القاهرة 26 سبتمبر 2017 الساعة 10:27 ص
بعد روايات الملاحم والسير حيث يكشف الفعل الإنساني عن عظمة كبيرة باستبسال الأبطال وتفانيهم في السعي لتحقيق أسطورتهم فنرى حركة هائلة ، نكاد نسمع حمحمة الخيول وهدير السيوف وحروب وانتصارات وفواجع أيضا، كل هذا يأتي عبر رحلة الإنسان وتقدمه للأمام في اكتشاف نفسه والعالم المحيط به ؛ جاءت الواقعية ثم الرومانسية وتلاها السريالية ثم ظهرت روايات تيار الوعي متاخمة لظهور السريالية وكان أبرز مؤسسيهاوليم جميس عالم النفس والفيلسوف وأخيه الروائي هنريجميس ودورثي رتشاردسونوجميس جويس وفرجينيا وولف وفوكنر ورأينا بروست يشد الحبل لأوسع ما يتسع في اللعب على الذكريات رابطا إياها بالحاضر فجاءت رائعته البحث عن الزمن المفقود ، لو رجعنا قليلا لرؤى برغسون عن الوثبة الحيوية سنرى فيما كتبه ارهاصا كبيرا بل الأساس الفلسفي لهذا التيار( تيار الوعي) حيث يرى الفيلسوف الكبير أن الشعور في تدفق مستمر وتقاطر لا ينقطع؛ حتى كأنه كائن يعيش وينمو، وهو موكول لاتخاذ قرارات دائمة تمضي بالإنسان تبعا لاختياره وارادته ؛ من هنا كانت ضربة رواد تيار الوعي ؛ الحياة كلها في لحظة ، في يوم، وشعورنا في حالة صيرورة دائمة؛ لنفتح قوسا هنا؛ ونكشف ما يدور داخل حياتنا الداخلية ،
إن هذا التيار يقوم على التفكير العقلي والروحي بما يتعلق بالماهية والكيفية،وهذا ما فعلته بامتياز فرجينيا وولف وهي تكتب حياة السيدة دالاوي في يوم واحد؛ إنها تضع عدسة كبيرة على ما يمور داخل عقل بطلتها بما يقول لنا: كم هو الشعور مليء ومتدفق بل مُحير! وكم من آلاف الخواطر والتشعبات التي تعبره، ففي داخل كل منا ضغوط وتوترات تتصادم ويلغي بعضها الآخر وهنا نقوم بطرح أسباب للفعل وعكسه حتى نصل للدوافع ساعتها نحسم الاختيار والاقدام على الفعل
إن النشاط الفكري والشعوري يتجلى العالم أمامه ككرة علينا أن نديرها ونصوبها في الاتجاه الذي نريد، والقاص أو الروائي هنا غالبا لا يلتزم بتتابع زمني وقوانين السبب والنتيجة إنه يريد أن يمسك بهذا السيل المتدفق؛ بصدى الطاحونة الهائلة التي تمور داخل عقول شخوصه بالأحرى كما يقول كولردج: إلى الطبيعة المتدفقة الوعي، عاود النظر ثانية لأعمال فرجيينا وولف حيث لا ماض ولا مستقبل ولا شيء غير اللحظة الحاضرة تحت ضوء كثيف! تقول في احدى محاضراتها عن الواقع: إنه شيء غريب الأطوار ، شيء لا يمكن الاعتماد عليه مطلقا ــ فهو يوجد أحيانا في درب مترب، وأحيانا في قصاصة من جريدة متروكة في الشارع وأحيانا في نرجسة برية في ضوء الشمس .. والروائي يفوق غيره من الناس في اقتناص فرصة العيش بين هذا الواقع المتنوع .. إن عليه أن يجمعه ويوصله للآخرين.
إنها تريد أن تملأها (اللحظة) بالماضي والمستقبل إلى أن تشع كلا ساطعا بعمق الفهم
لو رجعنا قليلا لرؤية أرسطو عن الحبكة كبداية ووسط ونهاية، في الوسط تتجلى الحبكة (العقدة) ثم النهاية، سنرى في تيار الوعي استحضارا للرؤية الهامشية وذهنا مشغولا بأحلام النهار،سنرى أعمق مستويات الطبيعة الإنسانية وسنرى حركة زمنية قليلة لكنها حركة سيكولوجية واسعة وكبيرة ومسطحة تعتمد على الذاكرة والحواس والخيال
تقول وولف في بداية روايتها السيدة دالاوي على لسان كلاريسا بطلتها وهي تتذكر بيتر وولش وهو من أصدقاء الطفولة كادت أن تتزوج به: كانت تقف وتتطلع إلى أن قال بيتر وولش: "تتأملين وأنت بين الخضروات؟ ــ هل كانت تلك هي الجملة؟ ــ إني أفضل الناس على القرنبيط ــ هل كانت تلك هي الجملة؟ لابد أنه قد قالها على الفطور ذات صباح حين خرجت إلى الشرفة ــ بيتر وولش ، إنه سيعود من الهند ذات يوم قريب ،في حزيران أو تموز ، نسيت أيهما، ذلك أن رسائله مملة لدرجة فظيعة؛ إنما هي أقواله التي يتذكرها المرء ؛ عيناه ، سكينته الصغيرة التي يحملها في جيبه ، ابتسامته ، تذمره ، وأقوال بسيطة كهذه عن اللهانة ، في حين تكون ملايين الأشياء الأخرى قد تلاشت كليا ــ ويا للغرابة!