القاهرة 19 سبتمبر 2017 الساعة 10:48 ص
بقلم :محمد أبو رحمة
العلم و المعرفة فى مصر - 2 القادم فى سلام " ام حتب " ذكرنا فى مقال الأسبوع الماضى " تحوت " فيلسوف مصر و عالمها الأعظم الذى نسبت إليه نصوص دينية و علمية لا تحصى وهو صاحب الشهرة الطاغية عبر كافة عصور الحضارة المصرية وبعد ذلك أيضاً ، إلا أن تحوت يظل رغم كل ذلك شخصية اسطورية ، لذلك حرصت هذه المرة على تقديم شخصية علمية من أرض الواقع أو كما يقال شخصية من " لحم و دم " لنؤكد على المكانة
الرفيعة الراقية الجليلة للعلم و العلماء فى مصر . إنه : " ام حتب " أى القادم فى سلام باللغة المصرية . وُلد " ام حتب " فى إحدى ضواحي العاصمة منف تدعى " عنخ طوي " أى حياة الأرضين لأبٍ كان مهندساً معمارياً ، و فيما يبدو أن " ام حتب " ورث عن والده هذه المهنة إلا أنه تفوق عليه و على جميع من عملوا فى هذا المجال حتى صار يعرف فى التاريخ بأنه أول مهندس معماري فى التاريخ الإنسانى و قد دفعته قدراته العلمية الفذة و موهبته الفائقة إلى ارتقاء أرفع المناصب و هو مازال شاباً و ظل يرتقى سلم المجد العلمى حتى رفعه الشعب ( المصري ) إلى مصاف الأرباب بعد وفاته بمائة عام تقريباً و شيدت له المعابد و المقاصير و كانت تُقدم له الأضحيات .
كما تذكر بردية تورين " ام حتب " بأنه ابن بتاح رب منف و راعى الفنانين و الحرفيين وهو ما يعد دليلاً آخر على رفعة مكانة العلم فى مصر آنذاك . وقد حمل " ام حتب " ألقاباً عديدة نذكر منها : الكاهن الأعلى لمصر السفلى ، الكاهن الأعلى لعين شمس ( عاصمة العلم فى العالم القديم ) ، الوزير ( رئيس الوزراء ) ، الأمير الملكى ، تحت رأس الملك ( أى الذى يليه ) حامل الأختام ( الملكية ) ، مدير البيت العالي ( القصر الملكى ) مدير الأملاك ، المشرف على الكبار ، كما صار راعياً للمهندسين و الكتاب و الحكماء. وقد نال القادم فى سلام " ام حتب " كل هذه الألقاب و غيرها عن جدارة فقد برع ككاتب و شاعر و كاهن و فلكى و مهندس و طبيب إضافةً إلى مكانته السياسية كمستشار للملك زوسر ، أول ملوك الأسرة الثالثة من الدولة القديمة ( 2700 قبل الميلاد ) الذى كلف وزيره المهندس امحتب ببناء مقبرة ملكية له ، وهى المقبرة التى تعرف الآن بهرم سقارة المدرج الواقع جنوبى مدينة الجيزة بحوالي عشرين كيلومتراً.
و كان إسلوب بناء المقابر السائد حينذاك هو ما يعُرف بـ " المصطبة "، وهى كلمة مصرية أصيلة مستخدمة حتى الآن . و هنا تتجلى عبقرية " ام حتب " فى فن الهندسة فقرر الأستغناء عن استخدام الخشب كدعامات لجدران المقبرة لأول مرة فى التاريخ ، فدخل التاريخ كأول مهندس يشيد مبنى من الحجر الخالص . وبدأ امحتب تشييد المقبرة الملكية بحفر بئر على عمق 28 متراً فى باطن الأرض ، ثم بنى غرفة للملك من الجرانيت الأحمر مساحتها 49 متراً و غرفة أخرى كذلك و ممرات عديدة بها غرف أخرى ثم غطى ذلك بما يعرف بالمصطبة ثم أخذ يزيد فى مساحة المصطبة و يرتفع بها درجات حتى أتمها ست مصاطب بشكلها المعروف و التى بلغ ارتفاعها 62 متراً ، أما طول قاعدة ما يعرف الآن بالهرم المدرج فيبلغ 125 متراً و عرضها 109 أمتار . كان هذا العمل المعمارى الجبار هو الأول فى تاريخ مصر و العالم الذى شيد على هذا النحو . وجدير بالذكر أن " ام حتب" ربط بين هذا الشكل الهرمى وبين التل الأزلى الذى برز من الماء " نون " لتبدأ به الحياة على الأرض وهكذا يكون " ام حتب " قد ربط بين الدنيا و الدين و الموت و البعث
. أما شهرته كطبيب فقد جابت آفاق العالم القديم فقد كان رباً للطب قبل ابيقراط بما يربو على ألفى عام ، كما قدسه الأغريق كرب للطب أيضاً . و قد خلف " ام حتب " نصوصاً عديدة فى علم الطب و منها إحدى البرديات التى وصف فيها تسعين عملية جراحية وهو ما ستناوله بشىء من التفصيل فى المقال القادم عن علوم الطب فى مصر . و من أعمال " امحتب " الجليلة كان إنشاؤه لمدرسة الطب بالعاصمة منف.
و قد امتد العمر بهذا العالم المصري العظيم حتى أنه عاصر أربعة ملوك و دفن بسقارة ، إلا أنه لم يعثر على مقبرته حتى الآن . و لم يبق من آثار " القادم فى سلام " إلا بعض التماثيل القليلة يظهره أحدها برداء بسيط بينما صور فى تمثال آخر على هيئة رب بلحية ممسكاً بالصولجان و علامة الحياة عنخ كما يعرضه تمثال آخر كرجل حكيم جالساً على مقعد واضعاً على ركبتيه إحدى البرديات ، وصور على جدار معبد كوم امبو ( بمحافظة أسوان ) جالساً على عرش عال و قد ركع أمامه أحد القياصرة الرومان الذى ساهم فى تشييد هذا المعبد ، و رُسمت بجواره بعض الأدوات الجراحية التى كانت تستخدم حينذاك . و قد ظل " ام حتب " أشهر الشخصيات المصرية التى تنتمى إلى الشعب وليس الأسرة الملكية ولذا يُعد نموذجاً لكل من يطمح للوصول إلى قمة المجد من خلال اجتهاده العلمى فقط ، كما يُعد ذلك دليلاً على رسوخ مبدأ تكافؤ الفرص فى المجتمع المصري فى هذا الزمن البعيد للغاية .