القاهرة 12 سبتمبر 2017 الساعة 02:41 م
يقول المثل المصري الدارج "نُص العمى ولا العمى كله"، وروّج لذلك البعض معتقدين أن ذلك الـ"نُص عمى" أفضل من العمى التام، ويبدو أن ذلك المنطق يعجب الكثيرين ممن يلقى المثل فيهم هوى، بل يصير في بعض الأحيان عندهم إشارة إلى الرضا والسلام. فلماذا؟!
منطق مغلوط:
لا أعرف كيف يمكن أن يتحول هذا المنطق إلى ثقافة عامة راحت تنتشر بشراسة في مجتمعنا، وفي وسطنا الثقافي والفني، إذ بتتبع بسيط لما نسميه البيئة الإبداعية الآنية، سنجد هذا "النُص" يتسود ويتوغل، بل وتُقام لأجله المناسبات التي تصل حد الاحتفاء به، فتُتاح المساحات للكثيرين من هؤلاء الأنصاف، ويُدشن لهم من الاحتفالات والاهتمام ما كان به أولى من "المبصرين" –عملا بنظرية نص العمى- والذين نضمن بهم ما أشرت إليه في مقال سابق أنهم
"القوة الناعمة" لهذا الوطن الذي يخوض حربًا ضروس ضد الظلامية والرجعية والتشدد.
وتعجب حين تجد هؤلاء الأنصاف في كل مكان، كأنهم يسعون إلى تلك المساحة الواسعة التي عجز "المبصرون" عن شغلها لاعتبارات كثيرة منها الشخصي ومنها الحكومي، لكن الأعجب هو ما يحظون به من كل هذا الدعم والترويج في السينما وفي المسرح وفي الصحافة وفي الكتابة والموسيقى وغيرها من كل ما يمكن أن يكون ذراعًا من أذرع قوتنا الناعمة، وللحظة يمكن أن تشعر بأن ثمة نظرية مؤامرة ينفذها هؤلاء الأنصاف.
من وراء هؤلاء الأنصاف؟:
دعني أشاركك عزيزي القارئ في السؤال عن ذلك الشخص –بأي اعتبار وظيفي أو افتراضي أو حقيقي- والذي يدعم هؤلاء ويقف في ظهورهم ويدفع بهم دومًا، ولكي نكون في شفافية مطلقة علينا الاعتراف بالخطأ الذي دفع بذلك، وهو لا يختلف عن خطأ نراه يوميًا ونتغاضى عنه بسهولة ولا مبالاة حين يتحول في غالبية مساجد مصر – عمال النظافة بالمسجد إلى أئمة يصلون بخلق الله، بعدما صاروا بحكم الوظيفة داخل المسجد يعتبرون أنفسهم "مشايخ" لهم الحق في إمامة الناس، وللحقيقة فإن المصلين من بدأ في خلع الصفة عليهم.
يمكن أن تقيس على ذلك المثال البسيط ما يحدث مثلاً في وزارة الثقافة، إذ يتحول الموظفون إلى مبدعين بالإكراه، وهنا لن أذيع سرًا بأننا نسمع عن كثيرين من هؤلاء الموظفين الذين لا يمتون للإبداع بصلة، إلا أن وجودهم الوظيفي فرضهم على ساحتنا بل يجعلهم أهلاً للحكم ولجان التحكيم خاصة في كل ما يتعلق بالنشر والمؤتمرات، وتبدأ تلك الكوادر الوظيفية في تصدير نفسها أو أقاربهم، ويمكن هنا أن أسرد عشرات الأسماء بلا خجل، من هؤلاء الذين جعلوا من أنفسهم مبدعين، بل ومن كل أسرهم وأقاربهم ومجامليهم، فزادت مساحة العمى وكادت تتعدى مساحة "نُص العمى".
حدث بالفعل:
تأمل فقط الحال من حولك لعلك تكتشف كما اكتشفت أثناء عملي بالبحث الأدبي في واحدة من المدن الكبيرة، وتتبعنا في بحثنا بعض ورش الكتابة، وبعدها ببضع شهور أجد الإعلانات على مواقع التواصل تعلن أن المكان الفلاني (مساحة ثقافية) تعلن عن بدء ورشة الكتابة الإبداعية للكاتب فلان الفلاني الذي كان منذ شهرين على الأكثر مجرد متدرب في ورشة كتابية... قس على ذلك كثير يحدث.
لا أود التجني على أحد هنا، ولا أمانع أن يصير المتدرب على الكتابة الإبداعية "مورشًا"، لكن دعوني أسأل: ما النسبة المئوية التي وصل إليها المتدرب في الورشة؟ وهل هذه النسبة تجعله أهلا إن يُقدم نفسه ككاتب وكمدرب لورش الكتابة الإبداعية؟! بل وتفتح له المساحات؟ كم مما تعلمه مضافًا إليه موهبته يمكن أن يقدمه لمن يدربهم هو؟!ولا يتوقف الأمر على ذلك بل تجد هؤلاء ممن ما زالوا قيد النضج في تجربة الكتابة يعرفون بأنفسهم مسبوقين باللقب "الكاتب/ الشاعر/ القاص/ الفنان....إلخ".
نظرية الأنصاف:
ينتشر هؤلاء ولا نعرف من سمح بذلك؟ ومن روج لهذه الثمار التي لم تكتمل، ومن أقنعها بأنها نضجت تمام النضج، فمثلاً تجد البعض بعد ورشة كتابية، أنه يحق له أن يدرب ويعلم باعتباره كاتبًا؟! ستجد كل الداعمين لهم ينتمون إلى ما أسميه "نظرية الأنصاف"، إذ يدعم مكان ثقافي "يمثل الأنصاف" شخصًا لا يتجاوز بل لا يصل إلى الوصف "نُص العمى"، لينتشروا ويتوغلوا في كل حياتنا الأدبية والفنية والثقافية بوجه عام، ويتم اقتناص المساحة التي يجتهد المبدع الحقيقي لها، فلا يجدها بعد ان يكون هؤلاء قد سيطروا عليها باعتقادهم في أنفسهم، وبما يفعلون من مآثم تصل إلى حد الجريمة الأدبية والثقافية الفنية.
هل تغير من نجاحهم!!:
أيمكن أن يكون الانتشار معادلاً وموازيًا للنجاح؟ حتى وإن جاز للنجاح أن يوصف به هؤلاء الأنصاف، فنعم، أنا أغير لكن ليس منهم، إنما أغير هنا على مساحتي الأدبية، غيرة الخائف على هوية هذا البلد، إذ صارت تلك الأنصاف ملء السمع والخاطر، لكنها أبدًا لا تصلح أن نشير إليها باعتبارها ممثلا حقيقيًا عنا، وإلا فإننا نعتبر "المهرجانات" الغنائية تمثل هويتنا الموسيقية، ونعتبر الشاعر الفلاني المشهور بسرقة قصائد الآخرين هو رمزنا الشعري، ونعتبر هؤلاء الأنصاف هم الرموز، وسنركب كلنا "المرجيحة" ونعلن في النهاية انتصار"طنط مديحة".
بشكل شخصي وبحكم عملي البحثي أقابلهم في كل أروقة الثقافة وخاصة الجماهيرية منها، فتلك موظفة كتب لها زوجها نصوصها، أو كتبها صديق لها باعتبارات وظيفية، وذاك موظف تحول بقدرة قادر إلى الأديب الكبير أو الفنان المبدع، وكل ذلك يحدث دون أن تُطرف لنا عين ونكتفي بالمثل "نُص العمى ولا العمى كله"، فلماذا لا نرفض العمى كله ونصفه، ولماذا لا ندفع بالمبصرين من أصحاب الموهبة الحقيقية؟!
أتمنى أن يكون عندنا الشجاعة التي نواجه بها ذلك، فنقول لعامل المسجد أنت لستَ شيخًا لتؤم الناس، ولنقل للموظف بالثقافة الجماهيرية أو وزارة الثقافة أنت مجرد موظف لا علاقة له بالإبداع إلا في إدارة نشره أو التنسيق للمناسبات.
إن سياسة دفن الرأس في الرمل والمجاملات والشللية هي الأرض الخصبة لانتشار وتحقق نظرية الأنصاف، فهل آن الأوان لنرفع رأسنا من الرمل، ونقول لكل هؤلاء أنتم مجرد أنصاف وثمار لم تنضج أبدًا.
أقول قولي هذا وأنا رافض لـ"نُص العمى" ورزقي على الله.