القاهرة 28 سبتمبر 2017 الساعة 07:36 م
مختار سعد شحاته
أبدا برد الفضل لأهله، إذ استعرت عنوان المقال من جملة قالها الأديب الرائع "سعيد نوح" في احتفالية بدار بتانة للنشر والتوزيع، حين وصف روايتي يرة "عصافرة قبلي" بأنها تفضح "الوجه القبيح للإسكندرية"... فله كل الشكر... وبعد؛
أدهشني "بوست" على الفيس بوك لأصدقاء سكندريين يتباكون على التجديدات التي حدثت على كافيه "...." المشهور في تاريخ المدينة، وزادت دهشتي حين راحت التعليقات تتحسر –مجرد تحسر ولا فعل حقيقي- على زوال مثل تلك الأمكنة، وهذا ما دعاني إلى تخصيص هذا المقال. وأعرف أنه ربما يثير حفيظة الأصدقاء من الإسكندرية باعتباري أحد هؤلاء الذين وفدوا إليها وعاشوا ضمن وجهها القبيح، لكن الفارق بيني وبينهم أني على الدوام كنت أحاول ألا أجعل المدينة المتخيلة مرجعًا للحكم على الواقع المُعاش. وأعترف أن كتابتي لهذا المقال من باب المحبة، التي تصل في بعض الوقت إلى حد الشفقة على المدينة التي زال جمالها للأبد.
تفصيل مؤسس قبل البدء:
أذكر انتباهي على صدمة كبيرة حين كنت أبحث عن شقة للسكن السري منذ عقدين... لم تكن هي نفس المدينة التي أخبرتني شوارعها النظيفة بأنها أبدًا لا تستحق هذه اللعنات... حاولت الحديث عن وجهها الجميل الذي يحكي الأصدقاء عنه... اجتهدت في استعادة مشاهدها المتخيلة في ذهني من القراءات عنها، ومما يتذكره عقل الطفل الصغير؛ فوجدت وجهها القبيح وحده رغم جمال أهلها... هكذا تشكلت ملامح المدينة بصورتين متناقضتين بل وشديدتي التناحر في داخلي، صورة المدينة بواقعها الآني، وصورة المتخيل والمُتذكر وما يضيفه عليها الأصدقاء من حنين وصور وطرقعات نوستالجية.
المدينة الطاردة الجاذبة:
أنظر في تاريخ المدينة الحديث نسبيًا، لأجدها مدينة تحمل من التناقضات الكثير والكثيرة، خاصة في طردها وجذبها لعشاقها، وفي مجال بحثي الثقافي "الأدبي والفني خاصة" أجد عشرات الأسماء من هؤلاء الذين غادروها نحو المركز القاهري بكل صولجانه، وكأحد نواتج صراعات الهامش "الإسكندرية" –وغيرها من المدن- مع المركز المتمثل في القاهرة. والعجيب أن تلك المدينة لها تاريخ عظيم في الفقد لكل هؤلاء الذين تركوها أو أجبروا بأسباب مختلفة على الخروج منها إلى القاهرة أو العالم الواسع خارج حدود مصر، عشرات وعشرات الأسماء في الأدب والفن والموسيقى وغيرها من مجالات الإبداع الإنساني، لكنها على النقيض تستقطب الآن في المقابل عشرات –هذا بخلاف الهجرة الاقتصادية والاجتماعية أصلاً والتي لها دور لا يُغفل- لكنهم أبدًا لم يسدوا فراغ هؤلاء الراحلين عنها.
غابات الإسمنت الجديدة:
ويظهر السؤال الآني عن السرّ في استيعاب هؤلاء المهاجرين الجدد نحوها؟ ولماذا استقطبتهم المدينة الآن بشكل أكبر؟ ربما يكمن مفتاح الإجابة في الوضع الاقتصادي والاجتماعي، وما أنتجته استثمارت رأس المال الجديد في ضواحي المدن، والحاجة إلى تسكين غابات الطوب والحجارة التي تنبت على أطراف المدن بوجه عام، أو ربما لأن المدينة الحقيقية تم طمسها وبدأت مدينة أخرى في التشكل لها ملابساتها وقوانينها الجديدة، وهنا أحيل القاريء إلى مقال الصديق د. صامولي شيلكه "أين تقع الإسكندرية"، والذي يرصد بعين باحث الأنثربولوجيا هذه التغيرات الديمغرافية وما تثيره من أسئلة بحثية. ولا تتوقف غابات الإسمنت عن التوسع على حساب وجه الإسكندرية الزائل والباقي في نوستالجيا أهلها.
لعنة المدينة:
ضرب الإسكندرية كغيرها من المدن النشطة لعنة خاصة، لعل هذه اللعنة كانت في أساسها نعمتها التي تميزها عن كل المدن المصرية، وهي "لعنة الكوزموبولوتانية"، فالمدينة الجميلة التي استوعب الكثيرين وصهرتهم ضمن كيانها، تتوقف الآن أما زحف كوزموبولتاني من نوع جديد، زحف داخلي بدأ في فرض قيمه وشروطه على المدينة على خلاف ما كان سابقًا، فبدأ في صهر المدينة نفسها قلبًا وقالبًا، وراح يُشكل في وجهها بما يتناسب مع قيمه الجمالية لا قيم المدينة القديمة وتاريخها. وتلك لعنة لطالما أنكرها المثقفون السكندريون حين يتحدثون عن كوزموبولوتانية مدينتهم، والحقيقة أنهم ظلوا هكذا حتى صارت تلك المدينة التي يحنون إليها عبر نصوصهم أو فنهم في موجة نوستالجية تجذب كثيرين منهم إليها، وتعزلهم عن إدراك واقع المدينة الآني، فيظل هؤلاء لا يرون غير مدينتهم وجمال حالها لكن فيما مضى، دون أن يتقدم واحد منهم باقتراح ولو متخيل عن شكل المدينة وكيفية الحفاظ على موروثها كما حدث في مسلسل الراية البيضاء، وفي تحليلي الشخصي أن المبدع السكندري الذي فطن سريعًا لتحولات مدينته هو من استطاع النجاح حن تركها، بل وإن فشل عشرات ممن حاولوا هجرتها يرجع لأنهم طوال الوقت يتحدثون ويتحركون بمعايير تلك المدينة المتخيلة الزائلة والتي –في وجهة نظري- صارت زائفة وخادعة تفصلهم عن الحقيقة والواقع.
للمدينة وجهان:
تشكلت المدينة بوجهين متناقضين في ذهن أولادها وعشاقها بوجه، وفي ذهن وافديها الجدد ومُشكلي كوزموبولوتانيتها الجديدة بوجه آخر، وهما وجهان غير متصالحين أبدًا، بل ولا يريان بعضها البعض فعليًّا وصارت ثمة إسكندرية في عقل وخاطر كلا الفريقين.
صدقني؛ ستجد الإسكندرية في واقعها إلا أنها لن تكون مدينة إدوارد الخراط ولا إبراهيم عبد المجيد... مدينة أخرى يحكي أصدقائي عنها ولا يرون غيرها، ويلهثون لاستعادتها عبر الصور والحكايات، ولا يتعدى الأمر غير ذلك، وما محاولات الشاعر السكندري الرائع "علاء خالد" غير ذلك، محض حروب غير منصفة يخوضها البعض للحفاظ على مدينتهم التي ولت للأبد بوجهها المعروف..
أصابت لعنة الكوزموبوليتانية كل عشاقها وصارت نرجسية لا تثمن ولا تغني من جوع واقعها المؤلم الذي اختار لنفسه قلبًا قاسيًا جدًا يلائم طبيعتها بعد أن تحولت إلى غابة أسمنتية شديدة القبح... تأكل الجمال بضراوة ونهم وبلا هوادة...
أين الإسكندرية إذن؟!:
أين ذهبت المدينة التي انطبعت صورتها وأنا صغير في قلبي حين كنت أصحب والدي في زياراته المتقطعة إلى شارع فؤاد بمقر عمله؟!
يبدو أنها ضاعت للأبد، وأن غابة الأسمنت فرضت سطوتها ومكرت بكل عشاقها فنومتهم بهذا التباكي الذي صار منفرًا للغاية لي بشكل شخصي... إذ حولت الكثيرين إلى أشخاص مثل النعام تدفن رأسها في الرمل وترى في ذلك فرصة لحفظ جمال الغابة التي ولدت فيها –النعامة- قبل أن تدفن رأسها في رمال مزارع التسمين... ستذبحهم الإسكندرية الجديدة التي غفلوا عنها وتعمدوا ألا يروها... وهو ما حاولت الصراخ به في روايتي الأخيرة عصافرة قبلي.
دعوة للتصالح:
آن أوان أن نرى كوزموبولوتانيتها الجديدة وأن نتعامل مع واقعها لا صورها التذكارية المتحفية. ستضيع للأبد إسكندريتكم يا سادة وأنتم تدخنون السجائر وتلعنون الزحمة والأبراج السكنية وغزوها المضطرد بشراهة وهدم الفيلات الأثرية النادرة وغيرها مما تعرفونه أكثر مني...
افتحوا أعينكم على الوجه الآخر لتروا مدينتكم الجديدة، ولتبدعوا لنا طرقًا للتعايش معه حتى يمكن تقبل كل ما في ذلك الوجه من قبح، بل والبحث عن ثمة جمال لربما نبتت زهرته وسطه.
مختار سعد شحاته
روائي وباحث أدبي.