القاهرة 03 اكتوبر 2017 الساعة 10:40 ص
عاطف محمد عبد المجيد
في عالم الكتابة عامة والصحافة خاصة يتمسك عديمو المواهب فقط بالمناصب التي من دونها سيفقدون الجاه المصطنع والمكانة الزائفة، وسيخسرون الباب المفتوح على مصراعيه لملء جيوبهم من المال العام، سواء عبر لوائح شكلية تغطي سرقاتهم المقننة، أو من خلال نهب مباشر دون ورع ولا وجل، وسيفقدون المساحات البيضاء الماثلة في صدر الصفحات الأولى للجرائد والمجلات أو الحيز الإلكتروني والتقني بالنسبة لوكالات الأنباء ومواقع الإنترنت، ولهذا يتكالبون على المناصب ويريدون الاستقرار فيها وإن ماتت في رحم المجتمع آلاف المواهب. هذا ما يقول عمار علي حسن في أحد مقالات كتابه " بهجة الحكايا..على خُطى نجيب محفوظ " الصادر عن دار سما للنشر والتوزيع، وفيه يسعى إلى استقراء النص من داخله ليكشف مواطن الجمال التي يكتنزها ويعرف حمولاته وسياقاته لفهم المعاني التي يختزنها.عمار علي حسن الذي لم يشأ أن تقتصر علاقته بالأدب، على إبداع الأقاصيص والقصص والروايات، مثلما يقول، أخذ على عاتقه أن يقرأ ما ينتجه الأساتذة والزملاء، وأن ينقده بحب وإخلاص وتجرد، وهنا يؤكد أن كل نص قرأه بغية نقده قد أفاده في كتابة نصوصه القصصية والروائية، مشيرًا إلى أنه من الضروري أن يتابع أي كاتب أعمال الآخرين أيًّا كانت أجيالهم.حسن يُقسّم بهجة حكاياه إلى قسمين، في الأول منهما قراءات في أدب نجيب محفوظ وسيرته، وفي ثانيهما يكتب عن أولاد نجيب محفوظ وأحفاده، وما يحتويه القسمان عبارة عن رؤى نقدية كتبها الكاتب على فترات متقطعة، تحوي في شكلها ومضمونها بعض ما تحصّل عليه وارتقى إليه في الصياغة والتفكير، وفي الاهتمام والانشغال بقضايا الأدب إبداعًا ونقدًا.كان هدف حسن هنا أن يجد القاريء ما يفيده في تذوق وإدراك المعاني الكامنة في بعض النصوص الروائية، وكذلك مواطن الجمال ومفاتنه التي تتزين بها أو تعرضها سخية على الأذهان والأفئدة.ذات يوم تبلورت في ذهن الكاتب مقولة تقول إذا كان المؤرخون يسجلون يوميات السلطة فإن الأدباء يسطرون يوميات الجماهير، لكنه لم يعتقد في صحة هذه المقولة ودقتها واكتمالها إلا بعدما انتهى من قراءة الأعمال الكاملة لنجيب محفوظ.
تاريخ مصر في شكل أدبي
في " بهجة الحكايا " يقدم عمار علي حسن تصوراته حول أدب نجيب محفوظ وشخصه، بوصفه المعلم الأكبر في مسيرة الرواية العربية.وقد تعددت زوايا علاقته بكل القادمين بعده لتتراوح بين التأثر التام الذي يصل إلى حد الاقتطاف والتمثّل، وبين التمرد عليه وتحدّيه، أي محاولة الخروج من عباءته بهدف التجديد في الشكل والمضمون، مرورًا بأنماط متدرجة من التناص.هنا أيضًا يقدم الكاتب إسهاماته النقدية حول روايات وقصص لأدباء مصريين وعرب من أجيال ومدارس مختلفة، وهو يريد من ذلك أن يقف القاريء على ألوان معبرة، أو عيّنة ممثّلِة لمسيرة الإبداع في السنوات الأخيرة.في هذا الكتاب، وعلى حد قول الكاتب، يجد القاريء أن كل ما ورد فيه قد اتبع منهجًا واحدًا في المعالجة لا يقف عند حد الانطباع أو القراءة العابرة والمس الخفيف للنص الإبداعي، إنما إخضاعه لأدوات منضبطة تنظر إليه ليس بوصفه تشكيلاً جماليًّا للغة فحسب، إنما أيضًا باعتباره حاملاً لمعانٍ وقيم وتصورات لا تنفصل عن السياق الذي يحيط به والظروف التي تم إنتاجها فيها.غير أن هذا لا يعني أن الكاتب قد ألزم نفسه بقالب نقدي واحد في كل النصوص التي تناولها، خاصة وأن هذه الطريقة لا تروق له، مثلما يخبرنا، لكنه ترك للنص فرصة تحديد المدخل الذي يدرس أو يُنتقد من خلاله، فكل نص يجود، حال قراءته بإمعان وتفكير، بمفتاحه أو جوهره العميق.في بهجة الحكايا يحكي لنا عمار علي حسن قائلاً إن نجيب محفوظ الذي عاش خمسة وتسعين عامًا أراد في البداية أن يعيد كتابة تاريخ مصر برمّته في شكل أدبي، وقد أثمرت هذه الفكرة عن ثلاث روايات هي عبث الأقدار، رادوبيس، كفاح طيبة، غير أنه تخلى عن هذه الفكرة منحازًا إلى الكتابة عما عايشه، سمعه ورآه وتفاعل معه بذهنه ووجدانه.وقد بدأ محفوظ هذا التحول، الذي يعد علامة فارقة في مشروعه الأدبي، برواية القاهرة الجديدة، أو القاهرة 30، والتي راحت رواياته وقصصه بعدها تتتابع خارجة من حشايا المجتمع المصري، راصدة طريقة حياته وتحولاته وأشواق الناس الدائمة إلى العدل والحرية.المؤلف يصف ذاكرة محفوظ بالحادة والتي أسعفته أن يستعيد الوقائع التي سمع عنها ورآها في الطفولة وميعة الصبا، بعد مرور عقود من الزمن، ويعيد إنتاجها في سرد بديع، يزاوج بين ثراء المضمون الاجتماعي وعمق الموقف والرؤية وبين جمال اللغة ومتانتها، وهذه هي إحدى ميزات محفوظ.أما ما جعل ذاكرة محفوظ تبقى متوهجة فهو أنه كان يجيد فن الإصغاء، يسمع أكثر مما يتكلم. هنا يعيد عمار علي حسن ما قاله إدوار سعيد عن محفوظ واصفًا عالم نجيب محفوظ بأنه ملييء بالحيوية ويصخب بالحركة الدائبة إلى الدائبة إلى الدرجة التي تجعل رواياته ليست مجرد كلمات متجاورة، بل صور متتابعة، ترسم أمام أعيننا مشاهد حية، بلحمها وشحمها، وكأننا أمام فيلم سينمائي، نستمع فيه إلى صوت كل الأشخاص وأصوات الذكريات القادمة من جوف الزمن البعيد.هنا يخبرنا الكاتب كذلك أن محفوظ قد أخلص للرواية ووجد فيها الفن الذي بوسعه أن يحمل كل ما يدور في رأسه من أفكاره إزاء السلطة والمجتمع، والحيز القادر على بناء جدل ناعم حول الأيديولوجيات والخواطر والرؤى، والطريقة الآمنة لنقد الحاكم الجائر، وفضح الفساد الطافح، وطرح التصور البديل الذي يرمي إلى وضع حد للسياسات الفاشلة، والمسالك المعوجة والتصرفات العرجاء.
مناخ حر
ثمة سؤال مهم يطرحه الكاتب، تم طرحه من قبل على نجيب محفوظ وهو لماذا كان الإبداع الأدبي في فترة الستينيات بمصر أكثر غزارة منه في فترة السبعينيات، مع أن هامش الحرية، خلال هذه الأخيرة، كان أكبر من الأولى، والأدب يحتاج إلى مناخ حر؟ وكانت إجابة محفوظ تقول إن المبدعين كانوا في السبعينيات أحرارًا في أن يقولوا ما يشاءون في أحاديثهم ومقالاتهم، وهو ما جنى على الجانب الإبداعي لديهم، حيث لم تكن أمامهم تحديات كتلك التي وجدت في الستينيات والتي قادت إلى إنجاز الأعمال الإبداعية بما فيها من رموز وإسقاطات للتعبير بما يريدونه.لقد كان محفوظ مقتنعًا بأن المقاومة بالحيلة تساعد على مجابهة الإذلال والحرمان والإهانات، كما يقول الكاتب.الكاتب يرى كذلك أن روايات محفوظ قد تخلو من أشياء كثيرة، لكنها لا تخلو قط من السياسة.وتتلخص رؤية محفوظ في أن التقدم يجب أن يطرد معتمدًا على قيم الحرية والرأي واحترام الإنسان، كما يجب أن نتقبل المنهج العلمي من الحضارة الغربية، وما عداه لا نسلم به إلا من خلال مناقشة الواقع متحررين من أي قيد قديم أو حديث.في قراءته لحياة محفوظ يقول عمار أنه كان مثالاً راسخًا للانضباط والجد والاجتهاد بعد أن وضع لحياته نظامًا صارمًا لا يحيد عنه سواء في إبداعه الأدبي أو في سلوكياته اليومية البسيطة.كان محفوظ كذلك يؤمن بأن الجهد الفائق هو العمود الفقري للعبقرية وأن الإبداع عملية إرادية، وكان أشد حرصًا على القراءة التي أوصى بأن تكون بلا حدود وفي أي اتجاه.وتعليقًا على توقف إحدى دور النشر عن نشر كتب أحد الكتاب الكبار الراحلين يكتب عمار قائلاً إن العدل والصواب يقضيان بألا نتعامل فقط مع الحضور الجسدي للمبدع، نهتم به مادام يخالط الناس ونهمله حين يغادر الدنيا، فمن حيث المنشأ العلم صدقة جارية، ومن حيث المنتهى غصن المعرفة الذي تحط عليه عقولنا وأذواقنا يقف على جذور عميقة صنعها مَن قبلنا، ومن الإنصاف والسلامة أن تكون الجذور حاضرة وأصحابها موجودين دومًا.إلى جانب غوصه في عالم نجيب محفوظ وتحليقه في فضاءاته الإبداعية، يبحر بنا عمار علي حسن في كتابات آخرين منهم بهاء طاهر، يوسف القعيد، إبراهيم عبد المجيد، محمد ناجي، محمد المنسي قنديل، سلوى بكر، رضا إمام، محمد قطب، مكاوي سعيد، وحيد الطويلة، إبراهيم عيسى، إبراهيم فرغلي، سعد القرش، هاني عبد المريد وغيرهم.ونهاية يمكنني أن أصف بهجة حكايا بما وصف هو به كتابة بهاء طاهر من رشاقة ظاهرة وذهاب إلى المعنى من أقرب طريق، دون إشباع السرد بزوائد تثقله أو بنتواءت تقطع انسيابه، كما أضاء لنا مناطق كثيرة في كتابات آخرين ناقدًا إياها ومحللا جمالياتها الفنية كاشفًا للقاريء عن أشياء ربما لم يلتفت إليها وهو يطالع هذه الكتابات.