القاهرة 19 سبتمبر 2017 الساعة 11:23 ص
بقلم :طلعت رضوان
ساعدتْ بريطانيا ثم أميركا الصهيونية فى إحتلال فلسطين. ولم يكتف اليهود بذلك وإنما مارسوا أبشع أنواع العنف والقتل وتشريد الفلسطينيين. وشنوا الحروب ضد شعوب لبنان ومصروالأردن وسوريا، وهذا الموقف العدائى من الشعوب المُـتحضرة المستقرة، كان الدافع إلى نقد التراث العبرانى. فيرى توينبى أنّ ((اليهودية هى أقبح أمثلة عبادة الذات)) وبعد مذبحة ديرياسين وجّه نقدًا شديدًا ضد الإسرائيليين وقال ((إنّ الدرس الذى استخلصه اليهود من مواجهتهم مع النازى قادهم، لا إلى تجنب الجرائم التى ارتكبها النازيون ضد اليهود، بل إلى تقليدها)) ما العالم الكبيرفرويد فقد وصف (رغم أنه موسوى الديانة) إدعاء اليهود بأنهم شعب الله المختاربأنه خرافة. وقال فولتيرعنهم ((شعب جاهل ومتوحش. زاول لمدة طويلة أبغض أنواع الخرافات. ويحمل
كراهية لاتعادلها كراهية لكافة الشعوب التى تسامحتْ معهم))
ونظرًا لكثرة القتلى من الإسرائيليين فى الحرب ضد الفلسطينيين، نشأتْ حركة أدبية معادية للصهيونية وللتوسع، كما نشأتْ حركة التنويراليهودية (الهسكالاه) التى استهدف مؤسسوها القضاء على نظام الجيتو. أى القضاء على العزلة التى فرضها اليهود على أنفسهم فى المجتمعات التى عاشوا فيها. وأنّ الحل هوالاندماج، بحيث يكون التركيزعلى صفة المواطنة وليس على أساس الانتماء الدينى. وبالفعل حققتْ هذه الحركة نجاحًا ملحوظــًا فى البداية لدرجة أنْ ((تفجّرتْ فى كل ناحية هتافات مثل ((لنخرج من الجيتو. لنقترب من الشعوب)) ورأوا أنّ النجاح الحقيقى لن يتحقق إلاّ((إذا تمكــّـن اليهود من اكتساب مُـقومات الحضارة الغربية العلمانية)) ولذلك وجّهوا سهام نقدهم إلى التراث الدينى اليهودى الغارق فى الغيبييات واللاتاريخية. وحذفوا كل الصلوات التى تدعوللعودة إلى صهيون أوإحياء مملكة إسرائيل.
نجحتْ حركة التنويرفى أوروبا الغربية، وجوبهتْ بالرفض فى أووبا الشرقية. رغم أنّ حركة التنويراعتبرتْ الدين اليهودى بصرامته وقيوده المتزمتة ضد سعادة الإنسان. وكتب الأديب (يهودا ليف): ((كن يهوديًا فى بيتك وإنسانـًا خارج بيتك)) ثم جاءتْ الحركة الصهيونية ووظــّـفتْ الدين من أجل العودة إلى أرض الميعاد. وقاومتْ فكرة الاندماج. وروّجتْ وموّلتْ تهجيراليهود من أوطانهم، ليحتلوا فلسطين.
ولأنّ الشخصية اليهودية بلا جذورلذلك حدث ولع لديهم بالآثار. والسبب محاولة الترويج بأنّ لهم جذورتراثية. ولاغرابة فى أنْ يكون أشهرالهواة هوموشيه ديان. وقال يجال يادين رئيس الأركان الإسرائيلى الأسبق ((لقد أصبح الإيمان بالتاريخ لدى الشباب الإسرائيلى بديلاعن الدين. إنّ علم الآثارالوطنى يُـكرّس جهوده لتحقيق الماضى العبرى للبلاد)) وذكرد. رشاد عبدالله الشامى فى كتابه (الشخصية اليهودية الإسرائيلية والروح العدوانية) الصادرعن سلسلة عالم المعرفة الكويتية- يونيو1986- ص126، 160) أنّ الإهتمام بعلم الآثاربدأ عام 1920. وفى عام 1947 كان علم الآثارقد نما تمامًا. ويصل الأمرلدرجة أنْ يستعيريادين عبارة نابليون عندما وقف أمام الأهرام فى مصروقال يُخاطب جنوده ((إنّ أربعين قرنـًا من التاريخ تتطلع إليكم)) يستعيريادين هذه العبارة وهويتمنى لوأنّ نابليون قالها عن تاريخ إسرائيل.
ولكن هذا الولع بالآثارالذى وحّد الإسرائيليين، لم يمنع التمزق داخل الشخصية اليهودية.
وقد عبّرتْ عالمة النفس الإسرائيلية (عاميا ليبليخ) عن هذا الواقع بقولها ((إنّ الحرب فى إسرائيل جزء من الماضى ومن الحاضرومن المستقبل. ويسأل الإسرائيلى نفسه: هل يُسعدنى الحظ فى الحرب القادمة وأنجوكما نجوتُ فى الحروب السابقة؟)) أما الأديب الإسرائيلى ساميخ يزهارفقال ((كان الإحساس التراجيدى لأبناء هذه الأجيال، هوأنّ الحروب قد فــُـرضتْ عليهم دون أن يُعطى لهم خيارأوسيُعطى لهم)) وعن هذا الكابوس الوجودى الذى حوّل المجتمع الإسرائيلى إلى ثكنة عسكرية، كتب الشاعرالإسرائيلى يعقوب باسار((الحرب المقبلة.. نــُـنشئها.. نُربيها.. ما بين حجرات النوم.. وحجرات الأولاد)) أما الأغنية التى شاعتْ بعد حرب1967فهى التى كتبها الشاعرالإسرائيلى حانوخ لفين ((حين نتنزه نكون ثلاثة: أنا وأنت والحرب القادمة. وحينما ننام نكون ثلاثة: أنا وأنت والحرب القادمة))
وسط هذا المناخ المؤسّس على شريعة القتال والطمع فى أراضى الشعوب المستقرة منذ آلاف السنين، تبرزأصوات إسرائيلية راغبة فى تحقيق سلام يضمن الاستقرار. وأنّ هذا الاستقرارلن يتم إلاّبعد الاعتراف بالشعب الفلسطينى. وتمكينه من إقامة دولته المستقلة بعيدًا عن أى تحرش إسرائيلى. من بين هؤلاء من يمتلك ضميرًا حيًا فيكتب مؤكدًا أنّ ((الوطن الإسرائيلى لم يقم لابالحق ولابالتاريخ ولابالهرب من الاضطهاد، بل بالعنف وحده. نعم بالعنف والدم))
وقد جسّـد الأديب الإسرائيلى (يوسف لوايدور) فى قصة (يوآش) صورة (ابن البلد) أى الإسرائيلى الجديد، الذى يتناقض تمامًـا مع (اليهودى الجيتوى) وذلك من خلال سلوكياته وقيمه وهيئته العامة، فكتب أنّ (يوآش) جعل نفسه غريبـًـا منذ طفولته. فعندما كان فى الثالثة من عمره، كان يحب الخروج فى الأيام التى يهطل فيها المطر(فى الشتاء الفلسطينى) وحينما كبرقليلا كان يركض لأيام كاملة بجوارالمستنقع خارج المستعمرة التى يقيم فيها مع والديه. وفى بعض الأحيان يخرج إلى البيارات والحدائق الفلسطينية. وكان تعليق د. الشامى أنّ شخصية (يوآش) تشبه شخصيات عديدة فى الأدب الإسرائيلى عن (المواطن العبرى الجديد) كما ورد فى أدب (ميخا يوسف) و(يوسف كلاوزنر) و(شاؤول تشرنحوفسكى) إلخ (ص70، 71)
وعندما طالب التيارالدينى الإصولى الإعفاء من الخدمة العسكرية ((للتفرغ للعبادة ونشرالدين اليهودى)) قال بن جوريون ((إننا نريد أمة من الجنود، لا أمة من الكهنة))
وكتب الأديب الإسرائيلى (عاموس عوز) كثيرًا عن الشباب المتدين ووصفهم بأنهم ((حمقى ومجانين تحرقهم أنوارالنبوءة. أولئك الذين يعتقدون أنهم خـُـلقوا ليصلحوا العالم. وكل واحد منهم يعتقد أنه هونفسه المسيح المنتظرالذى سيُخلص اليهود من آلامهم. وفى سبيل هذا الاعتقاد فهوعلى استعداد دائم لصلب معارضيه، ليُصلب هونفسه فى النهاية)) إنّ الأسى فى كلمات هذا الأديب من تغلغل الأصولية الدينية، يستدعى إلى الذاكرة كما قال د.رشاد الشامى النظرة التى سادتْ الدولة الإسرائيلية فى سنواتها الأولى، وكانت ترى أنّ الدين أمرمتخلف ولابد من محاربته. ولعلّ هذا ما دفع الصحفى الإسرائيلى شالوم كوهين أنْ يناقش خطورة الأصولية الدينية التى تـُهدد المجتمع الإسرائيلى فى كتابه (الرب برميل بارود– إسرائيل ومتطرفوها) وهوالكتاب الذى قام بعرضه المفكرالمصرى إسماعيل صبرى فى صحيفة الأهرام عدد 15/ 4/ 1990 ص5.
وبفضل الإيمان بالفكرالعلمانى وبفضل حركة الأدب المعادية للصهيونية وللتوسع الإسرائيلى، خرج الشباب الإسرائيلى فى مظاهرات لتأييد الرافضين للخدمة العسكرية فى الأراضى الفلسطينية المحتلة (أهرام 11 يناير 2004 ص4) ونظـّـم إسرائيليون وصل عددهم إلى أكثرمن 400 ألف مظاهرات ضخمة عام 1982 عقب غزوإسرائيل لأراضى الشعب اللبنانى.
وحذّركثيرون من الكتاب الإسرائيليين من أنّ ((إسرائيل قد تتطورإلى دولة تفرض فيها المؤسسات الدينية والدوائرالدينية طابعها بشكل عام فى مجالات الحياة)) وكتب الباحثان (موشيه ليسك) و( دان هوروفيتس) أنّ ((أخطرصدع يهدد الهوية الثقافية للمجتمع الإسرائيلى هوالصدع الدينى/ العلمانى. وهومن شأنه أنْ يزداد حدة فى المرحلة المقبلة أكثرمن أية مرة فى الماضى. وأنّ الأصوايين اليهود أصبحوا دولة داخل الدولة. وبالتالى فإنه يوجد فى إسرائيل شعبان لايمكن أنْ يعيشا معًا. والخطرالذى ينطوى عليه هذا الأمرهوإدخال الدين فى السياسة)) وهذا الإيمان بالفكرالعلمانى جعل (ألوميت شالونى) عندما كانت وزيرة التعليم ترفض تخصيص أية مبالغ من ميزانية الوزارة للمدارس أوالمعاهد الدينية. بل ورغم أنها وزيرة صرّحتْ بأنّ الجولان أرض سورية.
كما أنّ عددًا كبيرًا من الأدباء الإسرائيليين أعضاء فى حركة السلام الآن. ومع إقامة الدولة الفلسطينية، ومن أبرزهم الأديب (عاموس عوز) الذى قاد (خلال الاعتداء على لبنان عام1982) مظاهرة ضد مناحم بيجين مذكرًا إياه أنّ هتلرقد مات. ونشرقصة قصيرة فى مجلة اليوم السابع (الفلسطينية) تدورحول أم تشعرأنّ إحتلال القدس فى حرب67 لايساوى إصبعًا واحدًا من أصابع ابنها الذى فقدته فى تلك الحرب.