القاهرة 03 اكتوبر 2017 الساعة 11:10 ص
تربيت في بيت يحب السفر، وأذكر كل صباح حين كانت جدتي تغسل رأس أبي بدعوتها "ربنا يوقف لك ولاد الحلال"، أذكر أنني في الصغر كنتُ أعتقد أن هؤلاء "أولاد الحلال" ربما كانوا ملائكة من الله يهدي كل الأولاد الطائعين أماهاتهم إياهم، فيقفون جنبًا إلى جنب مع الابن البار، وحين كبرت وتعلمت عن الحياة والبشر الكثير، علمت أن البشر –أحيانًا- يتحولون بقدرة قادر من ذاك الكائن البغيض إلى واحد من "أولاد الحلال"، فتتفتح مغاليق الأبواب على اتساعها على براح يشبه براح الروح حين تتخلص من الجسد عند النوم.
لماذا أفتتح هذه السلسلة من الحلقات بهذا التقديم النوستالجي؟ أظنني لا أشعر بتلك الأشياء التي يحكي عنها الناس –عند الكثير- حين يُسافر، رُبما لتعودي كما قلت في بيتي على فكرة السفر والانتقال الذي كأننا ورثناه من أجدادنا الصيادين حين كان يلزمهم الريح في بحيرة البرلس إلا الانتقال، فخلق فينا –أولادهم- هاجس الترقب على الدوام، والاستعداد الدائم أننا مفارقون وإن طالت إقامتنا.
فلاش باك:
تقدمت في نهاية العام 2012 إلى منحة تقدمها ولاية باهيا البرازيلية لدراسة الماجستير، ولكن لظروف تنظيم الدولة لكأس العالم لكرة القدم، توقفت –غالبًا- كل المنح، وبات أمر المنحة في خبر كان، ورحت أوطن الروح أنه لا نصيب، فأنا أدرك في قرارة نفسي أننا إنما نختار بقدر حكيم لا يعلمه إلا الله. مرت سنوات خمس، وكما يقولون في مصر "الدنيا اتشقلبت"، وفي نهاية 2016 تقدمت باستقالتي بعد عشرين عامًا من العمل بالتربية والتعليم مدرسًا للغة العربية، وأظنني أعرف السبب تمامًا، فأنا ابن الصيادين كما قلت مضروب بجين اللااستقرار، أضف إلى ذلك أنني مهوس بالكتابة حدّ الجنون، وكأنه استلزمني عقدين لأصل إلى قناعتي بأن سور المدرسة خانق على ما فيه من بعض المتعة في أن تربي عقولاً وإنسانًا، وأذكر كيف صار العالم فجأة كله في مواجهتي، إذ كيف أضحي بكل استقراري الوظيفي وأقرر هذا الخروج، والحقيقة لم يدعمني غير عدد قليل للغاية لا يتجاوز أصابع كفي، وأعترف أن صدمتي كانت كبيرة في أشخاص ظننتهم سيكونون إلى جانبي مهما كان جنون قراراتي كما تصورها البعض، ومن بعدها دارت الحياة دورة جديدة، وكان طلاقي وضاقت عليَّ الأرض بما رحبت إلا عالم الكتابة وحده صار أكثر اتساعًا وطيبة، وبالفعل "طبطبت" عليَّ الكتابة كأم على طفلها الباكي، والآن أظنني يتردد في داخلي كلمة واحدة "لا تثريب" على الجميع وعلى كل شيء، إذ عاود أصدقاء بالبرازيل الاتصال بي يعلمونني أن المنحة هذا العام صارت قريبة جدًا عما سبق من أعوام خمسة مضت، وبدأت التجهيز للسفر، وكانت الأمور تسير في سهولة كسهولة تلك الدعوة التي راحت "أمي الغالية" تكررها كما فعلت جدتي مع أبي، وبالفعل كان في جانبي "ولاد الحلال"، وتم حجز تذكرة السفر نحو بلاد السامبا البرازيلية، وكل ذخيرتي من اللغة بضع كلمات غير كافية للحياة، وجاءت الريح بما يشتهى السِفن، إذ لم أجد في إجراءت السفر أي معضل أو تعقيد، كأنني مدفوع بقوة أعظم كانت تُحسن التدبير والخُطى لي كلما خطوة نحو الآن.
على متن الخطوط الإماراتية:
تقرر سفري على متن الخطوط الإماراتية، لأرى كيف يمكن أن تفاجئك الأشياء بدقتها وتنظيمها، ففي رحلة ممتدة لما يقارب العشرين ساعة يتخللها استراحة واحدة في مطار دبي الضخم شديد التنظيم، عرفت أن الحضارة يمكن أن يصنعها عباد الله المخلصين لعملهم وهم مدركون بان النجاح إنما هو حصيلة لعمل دقيق في منظومة شديدة الاتساق والمرونة، تجعلك تتمنى أن ينال هذا القدر من الاحترافية من مؤسساتنا وشركاتنا المصرية، وحتى ما يتركه في النفس من غصة على فرط ما ضيعنا باستسهالنا أو تقليدنا غير الأصيل للأشياء، إلا أنه لا يمنع الاعتراف بالدهشة والاحترام لما تقدمه دولة مثل الإمارات من احترافية في إدارة واحد من أكبر مطارات الأرض في دبي، وهو ما يجعلك تتغاضى عن تأخر طائرتك ساعة كاملة، وإن وصلت في نهاية الأمر في الموعد المحدد لها، فما يحوط المسافر من تقدير واعتناء يفوق كل ما تحمله الجملة المصرية الشهيرة "الزبون دايمًا على حق"، وطوال ست عشرة ساعة طيرانًا متصلاً–وقبلها أربع ساعات من القاهرة إلى دبي- ستدرك روعة التجربة وأنت معلق بين السماء والأرض في حمى الله ثم رعاية أناس تذهلك احترافيتهم إلى حد بعيد، وتجعلك فخورًا أن بلدًا عربيًا شقيقًا وصل إلى ذلك القدر من حسن التدبير في واحد من أعظم قطاعات الاستثمار والتجارة.
Bem vindo... مرحبًا:
تستقبلك لافتة عملاقة في مطار "جوارويوس" الدولي بمدسنة ساو باولو، وأسفل منها كلمة "مرحبًا" بالبرتغالية والإنجليزية، وهي لافتة منتشرة فيما بعد الخروج من المطار على الطريق الرئيسي المؤدي إليه من قلب المدينة، واللافتة في خلفيتها فتاة جميلة جدًا لها ابتسامة بديعة لا يمكن أن أنساها إذ ظلت تذكرني بواحدة من أجمل الابتسامات التي ودعتها في مصر قُبيل السفر.
كان أعجب ما لفت انتباهي منذ اللحظة الأولى التي وطأت قدمي فيها طائرة الإماراتية في القاهرة وحتى لحظة الوصول إلى ساو باولو في البرازيل بعد سفر يوم كامل تقريبًا بلا نوم، أن الجميع لا يقابلك إلا بابتسامة عريضة ولافتة حين تتعامل معه أو حتى حين تتصادف نظراتكما، وهُنا أعجب كثيرًا إذ أقارن بين تلك الثقافة "الابتسام في وجه الآخرين"، وبين العبوس دائم الوجود على وجوهنا في بلدنا التي نروّج للدعاية بأنها بلد النكتة والضحك، ولا أعرف أين تلك الابتسامة التي كُنا نستقبل بها بعضنا فيما مضى في حاراتنا وشوارعنا وحتى في بيوتنا وأعمالنا؟! أعرف أن كثيرًا من ضغوط الحياة يعيشها المصري خاصة في الأونة الأخيرة، لكن ما الذي يمنع ذلك من باب تشدقنا به كثيرًا حتى صار مملاً بأننا شعب متدين بطبعه، والحقيقة كلها تتنافى مع ذلك في الكثير، أظننا بحاجة إن نعرف سببًا لغياب الابتسامة من شوارعنا وكل حياتنا، ليحل محلها هذا القدر من العبوس والغضب الذي جعلنا نصفه في جملتنا المصرية حين نواجهه فنقول: "على وشه غضب ربنا"، الأمر يسير للغاية، فقط ابتسامة ستريح وبعدها كل في طريقه أكثر أملا وتفاؤلاً.
"bem vindo" أو مرحبًا بالبرتغالية، كانت الجملة التي أسمعها وأنا في طابور الجوازات لدخول الأجانب إلى البرازيل عبر ساو باولو، وكانت مصحوبة بابتسامة عريضة من "ضابطات" الشرطة الفيديرالية البرازيلية في جوازات المطار، وفي سهولة ونظام وسرعة كنتُ أعبر الجوازات إلى داخل البلدة، حيث المطار الذي يتكون من ثلاثة طوابق متسعة للغاية كانت الجوازات في أوسطها، يعلونا طابق وأسفلنا ثالث، ربما كانت ابتسامة ضابطة الجوازات وجملتها هي أول استثمار تستثمره الحكومة البرازيلية في السياحة، فهي واحدة من أكثر وجهات السياحة في العالم.
تكررت الجملة وسمعتها من صديقيّ البرازيليين، واللذين تحملا عناء الحضور إلى المطار بسيارتهما الخاصة –فهما زوجان- للترحيب بي، واستضافتي في ساو باولو والتجهيز لمجموعة من اللقاءات الأدبية مطلع شهر أكتوبر في "casa das Africa" (البيت الأفريقي)، والذي تحمس لاستضافتي في مجموعة ندوات حول كتاباتي الروائية والقصصية، وخصص ليلة منها لعرض واحد من الأفلام القصيرة التي قمت بكتابتها وإخراجها، على أن تدور الندوات حول علاقتي بالمدينة، وهنا أقصد الإسكندرية، حيث عشت لعشرين سنة أخيرة من عمري، وكيف تتكون علاقة الكاتب بالمدينة، وذلك مع عرض ومناقشة لروايتي "لا للإسكندرية" الصادرة في صيف 2010.
ألقيت بجسدي المتعب إليهما، وانطلقنا نحو ساو باولو التي وصلتها في تمام الخامسة مساءً بتوقيت شرق البرازيل والمتأخر خمس ساعات عن التوقيت المصري الذي تعودته...
أشعر بإرهاق جديد ربما أبدأ منه الحلقة التالية من تلك الحلقات... ولتكن الحلقة القادمة "نحو ساو باولو".