القاهرة 12 سبتمبر 2017 الساعة 11:37 ص
بقلم :محمدغباشى
مامن شك بأن تشايكوفسكي الذي انتقده العالم المعاصر لتشاؤمه المبالغ فيه هو واحد من أئمة التأليف في العالم الموسيقي عبر التاريخ برغم الهجوم عليه
وعلي موسيقاه والإدعاء بأنه مؤلف غير قومي بسبب عدم انضمامه إلي زملائه المعاصريين وممن كانوا يسموا وقتها بالخمسة الكبار والذين تزعموا
المدرسة القومية الموسيقية الروسية
كان يحب بلاده بلا شعارات ويكتب الموسيقي ويؤلفها تعبيرا خالصا عن نفسه فكانت موسيقاه لا ترتبط بشكل مباشر بوطنه أو قوميته فلم يتناول الألحان الشعبية لبلاده بهدف إبراز القومية الروسية لكنه استعمل الكثير منها لأنه أحبها وفضلها في مواقف معينه كما أنه وجد بها وسيلة للتجديد الموسيقي من أجل الموسيقي ذاتها والتعبير الجمالي فيها كما حدث عندما استخدم الميزان الموسيقي الخماسي في سيمفونيته السادسة فوضعه كإيقاع شعبي قومي روسي مما شكل نبضا جديدا للحركة الثانية للسيمفونية
مولده ونشأته
ولد بيتر ايليش تشايكوفسكي بمدينه كامسكو بولاية فياتكا بروسيا في السابع عشر من مايو في العام 1840وكان أبوه يعمل مفتشا بمناجم الحكومة الواقعة بتلك المقاطعة و حتي السابعة من عمره كان مرتبطا بمربيته الفرنسية ومولعا بها بعد أن شجعته علي تعلم البيانو من خلال دروس طويلة استمرت لثلاث سنوات قبل أن يرحل هو وعائلته إلي "بطرسبرج " وهناك تولاه أستاذ الموسيقي الأشهر في ذاك الوقت الأستاذ الكبير " فيلبيوف " والذي لم يجد فيه نبوغا خارقا للعادة ومع ذلك لم يبخل في تقديم كل مايلزم لتعليمه الموسيقي
الحقه أبوه بمدرسة القانون بمرحلتها الابتدائية والذي تخرج منها بعد تسع سنوات ليعمل كاتبا من الدرجه الأولي بوزارة العدل
لم تكن الوظيفة والروتين اليومي هي هاجسه الأول والأخير بل نزعت روحه وتاقت إلي الموسيقي بكل معانيها والتي لم يحقق بها مجدا حتي هذه اللحظة بل كان نشاطه منحصرا في الغناء بفرقه الكورال الخاصة بمدرسة القانون إلي جانب مواصلته لدراسة البيانو لكنه عندما بلغ العشرين من العمر بدا بارتجال الحان جميلة لإرضاء نزعات التأليف الملحة في ذاته كما ألف عددا لابأس به من رقصات الفالس والبولكا وعندما جاء خريف عام 1861 تحول في دراسته لنظريات التأليف الموسيقي بالفصول الموسيقية والتي كانت تابعة للجمعية الموسيقية الروسية والتي تحولت فيما بعد "للكونسرفتوار "
بعد ثلاث سنوات أي في عام 1863 استقال من وظيفته وواجه حياته كموسيقي محترف ...ولم يسعفه قراره الأخير في مواجهه الحياة بسهولة إذ ماتت أمه التي احبها كثيرا بداء الكوليرا وفقد أبوه ثروته كلها فاضطر إلي إعطاء دروس خصوصية لم تدرعليه الكثير بل كانت تكفيه بالكاد خصوصا بعد أن انحصرت حياته في الدراسة والتأليف والتدريس ليصبح كما قال:
" موسيقيا مجيدا وقادرا علي كسب القوت اليومي "
تخرج تشايكوفسكي من الكونسرفتوار عام 1865 وكان العمل الذي قدمه في الامتحان النهائي هو " نشيد السعادة " وهو النشيد الذي لحنه بيتهوفن و كتبه الشاعر الالماني " شيللر "وعليه فقد حصل تشاكوفسكي علي ميدالية ذهبية تقديرا علي إجادته لتقديم هذا العمل
بعدها بعام واحد طلب منه أستاذه "روبنشتاين " أن يقوم بالتدريس بكونسرفتوار موسكو مشيرا عليه بتقديم مادة " الهارموني " لما تميز بها في دراسته
وبرغم الأجر الزهيد الذي تقاضاه إلا أنها كانت فرصة لتحفيزه علي المزيد من التجربة العلمية وتقديم مؤلفاته الموسيقية في حفلات عامة كان يقودها بنفسه
و كتب خلال تواجده بموسكو في هذه الفترة سيمفونيته الأولي المسماه
" احلام الشتاء " والتي تعتبر من أجمل أعماله وأرقها كما كتب أيضا يومياته والتي عرفنا منها جانبا هاما من حياته والذي كان يعاني فيه من اضطرابات عصبية بسبب الأزمات النفسية التي عاشها إلي جانب اجتهاده في عمله الذي أخذ منه الكثير من الوقت والجهد
في صيف 1868 التقي بزملائه "الخمسة الكبار " وهم المؤلفين القوميين الروس والذين كانوا يدعون إلي الحركة القومية للموسيقي و تأثر بهم وتعاطف معهم وخاصة " رمسكي كورساكوف " و " بالاكرييف " والذي بدا تأثيرهما عليه واضحا في سيمفونيته الثانية والتي استعان فيها بالحان أوكرانية شعبية وفي القصيد السيمفوني " روميو وجولييت " والذي أهداه إلي "بالاكرييف "
شهدت سنة 1868 أول علاقة عاطفية لتشايكوفسكي والتي ربطته مع " ديزيرية ارتو " نجمة السوبرانو الأولي لإحدى فرق الأوبرا البلجيكية عندما زارت مدينة بطرسبورج في جولة فنية وبالرغم من أنها كانت تكبره بخمس سنوات إلا أن غزو الحب لا يعرف مانعا ولا سدا بل قرب بينهما في العاطفة والتآلف بيد أن لغه العقل أملت عليه ألا يتزوجا حتي لايصبح زوجا للنجمة الشهيرة والتي تزوجت بعد سنة من لقاءهما معا بآخر تاركه له الآباء والكرامة
وعليه فقد واصل العمل وكتب الكثير من روائعه الموسيقية فكان أهمها في تلك الفترة "كونشرتو البيانو +الاوركسترا رقم 1 "
وبحلول شتاء 1875 أحس تشايكوفسكي بالتشاؤم والاكتئاب الشديد تبعه انهيار عصبي اضطر معه للسفر إلي فيشي بفرنسا للعلاج والتي زادته آلاما علي آلامه النفسيه فكتب وقتها
" النهاية أوشكت لا محالة ....ولا يمكن أن تستمر الحياة بي أكثر من ذلك "
وقد زاد من تشاؤمه هذا أن أعماله لم تصب نجاحا في هذه الفترة في العواصم الأوربية وخاصة باريس وفيينا التي أصدر جمهورها صفير الاستخفاف أثناء عرض عمله الموسيقي في " روميو وجولييت "
أما الحماقة الكبري التي ارتكبها تشايكوفسكي في عام 1877 فكانت بزواجه الفاشل والذي لم يدم سوي تسعة أسابيع بامرأة التقاها صدفة بأحد المقاهي و تزوجها هربا من الانهيارات العصبية والأمراض العصبية التي ألمت به فلم تزده إلا آلاما وعصبية علي ماهو فيه فهرب منها وهو في حالة يرثي لها من الرعب والهلع والتمزق العصبي الذي أودي به إلي الإصابة بالحمى الشوكية التي أصابت مخه وعرضت حياته للخطر
رغم ذلك تعلق بسيدة أسطورية رائعة تدعي "ناديه فون ميلك " و توطدت علاقتهما الخيالية من خلال الرسائل المتبادلة بينهما فأصبحت أمه الروحية وعشيقته التي لامثيل لها في الكون كله بالرغم من أنهما لم يلتقيا أبدا إلاأنها كانت الأقرب إلي قلبه مع أنها كانت تكبره بعشرة سنوات وأرمله لرجل انجبت منه إحدي عشر ابنا وابنه وثروة كبيرة وشخصية أقوي ومستمعة جيدة ومحبه للفنون وبالأخص الموسيقي مماجعلها تساعد الموسيقيين فما أن سمعت عن تشايكوفسكي ومرضه وفقره حتي بادرت بالمساعدة ومد يد العون له فبدأت تطلب منه المؤلفات الخاصة به مقابل مبلغ معين من المال حتي انتهي الأمر بتخصيص منحة مالية خاصة تمنح له مقابل التفرغ للعمل الموسيقي دون الحاجة إلي مضيعة الوقت في البحث عمن يؤمن له وفرة من المال يستطيع بعدها التفرغ للموسيقي هاجسه الأول والأخير
فأبدع في هذه الفترة أعمالا ناجحة من الأعمال الموسيقية الخاصة بالأوبرا منها كسارة البندق و بحيرة البجع والجمال النائم و" ملك العناكب " وغيرها "
وكذلك السيمفونية الرابعة والمناظر الغنائية من أوبرا اويجن أونيجين " والتي اشتهرت خارج روسيا
كانت العلاقة بينهما غريبة نوعا ما فالموسيقي هي الصلة التي جمعت بينهما دون أن يري الواحد منهما الآخر فكانت بسخائها المادي وعطائه العبقري سببا لتحقيق نجاحاته المتتالية فيما بعد
ففي عام 1885 تغيرت حياة ونفسية تشاكوفسكي بعد أن حققت أعماله الفنية نجاحا كبيرا داخل وخارج روسيا وذاعت شهرته ونجاحه في اوروربا وامريكا وبدا شخصا آخر لايخشي الناس ولا يبتعد عنهم بل غدا انسانا جديدا نشطا اجتماعيا لاينفر من الناس ويقبل بسعادة غامرة الدعوات لقيادة حفلات موسيقية مختلفة لتقديم أعماله بنفسه فنتج عن ذلك بالطبع اتساع دائرة معارفه والتي ضمت عددا كبيرا من الفنانيين والمفكريين المعروفيين منهم " اميل زاروي –ليادوف- جريج – جلازونوف وغيرهم
وفي نفس الوقت تمكن من تحقيق أمنية قديمة وهي الهروب للريف حيث الطبيعة والهدوء فاشتري منزلا جميلا في بقعة صحية هادئة تقع مابين موسكو وبطرسبورج وقرر أن يعتكف للاستجمام والعمل بعيدا عن دائرة الشهرة خاصة بعد أن عاودته الاضطرابات العصبية من جديد
كتب تشايكوفسكي لصديقته تعقيبا علي نجاحاته الأخيرة " كان النجاح كاملا لم أتمن غير ذلك .... لكني مع هذا أشعر بالكآبة تغمرني ولا أحس بغير الحزن واليأس والمرارة "
وقد علق أخوه "مودست "علي هذا قائلا " ان سر معاناة أخي وآلامه يكمن في رد الفعل الذي يشعر به عند الحصول علي نجاح وشهرة ... وعند تحقيق انتصارات فنية كبيرة .
وبالطبع كان تشايكوفسكي قد بدأ يحصل علي المال من مصادر أخري غير السيدة "فون منك " فقد انتشرت مؤلفاته الموسيقية وحققت له دخلا كبيرا كان ينفقه بسهولة غريبة وبالتحديد علي الفقراء من الموسيقيين بموسكو بدون استثناء
في جولته الثانية باوروبا التقي بالموسيقار الكبير " برامز "بمدينة هامبورج بألمانيا وتبادلا الآراء حول قضايا الموسيقي في العالم الغربي
حصل في جولته هذه علي عرض نادر لقيادة مجموعة من الحفلات الموسيقية باوروبا وامريكا التي لم تقدم هذا العرض لأي موسيقي روسي قبله
وبينما كان يحزم حقائب سفرة للقيام بهذه المهمة إذ تصله رسالة من صديقته الأسطورية " نادية فون منك " تخبره فيها بانتهاء علاقتهما بطريقة جافة وأنها علي وشك الإفلاس ويتعذر عليها ارسال أيه مبالغ له بعد هذه الرسالة
كان لهذا الخطاب وقع الصاعقة عليه لأنها كانت الشيء الوحيد الذي كان يسعده في حياته البائسة
فانقلبت حياته رأسا علي عقب وتحولت إلي عقدة نفسية وصدمة وإحساس بالنقص ظل ينهش في نفسه وعقله ويدنو به إلي القبر بعد أن علم أيضا من أحد أصدقائه أنها مريضة جدا وتعاني بشدة مما جعله يلقي بنفسه في غياهب الانهماك العملي وظل يعمل علي سيمفونيته السادسة والتي جعلها أغنية وداع لصديقته الاسطورية فكانت هذه السيمفونية جنازة حياته والتي وصفها قائلا
" اعتقد أنها أعظم أعمالي وأكثرها صدقا " وكان عليه أن يطلق عليها اسما يعبر عن معاناته والامه ففكر مع أخوته " واختاروا تسميتها السيمفونية التراجيدية أو سيمفونية الدموع لكن أخاه "موديا " قال فلنسمها " المؤثرة " فقفز تشايكوفسكي فرحا وقال " برافو ... هذا هو الاسم
كانت السيمفونية المؤثرة هي أخر ماكتب في حياته فكانت الوصية التي أودعها شعلة عبقريته وجمال أحزانه فكانت مرثيته هو نفسه لينهي بها حياة حافلة بالألم والمعاناة النفسية بمدينة بطرسبورج في السادس من نوفمبر عام 1893
هذا هو تشايكوفسكي العظيم الذي خلف للبشرية أعمالا موسيقية رائعة أهمها " سبع سيمفونيات وأربعة أعمال في قالب الكونشيرتو احداها للفيولين مع الاوركسترا وثلاثة للبيانو مع الاوركسترا ... وروائع من موسيقي الباليه والاوبرا والكورال والكنيسة والحجرة ...
فكان صادقا معطاء رغم التشاؤم و الألم والعذاب النفسي