جاءا من قرية أخرى. أحدق فيهما في توسل. تغيض عيونهما. يطأطئ فومبا رأسه. الرجال الأسرى ليس في وسعهم أن يفعلوا لي أي شيء. أيديهم جميعًا مغلولة، ورقابهم. المقاومة انتحار مؤكد، ومن ذا، غير أبي وأمي، يقاتل الآن من أجلي، بل ويقاتل حتى الموت؟
تبدو قدماي وكأنهما ملتصقتان بالأرض. تتيبس عضلات ساقيَّ. يرتفع بطني حتى يكاد يلامس صدري. لا أتنفس إلا بالكاد. كان ‘فا’ أقوى رجل في بايو. كان بإمكانه أن يرفعني بيد واحدة، بينما يتطاير الشرر كالنجوم اللامعات وهو يدق الحديد الساخن بمطرقته. كيف يمكن أن يحدث هذا الذي حدث؟ صليت لو يكون هذا حلمًا، ولكن الحلم لا ينتهي.
أتساءل ما الذي كان أبي وأمي سينصحانني بأن أفعله. أواصل المشي! هذا كل ما أستطيع أن أتخيله. لا تسقطي. أتخيل أمي وهي تسير في بايو، وكعباها مخضبان بالأحمر. أحاول أن أحافظ على صوتيهما يرنان في رأسي. أن أفكر فيهما ونحن نشرب الشاي معًا بالليل، بينما تضحك أمي وهي تصغي لحكايات أبي. ولكني لا أستطيع أن أغذي تلك الأفكار في رأسي. كل مرة، تخبو وتتلاشى من مخيلتي، وتحل محلها صورة أمي وهي ترقد جثة هامدة في الغابة، ومنظر أبي وقد تناثرت محتويات صدره، بينما شفتاه ترتعشان.
أمشي لأنني مكرهة على ذلك. أمشي لأنني ليس لديَّ اختيار آخر. وبينما أنا سائرة، تتردد في أذني آخر كلمات أبي. أميناتا. أميناتا. أميناتا.