القاهرة 24 سبتمبر 2017 الساعة 10:18 م
طلعت رضوان
تـُعد رواية علاء الديب (أطفال بلا دموع) من الروايات القليلة التى تعاملتْ مع الأسطورة فى الأدب المصرى. والأسطورة إنْ لم تكن خيطًا مؤثرًا فى نسيج البناء، أصبحتْ كالحلية، قد تكون جميلة فى ذاتها، ولكنها لاتُضيف شيئا، فضلاعن عبئها الثقيل. ورواية (أطفال بلا دموع) تؤكد وعى الكاتب بذلك.بل إنّ الربط بين الأسطورة وشخصية البطل، يُعدُ أحد المفاتيح المهمة لدخول عالمتلك الرواية.
البطل يعمل فى إحدى دول الخليج منذ أكثر من عشرسنوات. جمع ثروة هائلة من التدريس وبيع الكلام على شكل مقالات ((تكتب نفسها)) كلام كمضغ اللبان أو((كلام ساكت)) كما يقول السودانيون. ورغم الدكتوراه التى حصل عليها والقصص التى يكتبها والمال الذى جمعه من الغربة والتآمر، فإنّ مرحلة معينة من طفولته لا زالت تلاحقه.وعم رجب بائع الدوم الذى حكى له الأسطورة لايزال يُطارده: ((فى الجبل كهف. فى الكهف مغارة. فى المغارة كنز. لا أحد يفتح الكنز حتى يحرق بخورًا. البخورلا يحمله أحد إلاّ إعرابى رحّال قادم من المغرب، يقف خارج القرية ولايدخل. يلقاه صاحب الحظ فيشترى منه البخور. وإذا انتهى البخور، والطامع فى الكنزلم يقنع بعد، تُغلق المغارة عليه ويبقى فى الكهف لعام كامل، لا تـُخرجه سوى رقصة ديك يُذبح فوق أحجارالمدخل))وبعد أنْ يترسخ لدى القارىء أنّ الأسطورة مجرد حكاية، نكتشف أنّ زوجة رجب قد دخلتْ الكهف يومًا لتغرف الذهب، ولكن بريقه أنساها أنْ تخرج قبل انتهاء البخور، فأغلقتْ مغارة عليها. وبعد عام جاء الإعرابى فأخذتْ الابنة منه البخور ودخلتْ الكهف لتـُنقذ أمها، فوجدتها هيكلا عظميًا. فلما خرجتْ قبل انتهاء البخور، كانت عمياء مجنونة. أى أنّ رجب نفسه وزوجته وابنته جزءٌ من الأسطورة فى نسيج الرواية. فماذاعن البطل؟
بعد تخرجه من الجامعة وعمله معيدًا، بدأتْ أولى معاركه مع الفقر. تمسّح فى الأساتذة الذين تصوّرقدرتهم على انتشاله. صُدم فى البداية ((بحثتُ عن الأستاذ الذىكنتُ أريده. فلم أجد سوى قرد يرتدى الصديرى)) حاول الكتابة فى المجلات ((أكملأيامى بالكلام أو الاقتراض وكتابة كلمة هنا أوكلمة هناك كى أحصل على قروش مهينة، تُشعرنى بضآلة قدرى ولاجدوى كل شىء حولى)) فى هذه الفترة يُحدد هدفه ومصيره. ويحدث التحول المهم فى حياته ((كان طابورالنمل قد بدأ يزحف خارجًا من مصر. فى كل يومأسمع عن زميل أو صديق خرج فى إعارة أومجموعة قفزتْ على ظهر طائرة. تنتابنى نوبات طويلة من الغثيان أعالجها بالجوع أوبالنوم الطويل. أو بالانغماس فى علاقات مع بغايا أشد فقرًا منى. أيامى كانت دهاليز سوداء، يُفضى أحدها إلى الآخر، وتنتهى جميعًا إلى حقيقتيْن: فقرى والكلمات الجوفاء)) وكان السفر هو المخرج، فتعمّد الابتعاد عن صديقه عبدالله الجمّال، الصديق الوحيد الذى يعتزبصداقته. المهتم والمهموم بمصر. يُحدّثه عن النيل والماء والعطاء ويكتب قصصًا جيدة ((لكنها ككل شىء حولى، لاجدوى منها ولاتــُـضيف جديدًا)) عندما صارحه بفكرة الهجرة قال له ((إنّ الوقت مازال مبكرًا لبيعالنفس والأفكارمقابل بعض الدولارات)) فضحك البطل هازئًا وشحذ كل أسلحته لدخول الكهف وغرف الذهب ((لم تستغرق مؤامراتى الصغيرةأكثرمن شهور. توقفتُ عن رؤيته وصرتُ أتهرب من لقائه. فى صحوة- كأنها حلاوة الروح–بدأتُ اتصالاتى هنا وهناك. هنا مع أستاذ كبيرطيب ما زالتْ عنده فسحة الروح والوقت،كى يرى هموم جزء صغيرمثلى. وهناك زميل لى يُحاول أنْ يشق طريقه ويُدعّم موقفه. بعد شهورمن الضنى والسعى والاقتراض والاستعداد والجرى فى المكاتب والقنصليات وعلى أبواب الداخلية والسفارات، صارعتُ مواسير الرصاص اللين التى التفتْ حول رقبتى وصدرى.صرختُ فى أحلامى مقاومًا الغرق والاختناق. صليتُ لربى كثيرًا وكفرتُ بكل ما كنتُأحلم به من أحلام. شحنتُ كتبى وأوراقى لكى تـُدفن فى (كفر شوق) وأنا أنتظر الختم الأخيرعلى الورقة الأخيرة، أصابتنى حمى عنيفة وارتفعتْ درجة حرارتى فأجلتُ سفرى لأيام ثلاثة. أمضيتها فى هلوسة وسافرتُ وفى رأسى دوار. لم أنظر بعدها خلفى، فقدغرقتُ فى وطنى الثانى))
يتردّد تعبير(الوطن الثانى) أكثرمن خمس عشرة مرة على لسان البطل بلذة مرضية. لقد دخل كهفــًـا حقيقيًا وجمع ذهبًا حقيقيًا ولكن أى ثمن دفع؟ جامع المالمثل جامع أعقاب السجائر يشعر دائمًا بضآلة ما جمع مهما كثر، فيجرى إلى كل مكان وأىمكان. فالدكتور فكــّـار يكتفى بعمله بجامعة (دلوك) فمرتبه لم يعد يعنى له شيئا((فقد شققتُ طريقى فى مجال التأليف والترجمة والتوضيب والإعلان والنشر. صاردارىدكانى ومعارفى زبائنى ومن يُحبوننى طريقــًـا لى)) ولا يكتفى بذلك قط وإنما يتعامل مع المرتشين. وأصبح بيته فى (دلوك) مكانًا يجتمع فيه القوادون وكاتبو التقاريروالمرتزقة((الشعرالذى يُكتب فى وطنى الثانى. والقصص والمقالات، كانت تصب كلها عندى بصفتىصديقــًـا للجميع وأستاذًا متنورًا للغة العربية. كنتُ أرى فى هذه المواد يأسى واحباطى وقلة حيلتى وهوانى على نفسى وعلى الناس. يكتبون شعرًا كأنهم يستمنون.يُصارعون معارك وهمية لكى يرفعوا حجابًا مرفوعًا ويتكالبون على تغطية عورات وفروجداعرة. ويتمسّكون بايقاع وهمى سخيف يقودهم إلى ضلال))
هذا البطل يهذى بهلوسات السقوط كثيرًا، مثله مثل زوجة رجب بائع الدوموالأسطورة، بعد أنْ تأكدتْ من إغلاق الكهف عليها وأنّ لا أمل فى النجاة. هذا البطل–أيضًا– مثله مثل أى إنسان أسرته الأسطورة طفلا وجذبه الذهب رجلا. ولكنه بعد أنْ تغلغل (اللا أمان) حتى نخاع الروح، بعد أنْ تأكد من أنه يموت كل يوم مُختنقا بذهبه، فإنه يحن إلى الخروج من الأسطورة، من الواقع الكابوسى إلى شط الأمان، حيث الشمس والخضرة.
هذا البطل المسحوربذهب ال (دلوك) التى يعتبرها وطنه الثانى دون أدنى إحساس بالحرج من الدونية والتدنى، هونفسه الذى وصف (وطنه الثانى) قائلا ((منفاى الاختيارى الجميل، المليىء بالنقود والزوايا الزجاجية ورائحة الرمل والنفط والرجالالمُعلبين المصبوبين فى جلابيب بيضاء نظيفة. أحبائى وأشقائى ولكننى لا أشتاق إليهم ولا للمكان. الشوق لكفر شوق وحدها. قريتى المستحيلة. التى لم يعد لها وجود. أخاف أنْأفكرفى ذلك المكان الذى أعيش فيه الآن. كل الأشياء هناك تبدو غير حقيقية مؤقتة: بيتىالخالى أوالمليىء. الجامعة فى الظهرأوليلا. الشوارع الخالية الواسعة النظيفة.المدينة المُنظمة. ملايين الريالات والدينارات والدولارات. بلاد هى وطنى الثانىكما أقول دائمًا فى المحاضرات. لكنها ليستْ بلادًا. لا أعرف إنْ كانت لهم أغانى غيرتلك التى تصرخ بها أجهزة التسجيل. كانت لهم أغانى بالقطع. بالضرورة. بلادي ستْوطمستها الرمال والنقود والنفط. رصفوا فوق بلادهم طرقا طويلة وكبارى وعنجهية فارغة. هل هناك حوارى وأزقة وكفور، وفلاح على رأس غيط وعامل مُتحمس أخرق وعذراءعلى ترعة وشمس فى رأس غابة نخيل وشهداء وكنائس ووطن يبكى؟))
فى هذا المقطع المهم وضع الكاتب بطله فى مواجهة حضارية: حضارة الزراع وحضارة الرعاة، حضارة المصرى أول من اكتشف الزراعة وأدواتها وهذب النيل وحوّله منأحراش ومستنقعات إلى صورته الحالية، فعرف الإستقرار، وبالإستقرارتواصلت مسيرة مجمل البناء الحضارى الذى استفاد منه العالم أجمع، وذلك فى مواجهة الرعاة. ولكن وعى البطل بذلك هو وعى المُحتضر المُشرف على الموت ولايزال به إدراك أنّ ثمة حياة خارجه. ويأتى الفصل الأخير ليُحكم إغلاق الدائرة. ففى نهاية الإجازة قرّرالبطل العودة إلى (الدلوك) فى إعارة إلى الأبد، أى أنه يدخل الكهف مختارًا كما دخلته زوجة رجب ((ذاهب لكى أعمل فى صف طويل من العبيد المُقيّدين من رقابهم وأرجلهم)) مُدركــًا أنه سيُحتجز هناك مثلها وتكون (الدلوك) هى المقابل الرمزى للكهف. وزوجةرجب المُتحجرة فى الكهف هوالوجه الآخر لتحجرالبطل.
وتترك الرواية علامة استفهام: فالبطل يتهم زوجة رجب فى شرفها. وفى ليلة الزفاف يكتشف (أى البطل) أنّ زوجته ليست بكرًا. وطوال الرواية ينعتها بأشنع الصفات.بينما نكتشف فى النهاية أنّ لها ملمحًا إنسانيًا وبُعدًا اجتماعيًا، يجعلها أكثر إنسانية منه. تلك الزوجة هى التى رفضت أنْ تستمر معه فى جحيم (الدلوك) وألحّتْفى طلب العودة إلى مصرفرفض البطل وعلق على ذلك أنّ الله راضٍ عنه ((وأول دليل على رضاه أنه خلصنى من تلك الزوجة التى كانت تريد أنْ تسحبنى إلى قاع هذه المدينة العقيم))(أى القاهرة) ويبقى السؤال: إذا كانت تلك الزوجة هى التى حاولتْ إنقاذ زوجها والخروج من جحيم (الدلوك) فلماذا قدّمها الكاتب – على لسان بطله- فى صورة العاهرة؟عند هذه المنطقة نكتشف أنّ ثمة تناقضًا ملحوظـًا فى رسم شخصية الزوجة. فالزوج يكتشف ليلة الزفاف إنها ليست بكرًا. ثم يُقدّمها الكاتب على لسان البطل فى صورةالعاهرة، وبالتالى يترسّخ أو يترسّب لدى القارىء كراهيته لهذه الزوجة ونفوره منها.ويأتى التناقض عندما نرى هذه الزوجة (غيرالعذراء فى ليلة الزفاف والعاهرة) هى التىتلح على زوجها فى طلب العودة إلى مصر، وهى التى رفضتْ أنْ تستمر معه فى جحيم تلك الدولة التى يُسميها (دلوك) فهل تستحق الكراهية أم التعاطف معها؟ والتناقض يتمثل كذلك– فى ضوء علم النفس الاجتماعى– أنّ هذه الشخصية لو أنها عاهرة فعلا لفضّـلتْ(بل وشجّعتْ) زوجها على الإستمرارفى جحيم الغربة طالما أنهما (هى وهو) يحصلان على الثراء المشبوه، الثراء الذى يتم على حساب القيم الإنسانية النبيلة (وهوما أقرّبه البطل) وهوالثراء الذى يسيل له لعاب أىعاهرة لا تـُراعى أية قيم نبيلة وجميلة. ولأنّ تلك الزوجة لم تفعل ذلك، وإنمافضّـلتْ العودة إلى مصرورفضت الثراء المشبوه، فيكون من الطبيعى أنْ يشعرالقارىءأنّ تلك الزوجة أكثرحرصًا على المعانى الحقيقية للشرف من زوجها الذى يتــّهمها بالعهر، خاصة وأنّ ذلك الزوج وصف مدينته الأصلية (القاهرة) بالعقيم وأخذ قرارهالنهائى بالعودة إلى (دلوك) فى إعارة إلى الأبد.
لعلّ هذا التناقض فى رسم شخصية الزوجة سببه أنها تـَرِدْ على لسان البطل عفو الخاطر، وفى صيغ إنشائية تقريرية، ولم يكن لها وجود ملموس على صعيد التطورالدرامى بصفتها شخصية إنسانية، بكافة أبعادها النفسية والعقلية. ولوأنّ هذا حدث (أىا لاهتمام بهذه الشخصية دراميًا) لكانت الموازى الموضوعى فى محاكاة الأسطورة. وكانت هى التى أنقذت زوجها من الدخول إلى الكهف الاختيارى (الإعارة الأبدية) فى ذلك البلد الذى لايعرف شعبه الغناء وليس به فلاح على رأس غيط أوعامل متحمس أوعذراء عل ىترعة. حتى البكاء (وهى خاصية المشاعر الحية المُتفاعلة. وهى عكس المشاعرالمُتحجرة) فإنّ ذلك البلد الصحراوى لايعرف خاصية البكاء. وهى صورحقيقية يجترها البطل ويعترفبها بعد أنْ عايشها ولمسها بنفسه وأقرّبها. وبالرغم من هذا الاعتراف فإنه يختار قيم البداوة والتصحر، ويرفض قيم مجتمع الحضارة التى يعترف بأنه سوف يفتقدها إلى الأبد عندما كرّر شوقه إلى (كفرشوق)
وهنا يشعرالقارىء بأنّ الكاتب لم يُعمّق ذلك البُعد الدرامى المهم. ذلك البُعد الذى يتمثل فى الصراع النفسى والعقلى داخل بطل الرواية. ذلك الصراع الذى يتلخص فى لحظة الاختيار، والوصول إلى القرار النهائى: هل يعود إلى (وطنه الثانى)بقيم البداوة المُعادية لقيم التحضر، أم يبقى فى وطنه الأول (الأصلى) الذى يشعرفيه بالدفء الإنسانى الذى افتقده فى الغربة؟ لقد اختارالعودة إلى كهف الغربة. لماذا؟هل لأنه شخصية انتهازية يسعى إلى الثراء ولو كان غير مشروع؟ أم لأنّ وعيه المعرفى بحضارة جدوده اقتصرعلى قشور تلك الحضارة (فلاح على رأس غيط ، وعذراء على ترعة إلخ)وأنه لم يع أنّ حضارة جدوده أعمق من ذلك بكثير. وأنها حضارة المعرفة والفنون والعلوم والحكمة والتعددية، وبالتالى لم يُدرك الفارق بين أنساق القيم التى تولد تْعن هذه الحضارة. وأنساق القيم التى تولدتْ عن مجتمع (الدلوك) المغلق المُعادى للفنون وللعلوم وتنوع المعرفة. أى تلك الأنساق التى تتسم بالأحادية وشيوعالمُحرّمات.
هذا الصراع الداخلى لم يُعمّقه الكاتب. وجاء اختيارالبطل (العودة النهائية إلى قيم البداوة) ليُشكل علامة استفهام: لماذا هذا الاختيار؟ وتزداد صعوبة الاجابة كلما تذكرنا إصرار البطل على وصف بلد الغربة بأنه ((وطنه الثانى))
وبالرغم من تلك الملحوظات وأيًا كانت التفسيرات المُتعدّدة لاختيار البطل، يبقى للرواية ذلك النسيج الجميل المغزول من الخيال والواقع. وأنّ الأسطورة– وإنْ كان لها فى الأصل ظل من الواقع، فإنّ الواقع الكابوسى المُعاش أكثر بشاعة من أسطورةالكهف ورقصة الديك المذبوح.
***