القاهرة 1 أكتوبر 2017 الساعة 10:03 ص
د/شعيب خلف
كانت (مصر التي في خاطري وفي فمي ) من أول الكلمات التي وعتها آذاننا صغارًا وكان عبر الأثير يأتينا صوت ( أم كلثوم ) حاملاً إلينا سؤالها الرقيق : (من منكم يحبها مثلي أنا ؟ ) ، سؤال ردده كل منا ، يخرج فيه الاستفهام عن مقتضي الظاهر إلي معني الاستبعاد أن يساويه سواه في حبها ، وبقي فينا ، وسيبقي ، ما دام في القنديل زيت ، وبقي الوطن وسيبقي نقشًا علي شغاف قلوبنا أطول عمرًا مما نقشته أيدي الأجداد علي جدار الزمن .
إن الوطن كالوالدين لا يجوز محاسبته إذا جار ، ولا يمكن عقابه إذا أخطأ ، فكيف تحاسب من أعطي دون حساب ؟ وكيف تعاقب من قدر .. وص
فح دون عقاب ؟ من هنا جاءت دلالة هذا البيت جلية واضحة في الجمع بين الوطن والأهل ، في العفو والصفح ، مهما بدر منه
ما من جور ، فالوطن أعز علي النفس من النفس ، ومهما صدر منهما من بخل ، فالأهل أقرب إلي القلب من شغاف القلب :
( بلادي وإن جارت علي عزيزة وأهلي وإن ضنوا علي كرام )
إن السؤال الذي يطرح : هل يظن أحد أن هناك كتابة مهمومة ملتزمة لا يكون الوطن وقضاياه طرفًا أساسيًا فيها ؟ فإذا كان ذلك كذلك، فكيف يكون الوطن إذًا حاضرًا فيما يكتب المبدعون من أبنائه ؟
الوطن بداية ، هو بمن يسكنه من أفراد ، الفرد الذي منه تتكون الجماعة ، والوطن هو المكان الذي ينمو في تربته مواطنون يتطورون جسدًا وروحًا وفكرًا ، وهو الشجر الوارف الذي نتفيأ تحته من هجير الدهر وتقلبات الزمان ، وهو الرداء الذي نرتديه ليستر عوراتنا إذا طال العمر وامتدت السنون .
لا نبالغ حين نقول إن المصريين هم أكثر الناس تعبيرًا عن حبهم لوطنهم وعشقهم له ، والأمثلة التي تبرهن علي هذا الأمر عديدة : فهم أكثر أهل الأرض صياغة للأغاني التي تمجد الوطن، وتتغني بمآثره وإنجازه، وفي المقابل، ونتيجة لهذا المبالغة الشديدة المقبولة في الحب ، هم أيضًا - في رأيّ - من أكثر الشعوب التي تصاب بأمراض الغربة والبعد عنه حين تضطرهم قسوة الظروف لتركه من أجل لقمة العيش، فيسيطر عليهم الحنين و
تتملكهم الرغبة العارمة في العودة ، علي الرغم من رغد العيش، وليونة الحال في كثير من بلاد الهجرة .
إن (مصر) الوطن والملاذ في المقابل - في رأيّ أيضًا - من أكثر الأماكن علي وجه البسيطة التي إليها تنجذب القلوب، وبها تتعلق الأفئدة، خاصة للذين لم تكن لهم وطنًا أصيلاً، فترتسم في وجدانهم وطنًا بديلاً ، دون أن تكون المنفعة المادية ( التي هي في النهاية غاية المغترب) هي المبتغي ، فالماديات في أماكن الجذب الأخرى لا شك أكثر ، ورغد العيش أكبر ، ولكنه حب التاريخ والحضارة ، والبحث عن كيفية امتلاك هؤلاء للماضي عن جدارة ، من خلال ما وصلنا من أسرار فوق جدران المعابد ، ومن حياة داخل التوابيت والمقابر ، فيأتي الناس من كل بقاع المعمورة ، يعيشون سنوات طويلة فيها ، ويوصون
بدفن جثامينهم دون أن يكون لهذا سبب واضح غير هذا الحب .
في هذه القراءة سنعرض لصورة الوطن في رواية (خريف الجنرال) ( ) لحمدي البطران تلك الرواية التي ظهر فيها الوطن بتاريخه وحضارته ، برؤسائه وقادته ، بروحانيته وقداسته ، واختلاف عقائد الناس دون أن يكون لهذا أثر في العيش والتواصل والوحدة ، كما تتضح في الرواية صورة المحب المعاتب الذي لا يأخذ موقفًا مغايرًا ، أو ناقمًا كارهًا بل عتاب المحب الغيور علي وطن يراه أحب الأمكنة إلي القلب . .
(ناصر) شرفة مفتوحة في القلب :
في رواية (خريف الجنرال ) يستحضر البطل صورة الزعيم جمال عبد الناصر حين كان يذاع برنامج في إحدى القنوات الفضائية عن سيرته وخطوات من حياته ومواقفه الخالدة التي لا تنسي ( لقطات للزعيم عبد الناصر في مؤتمر باندونج وقميصه الأبيض الخفيف المفتوح من أسفل الجانبين ، ونظرة الثقة التي بهرت العالم ، لو كان لا يزال حيًا ، هل كنت أخرج علي المعاش في منتصف العمر هكذا ، لقد دخلت كلية الشرطة بنسبة الخمسين في المائة عمالاً وفلاحين ، ولم أخجل حين ملأت الاستمارة وقتها وكتبت في خانة مهنة ولي الأمر فلاح ، لم يتوقف وقتها عندها أحد ، كانت كلمة فلاح وقتها تشرف ..) (خريف الجنرال ص 115). هنا يروي البطل صورة عبد الناصر الزعيم من خلال التركيز علي بساطة الشكل الخارجي، والقدرة علي التأثير هكذا امتلك عبد الناصر سمات (كاريزمية) لم تتوفر كثيرًا لغيره ممن اصطفتهم الزعامة ، كانت علاقة عبد الناصر بالطبقة الوسطى ، والفقيرة في مصر أولا ، وفي العالم العربي بعد ذلك هي مصدر قوته ، والأمر ليس فقط لأنه خرج منها؛ بل لأنه كان مصدر أحلامها، وطموحاتها، وكانت العدالة الاجتماعية هي همه الأكبر، كما كانت أهم مبادئ ثورته وهمها الشعبي الأكبر. يربط (الراوي/ البطل) الأمر بشخصه وحاله، وما آل إليه وضعه من خلال موقفين مهمين : الموقف الأول: دخوله كلية الشرطة والثاني: خروجه من الخدمة ، والأمران بما يحملان من مفارقة الدخول والخروج مرتبطان بالعدالة الاجتماعية التي تحققت له بالأمس ، ولم تتحقق لمن هم في مثل حاله اليوم ، والظلم والجور الذي لحق به اليوم ، وما كان له أن يحدث معه بالأمس ، وهذه الحالة علي ما فيها من تجليل لعبد الناصر بالأمس ؛ إلا أنها تحمل موقفًا معاتبًا من الوطن ، الوطن المحل الذي يطلق ويراد به الحال أو بالأحرى القائمون عليه ، ومن هنا كان منطقيًا أن يتحدث البطل عن وفاة عبد الناصر بهذا الشكل، وتأثره تأثرًا شديدًا بهذه الوفاة، وربطه بينها وبين وفاة أبيه ، نعم كان عبد الناصر لشباب الثوريين أبًا، ولتطلعاتهم أملاً وملاذًا (ولما مات عبد الناصر شعرت أن أبي مات من جديد ، وكنت وقتها في الثانوية العامة ، وسقطت فيها ) (خريف الجنرال ، ص 116 ) .
يستمع البطل إلي برنامج في إحدى الفضائيات يتحدث عن حرب يونيو ويعلق البطل علي صورة عبد الناصر من خلال تعدد مواقفه قبل الحرب وبعدها (كان جمال عبد الناصر في البرنامج الذي استمع إليه، في إحدى القنوات الفضائية يعلن في وسط مجموعة من ضباط القوات المسلحة، والطيارين، وقادة الطيران في العريش أن العدو سيضربنا يوم الاثنين ... وجاء جمال عبد الناصر علي الشاشة مرة ثانية ، وأعلن أنه سيتنحي عن الحكم ، كان وجهه صافيًا وخاليًا من التجاعيد ، والانفعالات وصوته عميقًا ومؤثرًا. لسبب غامض شعرت أنه لم يكن جادًا في مسألة التنحي ،... كان سنه وقتها مثل سني وأن يقود أمة بكاملها ، لم تتح لي الفرصة لأقود أمة مثله ، ولو أتيحت لي ما كنت واجهت المصير الذي أواجهه الآن) (خريف الجنرال ص 132). صورة مزدوجة آخري لعبد الناصر تحكمها المفارقة ما بين موقفه وهو يخطب خطاب التأميم ، وما يمتلك من قوة شعبية تساند وتؤازر، ثم وهو يخطب خطاب التنحي ، وما بين الجدية والحماس في الأولي وعدم الجدية ( في رأي البطل ) في الثانية، ثم ما زال موضوع خروج البطل علي المعاش شاغله الشاغل ، فبعد أن ربط دخوله كلية الشرطة ؛ وخروجه من الخدمة بعد ذلك بعبد الناصر،يماثل صورة عبد الناصر بخطاب التأميم البداية والانطلاقة، وخطاب التنحي / الخروج من المشهد والعودة إلي نقطة البداية ، يربط بين سنه ساعتها، وسن عبد الناصر الذي قاد أمة وهو في مثل سنه، ولو نال مثل هذه الفرصة لكان حرًا في اختيار الخروج لنفسه كما كان الزعيم حرًا ، لقد تخيل البطل أن عبد الناصر كان حرًا، بدليل عبارته السابقة (لسبب غامض شعرت أنه لم يكن جادًا في مسألة التنحي ) .
يعلق البطل علي المذيع الذي يتكلم بلهجة لبنانية، واصفًا تساؤلاته بخبث وهو يتحدث عن النكسة ( شعرت بالغيظ من هذا الذي ينكأ الجراح التي اندملت ، ولماذا يذكرنا بمحنة تجاوزناها منذ سنين ؟) (خريف الجنرال ص 132) . لم يستطع البطل أن يخفي حبه لعبد الناصر الذي جعله يرفض حتى مجرد سماع أي تقرير، أو عرض يخص النكسة.
يتحدث البطل عن القادة الذين قاموا بالثورات في البلاد العربية الأخرى، وكيف خرجوا من عباءة الثورة المصرية، وعباءة عبد الناصر. ويقارن أيضًا بين سنه ورتبته وسنهم ورتبتهم حين قاموا بمهمة القيادة . لكن(الراوي/ البطل) مازال يعيش أزمة نفسية بسبب خروجه علي المعاش ، فهو لا يستطيع أن يخفي ما يحمله من غيظ، ويعود للمقارنة بين السن والإنجاز( لا فرق بيني وبينهم، هم أتيحت لهم الفرصة، أوجدوا لنفسهم الفرصة واستغلوها ) (خريف الجنرال ص133)، ثم يعلق علي شكل تلقي الجماهير لهذه الثورات ( الصياح، الصراخ ، الهتاف ، الزعيق ، أسماء متعددة لفعل واحد، انقضى عصرها)(خريف الجنرال ص133)؛ لكنك تشم من كلام البطل هنا رائحة ما ، ليس فقط من موضوع السن والقيادة والإنجاز؛ ولكن علي مستوي تلقي الجماهير لهذا الأمر، وهذا يعاودك إلي العصر، وما حمل من أشياء كانت لا تروقه ، خاصة ، في حديثه عن هذه الهتافات وصراخها ، وإشارته بانقضاء عصرها ، وانعدام قيمتها .
[السادات] دم علي فراش الفرحة :
لم يكن الزعيم أنور السادات بعيدًا عن زمن السرد وأحداثه، فقد عاش فترة من أكثر فترات التاريخ المصري سخونة ، عقد السبعينات بأكمله حيث الإعداد للحرب وخوضها والتفاوض علي نتائجها، وكان بطل خريف الجنرال شاهدًا علي هذه الفترة من خلال وجوده في السلطة التي كان أحد رجالها( جاء السادات مرة ثانية ، كان يتكلم وينطق الكلمات بصعوبة كان في خطبه قبل نصر أكتوبر ملتزمًا بالنص المكتوب ، الآن يرتجل الكلام ... أصبح يتحدث كمفكر وزعيم ، وسرعان ما تذكر أنه الحاكم ، وأصدر قراراته المدوية من سيحيله للمعاش مثلي، أثار الجدل حيًا وميتًا ) (خريف الجنرال ص 134). هذه شهادة البطل علي السادات الزعيم، وعقده للمقارنة بين فترتين في حكمه ما قبل الحرب وبعدها، وكيف كان للنصر تأثيره المعنوي حين أخرج (السادات) من ثوب الحاكم إلي ثوب المفكر والزعيم، ثم يعود به إلي الحاكم مرة آخري من خلال قرارات الاعتقال الشهيرة في سبتمبر1981 .
ما زال موضوع الخروج علي المعاش الذي لحق بالبطل يفرض نفسه علي تفكيره خاصة أثناء الحديث عن الذين يملكون هذا الأمر؛ لكن التناول هنا يختلف عن التناول السابق فهو ينفي حدوث هذا الأمر في العهد السابق، مع إثبات مثيله لآخرين في هذا العهد .
يتحدث البطل عن شخصية لم يذكرها بالاسم واكتفي بقوله أنه بعد تدقيق النظر عرفها وهي ليست خافية علي أحد فقد خرج في الفترات الأخيرة ليشهد علي هذا العصر في إحدى الفضائيات ( كان الرجل يهاجم السادات بضراوة ويقول إنه أفسد البلاد ، وعطل الحريات ، واعتقل الشرفاء وأصحاب الفكر والقلم . مع أن السادات عينه في منصب مرموق ، أغلب الذين عينهم السادات في مناصب مرموقة يشتمونه الآن " (خريف الجنرال ص 134) طبعًا يقصد الراوي هنا السيد حسين الشافعي الذي اختاره عبد الناصر نائبًا لرئيس الجمهورية عام 1963 وبقي في منصبه حتى جاء السادات عام 1970 وأبقاه نائبًا أول حتى عام 1974، ويحكي البطل عن توجيه النقد للحقبة وصاحبها والذي لم يسمح به لآخرين كانوا أقرب منه للرجل وأدري بصناعة القرار، وذلك حين يقف البطل في المطبخ ويربط بين المبشرة والمفرمة والرئيس السادات " المبشرة مثل المفرمة التي استخدمها السادات ( أي واحد يخرج علي النظام أفرمه . أفرمه) . وفعلاً فرم (كثير) ، بطل الحرب والسلام أول عربي ينتصر علي الإسرائيليين، عبر القناة وقلب المعايير. وكان لابد أن ينتهي دوره بعد ذلك لكن ليس بالطريقة التي انتهى بها " (خريف الجنرال ص 221/222) . صورة مثيلة لصورته التي خرج بها علي المعاش يراها غدرًا كما غدر بالزعيم الذي قدم للوطن الكثير، هنا تبدو الصورة المعاتبة التي كانت في وجدان كثير من المثقفين حول اعتقالات 1981 وخروج الكثير منهم من وظائفهم وعلي رأسهم شخصيات كان لها دورها المؤثر في تيسير سياسة الوطن( إنه لعبث أن أتمادى في وصف مدينة جرحت جرحًا عميقًا في خصائصها كعاصمة ، تلك المدينة التي انكب فيها الناس علي صفحات الجرائد يقرأون الكشوف التي أعلن عنها الزعيم في سبتمبر 1981، ... وقتها سرى الأنين المكتوم في كل بيت وقيل للزعيم إن الشعب يتآمر عليك ، قال وهل يتآمر شعب يحكمه القانون ؟. ) (خريف الجنرال ص 227) .
تبقي لنا صورة مريحة من مكونات مصر المحروسة، نعود بها إلي الأصالة التي ما زالت تصاحب الكثيرين وهم يبذلون الكثير للمحافظة عليها (ارتداء الجلباب مريح ، ويريح الجسم كله، كل أطرافك تصبح علي راحتها لا شيء يكبل ذراعيك ولا ساقيك ، ولا تشعر بالقيود التي تفرضها عليك الملابس الإفرنجية الضيقة التي اعتقلت أجسادنا علي مدي أربعين عامًا ...) (خريف الجنرال ص120)، هنا ينتقل البطل للشكل الخارجي الملبس، الجلباب الحرية في نظره مقارنة بزي الوظيفة الذي يعتقل الجسد داخله وهذه مفارقة واضحة ، إن الوظيفة التي يعاني ويعاتب ويعقد المقارنات للخروج منها يصف زيها بثوب الاعتقال .
في الرواية نري صديق البطل القبطي، عاطف الذي تزوجت محبوبته مريم وظل متأثرًا بزواجها، يحكيها لنا صديقه العارف أسراره والمطلع عليها ( لم يكن عاطف بعد صدمته في مريم يميل إلي البوح بعواطفه، لقد شعر أن عواطفه ماتت ، وبدأت تنمو بدلاً منها عاطفة من نوع آخر ليس بمقدوره البوح بها ... حاول أن يكون راهبًا ولكن والده ووالدته وأخوته منعوه، استعان والده بنا لكي نمنعه، الحق أننا تحرجنا في الكلام معه في هذا الموضوع لأنه يمس عقيدته الدينية التي كانت متأججة كنا نريد أن يبقي بيننا كما ألفناه وعهدناه " ( خريف الجنرال ص 64/65) هنا تظهر صورة من صور الحياة المصرية بما فيها من تسامح مهما اختلفت الملل والعقائد، إن روابط الجيرة نفوق روابط المماثلة في العقيدة ومن هنا كان اللجوء للبطل والاستعانة به في قضاء الحاجات، وراعوث أم روماني تلجأ له ليخرج لها ابنها روماني المقبوض عليه ( خلص الجيش من زمان ، ... وقالت لي أن ابنها موجود في المركز من يومين ، ولم يخرج ، وأنها لا تعرف السبب في احتجازه ، أخبرتها أنني سأتصل بالمركز " ( خريف الجنرال ص 90) .
الوطن منفرد لا شريك له :
يتكرر الموقف المعاتب للوطن كثيرًا، فالبطل الذي كان يشغل رتبة لواء، يتعرض بعد خروجه من السلطة إلي العديد من المواقف التي يعاتب فيه السلطة/ الوطن، وهو الذي كان واحدًا من رجاله ، فحينما ذهب للسؤال عن ابنه في المدينة الجامعية، ورأي المقاول تفتح له الأبواب، وهو ينظر إليه بهذا الجفاء غير المبرر يقول :" شعرت في تلك اللحظة أنني تافه ، وكأنني لا شيء، لعنت الظروف التي أجبرتني علي الوقوف في مثل هذا الموقف " (خريف الجنرال ص107).
لم يكن الموقف المعاتب من السلطة التي خدمها فقط، ولكن الأمر ارتبط بالناس الذين عاشرهم وتعامل معهم ، وهم من كانوا يتعاملون بالأمس غير ما هم عليه اليوم، فموقفه مع موظف البنك يحكي ذلك ( كان موظف البنك الشاب يقابلني بوجه بشوش في أول الأمر ويصافحني ويسألني عن أحوالي، وفي المرة الثانية لم يتركني أنتظر، وفي المرة الثالثة تجاهلني ، حتى وصلت عنده ، ألقيت عليه تحية الصباح حياني تحية عابرة ، وناولني الورقة التي سأكتب فيها مبلغ المعاش لأوقع عليها ...سألني عن رقم الحساب لم أحفظ الرقم ، وفي المرات الماضية كان يصرف لي دون أن يسألني عن الرقم .. الحق أنني شعرت بالغيظ منه "( خريف الجنرال ص113).
إن سليم صاحب المخبز الذي كان يرسل الخبز للبيت ، حين كان البطل في السلطة ؛ اختلف الأمر تمامًا بعد خروجه للمعاش، وأصبح لا سلطة في يده؛ ما الذي يجبر سليم علي إرسال الخبز للبيت كان دور البطل وهو في السلطة مهمًا، ينهي له الإجراءات، يمنع عنه مباحث التموين، وسليم لم يكن يكتفي بهذه الخدمات، بل كان يصرح أكثر من مرة لأصدقاء البطل من الضباط حين يمرون عليه بشراكته له حتى لا يمسونه بسوء، من حق البطل أن يتعجب حين يمتنع اليوم عن إرسال الخبز اليوم مقارنة بما مضي ( بعد أن امتنع سليم صاحب المخبز عن إمدادنا بالخبز اليومي الذي كان يرسله لنا وأنا في الخدمة ..) ( خريف الجنرال ص 171) .
حين تبحث عن صورة الوطن في إبداع من يحيا فيه ، ويعيش فوق أرضه ، فإن الأمر لا يحمل صعوبة في التناول والعرض ؛ ولكن تكمن صعوبته في الكشف والتأويل والفهم ، كشف الأقنعة، وتأويل المواقف ، وفهم الملابسات ، فالكل أمام الوطن سواء ، وحب الوطن والتعبير عنه لا يحتاج إلي مزايدات من أي طرف علي حساب الطرف الآخر، ولا ادعاء الوطنية من أي جماعة علي حساب الأخرى، لأن ذلك سيكون نافرًا غير مقبول، فإن كان الوطن يقسو علي أبنائه تارة، فهو يلين ويحلو تارة آخري، طبقًا لما يمر به من ظروف، وما يعلق به من ملابسات، وما يلحق به من أزمات .