القاهرة 10 اكتوبر 2017 الساعة 11:35 ص
بقلم: د. بوزيد الغلى
من السائغ القول إن النص المسرحي "مولانا المقدم" الذي وسمه الدكتور أيمن بكر وسماً يلمس القارئ دقته؛إذ قال إنه نص خفيف الظل !؛ نصّ مشبع بسخرية المفارقة التي تبدأ من صورة صاحب الطرطور على الغلاف الذي يعكس طبيعة شخصيته التي شكلها الناصّ على نحو مثير للضحك بدءا بهيئته؛ و انتهاء بوضعه الطرطور على رأس الجالس على كرسي العرش ،المستولي عليه بالقوة سحقا لخصومه ؛ "مولانا المقدم " . وذاك لقب مريب من حيث اقتراضه من حقله الدلالي الصوفي؛واستنباته في حقل ضاج بالسياسة التي يعتزلها كثير من الصوفية ؛ وكأن المفارقة المراد فضحها أن يطلق السياسيون على أنفسهم ألقابا دينية تبرر لدى العامة سطوتهم واستيلاءهم على السلطة دون تقيد بقواعد الديمقراطية التي تتحلب توقا إليها كثير من شعوب العالمين
العربي والإسلامي .
ويمتاز نص "مولانا المقدم" بطابعه التجريدي التخييلي الذي لا يترك للقارئ ذريعة ربطه بإحالات مرجعية أو واقعية، الأمر الذي يسمح له بالاستمرار كنص يجترح بمسرحته للأحداث سبيلا لنقد وتعرية واقع يطحن بكلكله الثقيل كل طبقات المجتمع التي يستدعيها الكاتب إلى الركح بدءا من الانتلجانسيا ممثلة بالأديب والمحامي وانتهاء بالرجل الذي لا يفصح النص عن صفته الوظيفية، لكنه ينعته بقوته البدنية (مفتول العضلات) وماضيه العسكري المطبوع بطابع الترقي السريع دون استحقاق !.
ولا ينتابني ريب في أن ظهور شخصية المهرج في المشهد الثالث من المسرحية، شكل إيذاناً بالانتقال من سخرية المفارقة وسخرية المواقف والكلام المضحك المبكي من قبيل قول المحامي ساخرا : "الديمقراطية حاجة كده زي الفول والطعمية " إلى الكوميديا الصادمة " التي لا يمكن أن تكون الضحكة فيها إلا صدى لشهقةٍ مكتومة، ووسيلة يعلو بها هذا الإنسان على حدة الأوجاع" . فما أهم تجليات الكوميديا السوداء أو الكوميك الصادم في النص ؟
الكوميك الصادم واللغات الدرامية في مسرحية "مولانا المقدم" :
أجمل الباحث محمد أبو العلا في أطروحته لنيل الدكتوراه أهم اللغات الدرامية في " الحوار، المونولج، الإرشادات الركحية،الشخصية،الفضاء،التوابع،الإضاءة،الديكور،الأزياء، بالإضافة إلى الصمت أو بياضات النص ونقط الحذف التي تفتح مجالا للتأويل انسجاما مع سياق النص الدرامي" ، ويبدو أن الكلام عن السخرية السوداء لا يتصل بنسيج النص المكتوب باللهجة المصرية التي اتسعت لأكثر المسرحيات قدرة على الإضحاك في العالم العربي، فالسخرية السوداء متعلقة بأغلب اللغات الدرامية سالفة الذكر، إذ أن الفضاء الذي تدور فيه الأحداث في المشهد الأول يثير بظلمته ووحشته السخرية السوداء من واقع مظلم أوحى إلى الشخصيات المذعورة مما هي فيه ، بأن القيامة قامت : "وعلى ما أظن كده زي اللي كنا بنسمع عنها... صالة الانتظار قبل ما نترحل على الآخرة !" ، وتشي مكونات الديكور والإرشادات الركحية بشيء من السخرية السوداء التي تستبطنها إرادة الشخصيات المتفاعلة في المكان (منطقة فسيحة تبدو جزءاً من وادي صخري/المشهد الثاني) تأسيس ولاية، واختيار حاكم :"أنا باقترح بعد ظهور أفراد كثير معانا في المكان ، تأسيس ولاية !" ، ولا تبلغ الكوميديا السوداء أوجها إلا عندما يتوج الرجل الضخم مفتول العضلات حاكما يضع على رأسه الطرطور، كي تصبح دولته جمهورية الطراطير !، ويزداد منظر صاحب الطرطور إدهاشا وإثارة للضحك،عندما نتأمل شخصيته في ضوء مقاطع من السخرية اللفظية أدرجها الكاتب بكثير من الإتقان والاستعمال البديع للمحسنات البديعية في مثل قوله على لسان المهرج : " الطرطور يا غر...يا مغرور..أضحك الصغار، وجالس الكبار، وعرف الأسرار،فإذا ما كأس الأنس دار ..طار و استطار ..فاحذر ..يا حمار ! .
ومضات من الكوميديا السوداء :
تطغى على النص كما أسلفنا روح الدعابة المرة التي لا تتبين مرارتها إلا بعد أن تتوالى الأحداث مسفرة عن أن الضحك ليس مقصودا لذاته، بقدر ما هو ضرورة سياقية نصية لتعرية ضعف الأديب الحالم ورجل القانون المناور، مما سيفسح المجال للرجل الضخم الذي سيسود على الجميع، ولنعمل أولا على استكناه مظاهر السخرية من طبيعته الجسدية، وكيفية وصوله إلى سدة العرش:
تبدأ الكوميديا السوداء بتعثر المحامي في فحمة الظلام بشيء صلب، لم يكن إلا جسم الرجل ضخم الجثة ، فيحاول بمعونة الأديب إيقاظه على إيقاع حوار هازئ من استغراقه في النوم الثقيل:
الأديب: إيه لقيت حاجه؟
المحامي : أيــوه، بــس دا راجــل شــكله غريــب أوي، وبايــن عليــه كــده مــش حاســس بحاجــه خالــص(...)
الأديب: (وقــد اقتــرب ورأى الرجــل) يا نهــار زي بعضه، دا لا منطــق ولا أبقــراط نفســه ينفــع معــاه، دا عايــز مســئولين البلديــه يتولوا الموضــوع ده
المحامي : (هازئا) مــش قلــت لــك، شــاطر بــس تتفلســف عليــه بشــوية الهجايــص بتوعــك اللــي أنــت حافظهــم دول
الأديب : مــش وقتــه، هنتصــرف إزاي دلوقــت مــع البلــدوزر ده؟
المحامي: أنــا بقــول نقعــد جنــب راســه هنــا، ونعمــل زيطــه ودوشــه، يمكــن يصحــى
الأديب : دوشــه، وأنت بتســمي اللي إحنا بنعمله ده دوشــه بالنســبة لــلأخ، لأ، أنــا بقــول ندور لنــا علــى حجر حلــو كده ونحــاول معاه....
المحامي: حجــر حلــو كــده!!، هــو دا المنطق، عايــز تودينا فــي داهيــه، خيــال أدبــا صحيح...أحلــى حاجــه نســيبه لغايــة مــا يصحــى لوحــده، عشــان أنــت عــارف لــكل فعــل رد فعــل، ودا رد فعلــه أكيــد مــش هيعجبنــا !.
من المفيد قراءة هذا المقطع التي تتعثر فيه النخبة المثقفة (الأديب والمحامي نموذجا) وسط الظلام وانعدام الرؤية السليمة بجسم ضخم،لن يكون لاحقاً إلا صاحب اليد العليا التي ستطبق على الجميع. وقبل أن تتسارع الأحداث ليصل الرجل الضخم إلى سدة السلطة،لابد أن نتأمل مشهد محاولة إيقاظه الذي سيعمد فيه الأديب والمحامي إلى محاولة إرعابه بالإيهام بأنهم شياطين مبعوثين من لدن كبير الزبانية (ملك الجن الأعظم)،لكن المفاجأة حمالة أكثر من معنى أن الرجل الضخم أدرك أنهم آدميون، وأصر على اعتبار الأمر متعلقا بمبعوثين من قبل كبير الطهاة : كبير الزلابية ! .
ويبدو لي أن السخرية المنصبة على تصوير شخصية "الرجل الضخم"، لا تتوكأ على منسأة اللغة الهازلة الهازئة، بقدر ما تتكئ أيضا على "آلية التصوير الكايكاتوري":
الرجل: أنــا بنــي آدم عــادي جدا، مــن صغــري باشتغل حــداد، ولمــا كبــرت شــوية لعبــت مصارعــة، علشــان كــده زي مــا أنتــوا شــايفين ... جســمي ضخــم حبتيــن.....
.....
المحامي: على نبرة الســخرية) أصل أنت شــكلك (مســتمر كــده لوحــده تأبيــده، مينفعش تبقــى في حالك.
ولاشك أن التركيز على شكل الرجل لا يخدم غاية تصويرية هادفة إلى الفكاهة و إثارة الضحك،وإنما يبني صورة الحاكم القادم في مخيال النص المسرحي الهام الذي يعري واقعا يكرس " البقاء للأقوى " كما جاء على لسان الرجل في هذا المقطع الحواري:
الرجل: أنــا شــايف إننــا نســيبنا مــن الــكلام ده كلــه، لا هيــودي ولا هيجيــب، إحنــا ندخــل لبعــض مصارعة ، وإللــي يغلب (مبرزا عضلاته) يبقى أمر اللــه ونفــد....
المحامي: : يا ســلام، وأنــت شــايف إن ده يبقــى عــدل، أنــت متصبــش لنفســك فــي المرايــه مــن زمان !
وخلافا لأفق الانتظار الذي يعِنُّ للقارئ، وهو يتتبع فصول "تقارب وجهات النظر" بين المحامي والأديب، فإن الفصول الأخيرة من المسرحية أفصحت عن انقلاب المحامي ضد الأديب الذي انحازت إلى أفكاره بعض الفئات الاجتماعية، الأمر الذي قادة بكيد من المحامي إلى حافة المثول للمحاكمة أمام "مولانا المقدم" الذي اختار ،خلافا للمتوقع، التضحية بسيافه، وإحلال المحامي محله،مع تلطيف أحكامه ضد الأديب بما يحفظ "الود القديم" !:
"المقدم: (مقاطعا ) استنى يا سياف، أنا هقوله بنفسي على الأحكام (متوجها ناحية الأديب) بما أنك صديق قديم، سأنظر لك نظرة عطف، أولا : بالنسبة لبنات أفكارك الثورية ، أنا أمرت الجنود بحبس بنات أفكارك اللي جايبين لك وجع الدماغ" .