القاهرة 12 سبتمبر 2017 الساعة 11:22 ص
منذ فجر التاريخ أدرك المصريون قيمة المعرفة ورفعوا شأنها حتى أنهم نسبوا فضلها إلى عالم السماء و أطلقوا لفظ "سيا " اسماً على المعارف الربانية
، أى المعارف الخاصة برب الأرباب
وعلى أرض الواقع رأى المصريون أن قيمة التعليم تتساوى مع قيمة الحياة نفسها فأطلقوا على دار التعليم (بر عنخ) أى بيت الحياة ، ولما كانت الحياة حقاً لكل إنسان صار التعليم حقاً للجميع. وقد كانت العملية التعليمية تسغرق خمسة عشر عاماً قُسمت إلى ثلاث مراحل متتالية . و قد انتشرت بيوت الحياة فى أرجاء مصر فى " أون " ( عين شمس ) التى كانت عاصمة علمية عالمية و كذلك فى " منف " وفى غرب الأقصر عُثر على آثار مدرسة حول معبد (الرمسيوم) وأخرى بدير المدينة و كذلك فى أختاتون عاصمة الملك اخناتون و فى المدينة المقدسة أبيدوس و مدينة صا الحجر و تل بسطة و غيرها . ومن الثابت أن القصر – إبان عصر الدولة القديمة – كان يضم مدرسة لتعليم الأمراء، ولكن فيما يبدو أن هذه المدارس "الأميرية" لم تكن مقصورة على الأمراء فقط.. بل كان من حق الآخرين الالتحاق بها، وفي هذا يقول (روزا ليندم) و(جاك ج. يانس) :"وظلت مدرسة القصر هذه أهم المدارس، وكان مقرها خلال الأسرة الثانية عشرة في (الفيوم)، بالقرب من العاصمة (اللشت(
و قد ميزالمصريون بين "سيا" كمعرفة ربانية خلاقة و بين " رخ " باعتبارها معرفة عملية تتأسس على الممارسة و تمثلت بدايتها الأولى فى تعريف المعانى المجردة وذلك باستخدام الكلمة المنطوقة ثم الكلمة المكتوبة ،فالكلمة المكتوبة هي صورة الكلمة المنطوقة، أو كما يقول (ديمتري ميكس) و(كرستين فافرميكس) فى كتابهما الحياة اليومية للأرباب المصرية إن : " نفس علامات الكتابة تعد "بصمات" لكل ما يتضمنه الخلق، فكل كائن من الكائنات، وكل شيء من الأشياء قد أُستخدم كعلامات للكتابة. وتعتبر الكلمات الربانية – مهما تنوعت – بمثابة انبعاثات من رع " . ويضيف الباحثان : " وربما وضع " تحوت" بياناً بهذه البصمات، وكان يستطيع أن يحصيها، وهو هنا أيضاً بمثابة الوسيط الذي يعرف القراءة، أي الذي يمكنه أن يحول الكتابة إلى كلمات، وبالتالي يرجعها إلى أصلها، إلى قوتها الأولى".
أما " تحوت " الذى ورد ذكره فى النص السابق فكان رباً للمعرفة و الحكمة كما كان رب الكلمة و راعياً للكُتاب وكذلك رباً للقمر. وتقول إحدى الأساطير إن رب القمر " تحوت" انبثق من رأس "ست"، أى أن نور المعرفة انبثق من الظلام الذي يمثله ست رب الشر . وكان تحوت أيضاً هو "سيد الزمان"، و"حاسب السنين"، الذى قام بقياس السموات و الأرض و إحصاء ما فيهما من كائنات .
و قد نسب إلى تحوت تأليف كتب تعد أساساً للعلوم المختلفة يقول عنها كليمنت السكندري بأن كتب "تحوت" تعدت الاثنين والأربعين كتاباً، وأنها قسمت على ستة أقسام تناولت القوانين والأرباب وتعليم الكهنة وطقوس العبادات و تاريخ العالم والجغرافيا والهيروغليفية و علم النجوم و الطب .
مثل هذه الأعمال والمهام نسبت إلى حكيم مصر وفيلسوفها و عالمها الأول الذي لم يكن رباً للكتابة فقط ، بل كان يعتبر هو ذاته "الكلمة" فقد كان "تحوت" أحياناً يوصف بأنه لسان أو قلب "رع". وهو ما يؤكده والاس بدج فى كتابه آلهة المصريين حين يقول : "في المقام الأول كان "تحوت" يمثل كلاً من قلب ولسان "رع"، بمعنى أنه يمثل القدرتين الذهنية والسببية للإله، كذلك الوسائل التي يترجم إرادتها لكلمات ".
و يشرح والاس بدج دور" تحوت"، فيقول بأنه هو : " الذي يقول الكلمات التي ينتج عنها تحقيق إرادة "رع"، وهو ما يدل على أن ما كان ينطقه كان يتم بشكل أو بآخر. فـ" تحوت" هو الذي نطق بالكلمات التي نتج عنها خلق السموات والأرض".
أما فيلسوف اليونان الأشهر أفلاطون فيقول عن "تحوت" أنه هو "الذي اخترع الأعداد والحساب والهندسة، وأهم من ذلك كله، أنواع الأدب ". وفي موضع آخر يضيف (أفلاطون) أن "تحوت" هو مبدع اللغة وكل العلوم.
وكان أفلاطون ، الذى وُلد في أثينا عام 427 ق. م، قد تلقى فى بيت حياة (عين شمس)، دروساً في علم الفلك على يد الكهنة المصريين، كما استفاد أيضاً من الدين المصري، وكذلك من أخلاق مصر ونظمها وتقاليدها، وهو ما برز في مؤلفاته فيما بعد. وكان افلاطون مؤمناً بأن المفكرين العظام، مثل (فيثاغورس) و (سولون) و(ليكوجوس)، كانوا قد جلبوا العلوم من مصر .
وعن شواهد أثر الفكر المصري في أعمال أفلاطون، وفي مقدمتها "الجمهورية"، يقول مارتن برنال فى كتابه " أثينا السوداء" : " وفي وجود هذه الشواهد التي تؤيد اشتقاق أفكار الجمهورية من أصول مصرية، ربط العلماء المعاصرون هم الأخرون بين (أفلاطون) ومصر، وكما ذكر (ماركس) فإن جمهورية (أفلاطون)، فيما يتعلق باتخاذ تقسيم العمل أساسا تكوينياً للدولة، هي مجرد معالجة مثالية لنظام التقسيم الطبقي في مصر .
أما أرسطو فقد تلقى علومه فى الأكاديمية التي أنشأها (أفلاطون)، وكما درس أرسطو على يد أفلاطون، تتلمذ أيضاً على يد (يودكسوس)، الذي أقام في مصر أيضاً.
وكان أرسطو يؤمن بأن علم الرياضيات و الهندسة والحساب والفلك قد خرج من مصر. و من المشهور أن أرسطو قام على تعليم الأسكندر الأكبر .
وهكذا لم يكن غريباً أن ينبهر (الأسكندر) الأكبر بمصر وحضارتها، ولم يكن غريباً أن ينشأً مدينة (الإسكندرية)، التي صارت كعبة العلم فى أوج توهج الحضارة الهيلينية .
و فى عهد بطليموس الأول – خليفة الأسكنر أنشىء ما يسمى بالـ (Musion))، وكان يدرس فيه العلوم الطبيعية والفلك والرياضيات. وقد تمتعت هذه المؤسسة الثقافية بدعم الملوك البطالمة، حتى أن رئيسها كان يُعين من قبل الملك شخصياً.
أما مكتبتها فقد نالت شهرة عظيمة، لم تحظ بها أية مكتبة أخرى في تاريخ الإنسانية، وكانت هذه المكتبة تحتوي على حوالي 500000 كتاب.
ومن المعروف أنه قد تم ترجمة التوراة من العبرية إلى اليونانية لأول مرة في مكتبة (الإسكندرية) .
ومما يروى عن الاهتمام بالحصول على الكتب العلمية في هذا العصر، أن جميع السفن التي كانت تمر بالبلاد كان يتم تفتيشها، فإذا عُثر في إحداها على كتاب جديد ؛ كان يتم نسخه وإعطاء النسخة إلى صاحب الكتاب، بينما يضم الكتاب إلى مجموعة الكتب بمكتبة (الإسكندرية). ولكن للأسف فقد تعرضت هذه المكتبة لحريق مدمر عام 272 م، على يد الإمبراطور الروماني (أورليان)، وكذلك دُمرت المكتبة الصغرى إبان العصر المسيحي في القرن الرابع الميلاد.
وقد تميزت (الإسكندرية) باحتضانها للمدارس الفلسفية المختلفة. وكانت (الإسكندرية)، منذ تأسيسها، قد ارتبطت بالعلوم وخاصة الفلسفة، تلك التي يعود تاريخ نشأتها إلى عصر الفيلسوف الإغريقي (طاليس) [624 - 546 ق. م] رائد هذه الحركة الفكرية التي عرفت فيما بعد بالفلسفة الذى تلقى علومه بمصر أيضاً .
وقد ظلت (الإسكندرية)، بعد احتلال الرومان لها عام 30 ق. م، تتمتع بمكانتها الرائدة في الإمبراطورية الرومانية.