القاهرة 22 سبتمبر 2017 الساعة 11:05 م
د. هويدا صالح
قالت بأسى، ويصوت حملته كل التعبيرات الدراماتيكية اللازمة: لسنا مثقفي النخبة، النجوم الذي يتم تصديرهم،ليمثلوا الثقافة المصرية في المحافل الدولية، هؤلاء الذين نالوا كل الجوائز، وتُرجمت أعمالهم، وصاروا نجوما لأنهم سبحوا بحمد القائمين على المؤسسة الرسمية، وقدموا قرابين النفاق اللازمة، ولا نحن كذلك من أدباء الأقاليم، هؤلاء المهمشين الذين نسيتهم المؤسسة طويلا، وحين عادت بثوب ثوري جديد قررت أن تسترضيهم بإدارة نشر خاصة، ومؤتمرات يجتمعون فيها ليجتروا نفس الكلام القديم عن المركز والهامش، وهوكلام لم يعد دقيقا، لأن فضاء الإنترنت أتاح للجميع فرصا متساوية للتواجد، ولم نعد أسيري هذه الثنائية.
ثم استدركت كلامها وقالت بعد تنهيدة طويلة، يوجد بين هؤلاء وأولئك مئات بل آلاف الأدباء والشعراء والمثقفين لا يشعر بهم أحد، ولا يحاول أن يستقطبهم أو يسترضيهم. إننا أنا وأنت من هؤلاء، لسنا مثقفي النخبة، ولسنا كذلك مثقفي الهامش. لقد استطاع المركز أن يهمشنا، لأننا لا نجيد النفاق. كما أنه لا يعتبرنا من الهامش، فنحن حتى لا نتمتع بميزات هذاالهامش.
تأملت كلامها وأنا أعي أن المؤسسة الرسمية منذ عصر حسني مبارك وحتى الآن تصر على التصنيف والتنميط، وتعمل بسياسة أهل الثقة،لا أهل الخبرة. حتى حين تضع المؤسسة الرسمية استراتيجية ثقافية للثقافة المصرية تذهب إلى أهل الثقة، تذهب لما يسمى بلغة السياسة بالحرس القديم. بعد الثورة طُلِب من واحد مثل السيد يس أن يضع له استراتيجية ثقافية. هل يصلح السيد يس وأمثاله ممن فشلوا طوال هذه السنوات في النهوض بالثقافة المصرية، ووصل المجتمع لما وصل إليه من انهيار حقيقي ليس للمنظومةالثقافية فقط، بل للمنظومة الثقافية والقيمية حتى وصلنا لهذا الفكر الارهابي التكفيري الذي يسيطر على وعي الشارع المصري، هل يصلح هؤلاء الذين فشلوا في دورهم قديما أن يضعوا لنا استراتيجية ثقافية تحاول أن تنهض بالمجتمع المصري، وتراعي كل مكوناتهالثقافية المختلفة من حلايب وشلاتين وحتى السلوم وسيناء مرورا بكل ربوع مصر؟!
لقد سيطر هؤلاء على المؤسسة الرسمية مدة ثلاثين عاما أو يزيد، طوال حكم مبارك، وداهنوا التيارات الدينية المتطرفة، وأقاموامواءمات سياسية.رأى هؤلاء الانهيار الثقافى ولم يفتحوا فما أو بطالبوا باستراتيجية ثقافية لمواجهته خوفا من الخروج من حظيرة نظام مبارك وفاروق حسني.لماذا لا توكل المؤسسة الرسمية الأمر لمن هو أولى وأجدر به؟ لماذا لا تدع الأجيال الشابة التي هي صاحبة المستقبل وضع سياسيات ثقافية للمستقبل؟ لقد أفرزت ثورة يناير ومن بعدها 30 يونيه شبابا واعيا بآليات العملالثقافي، خرجوا للشارع لمواجهة استبداد مبارك، ومن بعدها خروجوا أيضا لمجابهة التطرف الديني الذي أحاط بنظام الإخوان، أليس الأجدر بالمؤسسة الرسمية أن تستعين بهؤلاء الشباب لوضع استراتيجية المستقبل؟!ألا تدرك وزارة الثقافة أن هناك مؤسسات ثقافية مستقلة ومثقفين مستقلين يمكن لهم أن يسهموا في وضع هذه الاستراتيجية الثقافية؟! هناك شباب يمتلكون وعيا متجاوزا من مثقفين وفنانين وأكاديميين وهؤلاء يستطيعون تحقيق عدالة ثقافية، دون أن تُفرض علينا بقرارعلوي يعيد إنتاج الاستبداد فى مجال الثقافة .
إن العمل الثقافي لايتحمل الفكر النخبوي، بل يحتاج إلى مسؤولين ثقافيين ميدانيين يعرفون عن حواري مصرونجوعها وقراها وريفها أكثر مما يعرفون عن الجلسات في القاعات المكيفة في المجلس الأعلى للثقافة.إن الدول التي صنعت مستقبلها وواكبت الطفرة المابعد حداثية العالمية لا تعتمد على الدولة في وضع ثقافتها، بل تعتمد على المؤسسات المستقلة،والمثقفين المستقلين، أما الدول ذات الفكر الشمولي هي التي تقوم فيها الدولة برسم السياسات، بل وإنتاج الثقافة، لذا لو أننا نريد ثقافة متجاوزة اللحظة التي تكبلوعينا على الدولة أن تدعم هؤلاء المستقلين، وتوفر لها الإمكانات المادية التي تساعدهم على إنتاج هذه الثقافة دون أن تفرضها من أعلى.
نادت وزارة الثقافة بالعدالة الثقافية، بل وأقامت ورشا لمناقشتها، وخرجت هذه الورش بأفكار من قبيل تضافر مؤسسات الدولة في صنع عدالة ثقافية تليق بمصر، بل وذكروا أنه من ضمن المؤسسات التي يجب أن تتعاون مع وزارة الثقافة: التعليم والأزهروالأوقاف، ربما كانوا محقين في ربط التعليم بالثقافة حتى يمكن تشكيل الوعي المجتمعي ومساعدته على الخروج من أسر التطرف الديني والأفكار الظلامية. لكن كيف يتخيل القائمون على الثقافة أن الأزهر والأوقاف يمكن أن ينفذوا أو يخططوالاستراتيجية ثقافية؟ لقد ثبت بما لا يدع مجالا للشك أن هذه الكيانات مفرخة كبيرةلإنتاج التطرف الديني الذي ينتج لنا أفكار الارهاب؟ هل يغيب عن الأذهان تلك الاحتجاجات الدامية التي قام بها طلاب الإخوان والسلفية في الأزهر بعد فض"رابعة " هل تتصور الدولة أن الأزهر الذي تم اختراقه من السلفيين والإخوان قادر على إنتاج ثقافة أو قادر على المشاركة في صنع عدالة ثقافية.؟!
إذا أردنا أن نضع استراتجية أو نحقق عدالة ثقافية علينا أن نبحث عمن يمكن أن يضع رؤى مستقبلية للثقافة المصرية تعيد لمصر قواها الناعمة بحق، ولا يقتصر الأمر على البروتكولات الشكلية. ثمة مثقفون مستقلون ينزلون الشارع ويذهبون إلى المدن النائية والقرى، يحاولون التواصل مع العامة وتوصيل الخدمة الثقافية لمن يستحقها، هؤلاء يمكن أن نطلق عليهم مثقفين ميدانيين وهم يختلفون بأي حال عن كهنة الثقافة الفاشلين في دورهم القديم. يجب أن نبحث عن المثقف الميداني لا عن النخبوي، المثقف القادر على تحقيق العدالة الثقافية، الذي يمكن أن ينزل الشارع ويتواصل مع الناس في أحياء الفقراء والمهمشين . لقد رأينا فعاليات" الفن ميدان" وسمعنا عن ورش ثقافية تشتغل على العمل الثقافي، وعن فرق مسرحية مستقلة أليس الأجدر بالدولة أن تستعين بهؤلاء لتحقيق العدالة الثقافية؟