القاهرة 19 سبتمبر 2017 الساعة 11:54 ص
تحدثت في مقال سابق عن الصندوق الأسود وكيف أن كلًا منا يحوي بداخله هذا الصندوق، المليء بالشرور والقسوة ولبذاءات، وسلوكيات الإنسان البدائي القديم، وأن شرط الحماية من تلك الوحوش التي ترعى بداخله، هو رؤيتها والاعتراف بها. أعود هنا إلى نظرية البرسونة والظل للعالم النفساني الشهير كارل جوستاف يونج، والذي أطلق على الصندوق الأسود الذي أتحدث عنه (الظل)، والظل لديه هو الجانب السلبي والمعتم من الشخصية. و البصيرة لا تتأتىّ إلى الشخص الذي لم ير ظله أو جانبه المعتم، الذي لم يسقط في جُبّ وجوده، ليس ثمة إنسان حقيقي، متحرك ومتغير وفاعل إن لم يكن له ظل يعرفه ويراه هو والآخرون أحيانًا. ولنتأمل قليلًا.. هل من الممكن أن نرى أى ظل إن لم يكن هناك على الأقل بصيص من الضوء؟
هذا ما أسميه البصيرة. والشخص الذي بلا ظل أو بشكل أدق، الشخص المقموع الظل ـ الذي لايسمح لظله أن يُرى ـ هو شخص معتم، كما أنه افتراضي بمعنى أنه ليس موجودًا بشكل حقيقي، يؤثر ويتأثر بما يعيشه، إن هو إلاّ صورة جامدة لاتتحرك ولا تنضج ولا تكبر مع الزمن، لا تستفيد من الحياة ولا
تفيدها.
هذا الجانب السلبي والمظلم إن لم أره وأتعرف عليه وأقبله، يظل موتورًا بداخلي، يهددني باستمرار ويمنع نموي النفسي. ولكن كيف نتعرف على ذلك الظل؟
هناك عدة معالم نستطيع بها أن نتعرف على ظلالنا السوداء، منها الغيظ والاشمئزاز، التهديد والاستفزاز الشديد، الإلحاح على ذكر شخص ما أو فكرة ما أو شيء ما، وبالطبع الأعراض العصابية للمرض النفسي، لكنني لن أتكلم هنا عن المرضى العصابيين، وسأكتفي بالحديث عن الأشخاص العادية.
الغيظ والاستفزاز:
هب أنه زارك الآن شخص لزج.. أطال بقاءه في بيتك وظل يطلب منك أشياءك دون أن يراعي احتياجك لها.. بماذا تشعر؟ سواء في تلك اللحظة أو عندما تقابله في الخارج فيلتصق بك، ويستمر في طريقته هذه. بالتأكيد سوف تشعر بغيظ يصل إلى حد الغضب، لماذا؟ لأنه بداخلك شيء من هذا لم تره. الحقيقة أنه كلما اغتظت وغضبت من سلوك ما، ينبغي أن تعرف أنه قد يكون بداخلك وقد قمعته عبر رحلتك في الحياة، لكنك لم تتخلص منه. إنه مقموع فقط ولا تراه فإذا رأيته عبر شخص آخر.. هددك وحركه بداخلك. أي أنه هدد ارتقاءك عليه.
أحد الأطباء النفسيين الذين أعرف حكاياتهم مع مرضاهم، كان إذا أتاه مدمن للعلاج وهو في بداية عمله كطبيب نفسي، يشمئز منه ويشعر بغيظ شديد، حتى أنه يمسك بنفسه كي لا يصفعه، وعندما سألته عن السبب، قال لي: "إن المدمن بالتحديد يهدد بداخلي تلك الاعتمادية والراحة وعدم المسئولية.. إنها الغيرة.. هو يعمل ما بدا له وأنا أكِدّ وأجتهد طوال الوقت كي أحمل إنسانيتي، فإذا ما جاءني هذا المدمن تحركت تلك المعاني بداخلي حتى وإن لم أدركها بعقلي، فهددتني ووترتني وأصابتني بالعدوان تجاهه، أما الآن وبعد أن اجتهدت مرة أخرى في أن أرى ظلي.. ذلك المخبوء عني طوال عمري.. لم أعد أتضايق أو أشمئز من شخص سادي أو مازوخي أو مثليّ أو مدمن يأتينى للعلاج، فبداخلنا جميعًا من كل تلك الأشياء وإن لم نرها ونقبلها لن نتجاوزها أو نسمو عليها بشكل حقيقي"
التهديد:
نستطيع أن نرى هذا التهديد النفسي في الأشخاص المتزمتين أخلاقيًا أو المتشددين دينيًا، فتلك التشنجات التي نراها على وجوههم وفي سلوكياتهم، إنما تدل على أنهم أشخاص مهددون من الداخل بالخطيئة، لم يتجاوزوها ويرتقوا عليها لأنهم لم يروها بداخلهم على الإطلاق، لم يعترفوا بها ويقبلوا بوجودها، لذلك هم لا يطيقون رؤيتها في الآخرين مما يصل بهم أحياناً إلى حد القتل،
"من كان منكم بلا خطيئة فليرجمها بحجر". هكذا يرى السيد المسيح الخطيئة بداخل كل إنسان ولابد من رؤيتها والاعتراف بها حتى يكون أكثر تسامحًا وقبولًا لأخيه الإنسان، فقيمة التسامح تكمن في تلك الفكرة.. بالاعترف بالظل، تكتمل الانسانية وتتسع.
أنا نفسي كلما رأيت تصرفًا أوغل صدري ووترني أعرف أنه كامن بداخلي، فتلك اللزوجة التي كنت أشمئز منها.. تذكرني بحالة الالتصاق التي كنت عليها، لكنني بعد أن رأيتها و قبلتها ومن ثَمَ غفرتها لنفسي، أصبحت أكثر احتمالًا لها وتسامحًا معها إن رأيتها في الآخَرين. من يقبل نفسه.. يقبل الآخرين، ومن يغفر لنفسه يغفر للآخرين. الآن أغفر للشخصية الملتصقة وأتفهم حاجتها إلى الاقتراب، أما الشخصيات المدعية، فلا أقبلها على الإطلاق، الادِّعاء أكرهه جدًا وأكره صاحبه.. هل أنا مدَّعية من الداخل؟ ربما.. ولكنني مازلت لم أر هذا الادِّعاء ولم أقبله في نفسي.. علني في يوم ما.. أراه وأكف عن الغضب من هؤلاء المدَّعين. أن ترى ظلك.. أن تكون أكثر تسامحًا وأوسع صدرًا واستيعابًا للآخر.
الإلحاح:
..الإلحاح من صور التهديد الأخرى للظل.. مثال ذلك الإلحاح على ذكر شخص ما، وحشر سيرته في كل مناسبة.
لي صديقة كانت تتحدث عن زوجها كثيرًا جدًا، وبشكل لا يطاق يذكرك بالوسواس القهري. فإذا وقفنا نطبخ سويًا ليس لها سيرة إلا هو، وإذا خرجنا إلى الشارع لاتذكر إلا اسمه، وإذا اجتمعنا مع غرباء تنتظر أي فرصة لتتكلم عنه. كنت أظن هذا حبًا جنونيًا وامتلاءً لا حدود له، مرت الأيام وخانها هذا الزوج، وهاهي تعترف لي أنها كانت طوال الوقت تتوقع ذلك، كانت مهددة بخيانته لها.
في الثقافة الشعبية يكره النساء من تتكلم كثيرًا عن الشرف، ذلك الحس الفطري الذي دلهن على أن هناك شيئًا ما تخبئه، أيضًا هؤلاء الذين يكلمونك عن الله دائماً ويحشرون أقواله وأقوال الرسول (ص) في كل تفاصيل الحياة بسبب وبدون سبب، ويتنطعون عليك بمحفوظات عن الصواب والخطأ، والحلال والحرام. أعتقد أن هؤلاء مهددون في عقيدتهم ولم يستقر الإيمان بداخلهم و لم يطمئنوا له. تقول الحكمة الصينية : "من يعرف الطاو لا يتكلم عنه".
ذلك الهاجس، وتلك الرغبة التي تستبد ببعض المتدينين، فيبالغون في الإعلان عن تدينهم، الذين يقرأون القرآن بصوت عال في المواصلات العامة. أو يرفعون أصوات الميكروفونات في الصلاة حد الضجيج والشوشرة، ويسدون الطرقات العامة، الذين يغالون في ملابسهم ولحاهم بل وعطورهم ليتشبهوا بالمؤمنين الأوائل. كل هؤلاء يعانون نوعًا من الوسواس، وعدم الطمانينية في علاقتهم بالله، إنهم لا يختلفون عن تلك المرأة التي تتحدث عن زوجها كثيرًا، وهو يشعرها بالتهديد.
المؤمن مطمئن ولا يحتاج الإعلان عن إيمانه بهذا الصخب، والمهدد بموضوع يظل يلح عليه حتى في أحلامه. لي صديقة حدثتني مرات عديدة، عن أنها ترى في أحلامها أن فاتتها الصلاة. المؤمن متسامح في خطيئة الغير، ولا يتأتّى الإيمان ـ في رأيي ـ إلا برؤية الظل، في كثير من قصص الأنبياء نراهم لم يبلغوا اليقين إلا بعد أن رأوا ظلهم: داوود وسليمان ويونس وموسى الذي رأي ظله بعدما وقع في خطيئة قتل المصري، فخرج هاربًا، وتاه في البرية، وجلس غريبًا بجوار الحائط يبكي ضعفه وهوانه: " ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ".
أما تهديد الطاقة البدئية فهو من أشد تهديدات الظل وأبشعها، والطاقة البدئية هذه هي السلوكيات والرغبات البدائية التي مارسها الإنسان منذ القدم ولم ينجح في التخلص منها والسمو عليها إلاَّ عبر رحلة طويلة من الارتقاء الإنساني.
يرى (يونج) أن السلوك البدائي والرغبات البدائية التي حرَّمها إنسان العصر الحديث مازال مطبوعًا في خلايا المخ، وقد جرب نظريته هذه على مجموعة من المرضى العقليين ليسمع منهم بعض الألفاظ من لغات بدائية قديمة لا يعرفون شيئًا عنها، أيضًا قام بعضهم برسم أشكال لأشياء ومعتقدات انقرضت في أزمان بعيدة. يدلل يونج على نظريته هذه ببعض الأحلام التي تأتي لأشخاص عاديين وبها من الرموز والأفكار والمعتقدات ما يعود إلى أزمنة موغلة في القدم لا يعرف الحالم عنها أي شىء. في رواية الشحاذ لنجيب محفوظ، بعدما سقط عمر الحمزاوي في اللاوعي، كان يهذي ويحلم بكائنات انقرضت، ورجال بدائيين يهاجمونه وأماكن صحراوية موحشة. كان يونج دارسًا لعلوم الأنثربولوجي والأساطير بشكل موسّع، ومن هنا كانت نظريته عن الطاقة البدئية المحبوسة بداخل كل إنسان بعدما أخفاها العقل الحديث.
ولكن ما هو مصير كل مكبوت؟
من العبث أن تخنق شيئًاً ما بداخلك.. فما من شيء في الداخل يتبدد ويفنى إلى الأبد مهما كان وضيعًا وبدائيًا ومخجلًا، وكلما أخفيته عن وعيك تضخم واستشاط وكأنه شخص بذاته من حقه أن يحيا ويتنفس ولو قليلًا ، ولو بجانب ضئيل منه، ولو تأملنا لرأينا أن هذا نفسه هو الظل الذي نتكلم عنه، لذلك فالحل لا يكمن في إخفائه أو عزله أو التنكر له بل في رؤيته والتعرف عليه وقبوله وترويضه.. مجرد رؤيته وقبوله يهدئ من ذلك الصراع بيني وبينه، السماح له بأن يخرج ويتنزه قليلًا ثم يعود إلى بيته ليهدأ وينام، وكلما اعترفت به وتصالحت معه، كلما أمسكت بزمامه كما الوحش المُروّض تمامًا.