القاهرة 12 سبتمبر 2017 الساعة 01:37 م
بقلم : د. رمضان سيف الدين
لم تعد آليات التنقل فى المجتمع ...أي توصيله , بل أضحت ثقافة من ثقافات هذا المجتمع ومعبرة عن شخصية هذا المجتمع وملمحا من ملامح تقدمه أو تخلفه العلمى أو الفنى أو الذوق الرفيع لديه , وقد ابتكرت الشخصية المصرية فى خضم الواقع التاريخى من بين ما أنتجت قريحتها مع بعض من التواصل مع المجتمعات العالمية استوردت وتعاملت مع الميكروباص (مركبة تحمل 14 راكب تجوب مصر من أقصاها الى أقصاها ), هذا الميكروباص كان أحد الحلول الواقعية التى تغلبت على أزمة تركتها الحافلات الكبيرة فى الاختناقات المرورية الصباحية والمسائية وفى ساعات الذروة وفى الأماكن الحيوية (كالميادين , والمصالح الحكومية التى يقصدها المواطنين , والشوارع الحيوية التى تفضى إلى وزارات هامة . كان الميكروباص يقوم بديلا عن هذة الحافلة حتى أضحي له زبائنه ومنتظروه والمعتادين على ركوبه لكنه ظل يعمل عملا خاصا لم يخضع فى ملكيته يوما للدولة وإنما كان يخضع للملاك الذين يملكونه ويعملون عليه أو يتناوبون العمل مع اخرين علية فيما يشبه دوريات او (ورديات )يومية بين السائقين.
واليوم فقد أصبح أعداد السائقين فى ازدياد وأعداد سيارات الميكروباص فى ازدياد أيضا وفى آخر إحصاء لأعداد الميكروباص فى مصر قيل إن أعداده على مستوى مصر كلها وصل إلى المليون سيارة ميكروباص منذ أن بدأ استيراد أول سيارة ميكروباص 1970 فى محاولة من الدولة للانفتاح على الآخر الأوربي.
إذا نظرنا فى السمات الاجتماعية لهذه الممارسة فإننا سوف نلاحظ عدة صور اجتماعية يمكن من خلالها الأطلال على هذه المهنة وأخلاقياتها والأطلال على الشخصية المصرية وكيف تعاملت مع هذه المهنة؟
أولا-- لقد نجحت الشخصية المصرية فى استيعاب هذه المركبة وجعلها أساس من أسس الحياة الاقتصادية والثقافية بل طبعت ثقافتها عليها أيضا فصار من يتعامل معها كأنما يتعامل مع الشخصية المصرية فصار هناك اندماجا بين السائق والركاب لم يكن موجودا فى الحافلة الكبيرة (الباص)كما توحد الركاب مع الحافلة من حيث الهدف؛ فالميكروباص الواحد له خط محدد معروف صار يتعارف عليه الركاب فى كل منطقة سواء ريف أو حضر , مناطق عشوائية أو مناطق منظمة, بل تعارف الركاب مع السائق ومع ألوان السيارات العاملة على الخط فكأنما السائق واحدا من الركاب والركاب جزء من المركبةيها كسائقين (الألفة الاجتماعية).
ثانيا – أمام هذا الطوفان الهائل من أعداد الميكروباص التى تزداد يوما بعد يوم ازداد أعداد العاملين عليها حتى أصبحوا قوة اجتماعية لا يستهان بها 2.5 مليون سائق ميكروباص انضموا إلى النقابة العامة للسائقين سواء نقابة عامة أو نقابات فرعية هذه القوة الاجتماعية تملك رصيدا هائلا من المعرفة الاجتماعية والثقافية بمكونات الشخصية المصرية (قوة اجتماعية ومدنية ومعرفية) لكنها تفتقد كثيرا من الوعى
ثالثا –لقد نجحت هذه الأعداد الهائلة من سائقي الميكروباص أن يتكيفوا مع الواقع الاجتماعى بكل مثالبه ومعايبه حيث الدولة تسيطر على جزء كبير من حركة سيارات الميكروباص وتحدد الخطوط التى يسير فيها الميكروباص (السرفيس)وإجبارهم على السير فى هذه الخطوط والعمل عليها حتى ولو لم يكن بها العدد الكافى من الركاب وحتى لو كان طريقها غير معبد وتكثر فيها المطبات والمنحنيات (لقد استطاعوا التكيف مع هذا الواقع بكل ما فيه من صلف وغرور وتكبر وتغطرس وظلم بين من رجال الشرطة الذين تحولوا إلى رجال الجباية بدلا من الحماية (التكيف مع الواقع المتردى).
رابعا __لقد صنع سائقي الميكروباص عالما خاصا بهم هذا العالم يقوم على نوع من التكافل الاجتماعى والتساند والتودد والتكامل فيما بينهم بل وصنعوا سوقا للميكروباص (سوق قطع الغيار )فمعظم العاملين على قطع الغيار ومحلات قطع الغيار للميكروباص كانوا من السائقين لكنهم استطاعوا تطوير مهنتهم والتعامل مع المتغيرات والمتطلبات التى تحتاجها المهنة مما يدل على أنهم لديهم القدرة على مواكبة التغيرات وملاحقتها برغم ندرة المستويات التعليمية بينهم (القدرة على التأقلم مع الواقع ومستجداته).
خامسا---كان من بين سائقى الميكروباص من هم أصحاب طموح ورغبة فى زيادة دخلهم وترقية فى طموحهم فأصبح منهم مُلاك الميكروباص الذين يملك الواحد منهم أكثر من 5 عربات ميكروباص تتحرك على أرض الشارع وتدر دخلا وفيرا على أصحابها والسائقين بل إن منهم من طور نفسه ليتحكم فى سوق استيراد الميكروباص.
إن الشخصية المصرية لديها القدرة على التكيف وتطوير نفسها والتأقلم مع الواقع المتردى ومسايرة الواقع المتطور وملاحقة التقدم الذى يفرض نفسه عليها.
(وإلى لقاء قادم فى تفاصيل الشخصية المصرية).