القاهرة 03 اكتوبر 2017 الساعة 10:55 ص
كتب : وائل سعيد
(يستعد مركز القاهرة للرقص المعاصر دعوتكم لحضور عرض فيلم "مسرح قاسي"، يتبع الفيلم نتاج ورشة عمل الفنان ماهر شوامرة مع الجيل الثاني لبرنامج الدوام التام 3 سنوات للتدريب الاحترافي للرقص المعاصر... المكان: المعهد الفرنسي بالمنيرة، الساعة: 7:00م)، علي أي حال، ليس الإعلان هو مقصدنا بالطبع؛ لكنها الحالة الفنية الرهيفة والغريبة في نفس الوقت، التي سنراها عبر رحلة لإقامة عرض رقص صامت لأول مرة علي أراضي فلسطين المحتلة، فلا نعرف بعد معايشته إن كان قد صُنع ليكون بديلاً للحياة أم هو لمواجهتها !!، بين هذا وذاك؛ كان الفيلم، وكان عرض الرقص، وكنت هناك...
ظهر الرقص الحديث منذ بدايات القرن العشرين، وقد جاء ميلاده نتيجة لعدة محاولات بحثية وارتجالية في نفس الوقت، قام بها كل المهمومين بفنون التعبير الجسدي بالتنقيب عن أقصي طاقاته الحركية، مُبتعدين قليلاً عن الحركات المحددة لراقصين البالية، لإعطاء الجسد كامل حريته الديناميكية.
مسرح قاسي، فيلم تسجيلي من إخراج توماس يافيرت وإنتاج مشترك (فلسطين-جمهورية استونيا)، ويُعرض ضمن برنامج فاعليات بانوراما الفيلم الأوروبي في دورته -السابقة- المقامة من 2 إلي 13 نوفمبر 2016، برعاية وتنظيم شركة أفلام مصر العالمية.
تدور أحداث الفيلم حول شخصية ماهر شوامرة، مهندس الكهرباء الذي ترك الهندسة واستبدلها بالرقص، حالماً بإقامة عرضه الأول للرقص المعاصر في رام الله – وهو أول عرض راقص علي مستوى فلسطين، يعيش بمفرده ولا يتصل باهله سوى في بضعة مشاهد معدودة، الأمر الذي يُبرز حال القطيعة بينه وبينهم؛ وليس شرطً أن يكون سبب القطيعة نزاع أو كره بين الطرفان... وحده الذي يُعطي الف مبرر للفنان كي ينعزل عن مُحيطيه، الذين يستقبلون حلمه الوجودي في الحياة باللامبالاة أحياناً وبالسخرية أو النهر، كما طالبه أخوه في مشهد يأتي فيه بصوته فقط رافضاً الظهور في فيلم يحكي عن راقص – حتى لو كان أخوه – في بلد محتلة لن يفهم ناسها تلك الحركات الغرائبية التي تذكره بالموسوسين الذين يركبهم الجن، بدلاً من أن يتحدث عن قضايا بلده.
الأب هو الآخر يوبخه علي عزوبيته حتى هذا العُمر تاركاً السنوات تتسرب من يديه كالماء بينما أطفال إخوانه من حوله يزدادون كل عام، والأم تترجاه أن يتزوج كي يُهديها حفيداً قبل أن تموت، (حتى الكلاب تتزوج!)؛ هكذا تُخبره إنها سنة الحياة التي لن يرضى الله غيرها تبديلاً.
يقول شوامرة في أحد الحوارات عن دافعه الأول لمشواره الراقص: (بدأت أبحث عن أصول الحركات في الرقص الشعبي، وفكرت في استخدام الرقص بأسلوب جديد، ما دفعني لأن أبحث عن مدارس الرقص المعاصر وأساليبها، ولم أوفر أي مشاركة في هذا المجال)، ولن يكون الفنان بداخله منعزلاً بشكل كُلي عن قضايا عصره ومجتمعه، فقد كان همه الرئيسي هو استعمال الحق في الحياة والفن رغم ظروف الإحتلال الممتدة، حيث لا يوجد بديلاً غير ذلك في مواجه الصعوبات المستمرة والعادات والتقاليد المتحجرة... (كان همي كيف أعبر عن ذاتي من خلال الرقص المعاصر في الوقت الذي تحترف فيه الفرق الفلسطينية فقط الرقص الشعبي التراثي، إنه شيء جديد بالنسبة إلى المجتمع).
ما بين صعوبة مواجهة العادات والأسرة وبين ميزانيته المحدودة لإخراج العمل، يمضي ماهر في طريقه غير عابيء إلا بشيء واحد لا يوجد له بديلاً أو خيار اخر؛ حتمية خروج عرضه المعنون ب (انتظر..) داخل الفيلم، رغم قسوة الحياة التي يعيشها ومن ثم قسوة هذا المسرح الحياتي التي لا تلين.
استعمل المخرج مفردات الحياة العادية داخل فلسطين، بين الشوارع وسير البشر اليومي علي أراضيها مبتعداً عن مظاهر القمع الإسرائيلي أو الصراعات المستمرة بين المقاومة والمحتلين، وفي ذلك إشارة هامة لما يحمله مشروع ماهر الراقص ودلالة اسم العرض داخل الفيلم (انتظر)، انتظر؛ فالظروف من حولنا لا تتغير من سنين بل تزداد سوءاً، دفعنا الغالي والرخيص ثمناً لمواجهة المد الصهيوني ولن نكف عن ذلك، لكنها الحياة في النهاية؛ الحياة وفقط لابد وأن تستمر ما دامت تدب في أجسادنا الروح...
وقد كان لرسومات الراحل ناجي العلي دوراً في عروض عديدة لشوامرة، فهو ليس منفصل تماماً عن جذوره التاريخية ولا يُعاديها بأي حال من الأحوال.. (روح ناجي متجلية في كل إنسان عربي وفلسطيني وحر في العالم، ففلسطين في الذاكرة العربية والفلسطينية قطعة من الجنة ولكنها على أرض الواقع قطعة من الجحيم بسبب ما تعانيه من احتلال وقمع وقتل وتنكيل يومي).
في أحد المشاهد الدالة نرى بعض المواطنين وهم يزرعون شتلات صغيرة جاءوا بها داخل أكياس بلاستيك، في محاولة منهم لإحياء الأرض أولاً بأول قبل أن تبور نتيجة القصف والبارود، ولم يظهر أي مشهد آخر يؤكد علي فكرة فلسطين المحتلة بشكل واضح ومعلن، كأن صُناع الفيلم يؤكدون علي مشروع شوامرة في الرقص مقابل الحياة مهما كانت الظروف، ورغم ذلك امتلأت المشاهد – أو معظمها - بأسيجة المحتل السلكية التي تملأ الشوارع والميادين، ومن خلفها أو حولها كانت تدب الحياة الفسلطينية غير عابئة بالقيود!
وكان في انتظارنا بعد مشاهدة الفيلم، ماهر شوامرة نفسه ومعه بعض الشباب المتدربين ليُقدموا عرضهم الراقص التجريبي الذي جاء كتكملة للحالة؛ حيث لم نشاهد في الفيلم عرض (انتظر) التي قامت علي خلفيته القصة والمشاهد، طوال الوقت لا نرى سوى التدريبات بظروفها الصعبة أو السهلة ولم يظهر من العرض في نهاية الفيلم سوى النجاح الذي لاقاه البطل وفرقته بكم من التصفيق داخل الفيلم وخارجه في قاعة العرض من المشاهدين، وفي ذلك أود شكر المنظمين الذين أخرجوا التجربة في هذا الشكل؛ مشاهدة الفيلم التسجيلي داخل القاعة ثم مشاهدة العرض الراقص الحي وسط حديقة المعهد الثقافي الفرنسي.
لن اتطرق بالطبع لتحليل العرض الراقص؛ فلهذا مُحلليه المُتخصصين، لكنك تستطيع اللإحساس بحركات أجسام الشباب التي تتحرك أمامك وتخرج من حولك؛ التحم العرض بالمشاهدين فكان الراقصين يخرجون ويدخلون من والي المُتفرجين وسط عدة مقطوعات موسيقية متعددة ما بين الشرقي والغربي، وبعض الأداءات الفردية لأصوات الراقصين أميزها جاء من التراث النوبي، بالإضافة إلي إلقاء صوتي لقصيدة محمود درويش " لا وقت للغد " حملت مفرداتها المتتالية السريعة معاناة التواجد البشري القديم والعصري في العموم وليس الفلسطيني أو غيره .
(أَمشي / أهرولُ / أركضُ / أصعدُ / أنزلُ / أصرخُ / أَنبحُ / أعوي / أنادي / أولولُ / أُسرعُ / أُبطئ / أهوي / أخفُّ / أجفُّ / أسيرُ / أطيرُ / أرى / لا أرى / أتعثَّرُ / أَصفرُّ / أخضرُّ / أزرقُّ / أنشقُّ / أجهشُ / أعطشُ / أتعبُ / أسغَبُ / أسقطُ / أنهضُ / أركضُ / أنسى / أرى / لا أرى / أتذكَّرُ / أَسمعُ / أُبصرُ / أهذي / أُهَلْوِس / أهمسُ / أصرخُ / لا أستطيع / أَئنُّ / أُجنّ / أَضلّ / أقلُّ / وأكثرُ / أسقط / أعلو / وأهبط / أُدْمَى / ويغمى عليّ)..
في نهاية الفيلم يوجد مشهد شديد الرهافة والدلالة في ذات الوقت؛ البطل يرقص في ميدان عام وقت الظهيرة تقريباً، وسط سير العربات والمواطنين من حوله، وقد تنقلت الكاميرا بينه وبين أفراد عادية أثناء سيرهم في صورة بطيئة جداً تؤكد علي معني الاستمرارية الحتمية للبشر مهما تعقدت ظروف معيشتهم.
أما ذلك الراقص المناضل فنراه لا يوقفه شيء، لا السيارات ولا سخرية المارة واندهاشاتهم احياناً، ولا حتى شرطي المرور، لا يملك سوى هذا الجسد الذي قد يراه البعض لا حول له ولا قوة، ولكنه راهن عليه بأنه يمكن لحركاته أن تكون بديلاً للحياة!!