القاهرة 12 سبتمبر 2017 الساعة 11:23 ص
تأليف: لورانس هيل ..ترجمة صلاح صبري
{بايو، 1745}
مهما يكن عمري، ومهما تكن القارة التي أسكنها، فإن أبخرة النعناع المغلي برائحته النفاذة، دائمًا ما تردني لأيام الصبا في بايو. يقضي التجار أيامًا عديدة سيرًا على الأقدام، بينما يحمل كل منهم فوق رأسه صرته التي، بمجرد بلوغه قريتنا، يدس يده فيها مخرجًا أشياء عجيبة؛ فيختفي من أهل قريتنا بعدد ما أخرج التجار من الأعاجيب. أقيمت الأسوار حول قرًى وبلدات بأكملها، وانتشر الحراس برماحهم المسمومة، للحيلولة دون سرقة الرجال. ولكن عندما يُقبل الثقاة من التجار، يتوافد عليهم أهل القرية، من جميع الأعمار، ليشاهدوا بضائعهم المدهشة.
يعمل أبي صائغًا، وذات يوم، دفع قلادة ذهبية ثمنًا لإبريق شاي له كرش منتفخة، وميزاب ملتوٍ طويل. قال التاجر إن الإبريق قد عبر الصحراء إلى هنا، وإنه يجلب الحظ وطول العمر لكل من يشرب منه.
في منتصف الليلة التالية، يربت أبي على كتفي برقة وأنا نائمة في الفراش. فهو يؤمن أن روح النائم شديدة الحساسية، وعلى من يريد إيقاظه أن يفعل ذلك بلطف شديد.
يقول أبي: "تعالي واشربي الشاي معنا.. أنا وأمك."
أنهض من نومي، وأسرع خارجة لأرتمي في حجر أمي. كل من عدانا في القرية مستغرق في النوم. الديكة ساكنة في صمتها الليلي. والسماء مرصعة بملايين العيون الآدمية المتلألئة.
أقف وأمي نشاهد أبي وهو يرفع الإبريق عن ثلاثة أعواد مشتعلة، مستخدمًا بعض أوراق الموز السميكة. يرفع الغطاء الذي يتحرك حول مفصل عجيب، ثم يستخدم عودًا مبريًّا ليستخلص بعض العسل من إحدى خلايا النحل، ويضعه في الشاي الساخن.
أهمس: "ماذا تفعل؟"
يقول: "أحلِّي الشاي."
أُقرِّب أنفي، بينما أوراق النعناع الطازجة، التي تتراقص سابحة في الإبريق، ينطق عبيرها بنبض الحياة في الأماكن السحيقة.
أستنشقه صائحة: "هممم!"
يقول أبي: "لو أغمضت عينيك.. لتشممت عبق الطريق إلى تمبكتو."
تضع أمي يدها فوق كتفي، وتستنشق متنهدة هي الأخرى.
أسأل أبي: "أين تمبكتو بالضبط؟"
يقول: "بعيدة جدًّا."
"هل زرتها؟"
"نعم."
إنها على ضفاف نهر النيجر العظيم، وقد زارها ذات مرة ليصلي ويتعلم ويثقف عقله، مثلما ينبغي على كل مؤمن أن يفعل. يجعلني هذا أرغب في تثقيف عقلي أنا أيضًا. حوالي نصف السكان في بايو مسلمون، ولكن ليس فيهم من لديه نسخة من القرآن غير أبي، الذي يعرف القراءة والكتابة. أتساءل: "كم عرض نهر النيجر؟ هل يشبه الجداول القريبة من بايو؟" يقول: "لا.. عرضه عشرة أضعاف مرمى الحجر عندما يقذفه رجل بأقصى قوته." ولا أستطيع أن أتخيل مثل هذا النهر.
بعد أن يصير للشاي لونه المطلوب، مكتسبًا من العسل حلاوته، يرفع أبي الإبريق الساخن مادًّا ذراعه إلى أقصى ما يستطيع، ويصب لي بعضًا من السائل، الذي تتصاعد منه الأبخرة الذكية، في قرعة صغيرة، وكذلك يصب لأمي ثم لنفسه. لا تنسكب منه قطرة واحدة على الأرض. يضع الإبريق ثانية على الجمر، منبهًا إياي ألا أدع المشروب يبرد.
أُطبق راحتيَّ على القرعة الدافئة قائلة: "بابا.. احكِ لي ثانية كيف تعرفت بأمي."
يعجبني أن أيًّا منهما لم يقصد أن يرفع بصره ناحية الآخر، أمي من البامانا، وأبي من الفولا. تعجبني قصتهما التي تحدت المستحيل. لم يكن لهما أن يلتقيا، ولا أن يُترَكا معًا وحدهما، ولا أن يؤسسا أسرة.
يقول أبي: "صدفة سعيدة في وقت غريب.. وإلا لما كان لكِ أن تخرجي للنور."
*
قبيل مولدي بموسم مطر واحد، يخرج أبي في نفر من الرجال الفولانيين من بايو. يسيرون خمسة أيام متواصلة ليقايضوا على الملح بزبدة الشيا في إحدى الأسواق النائية. وفي طريق عودتهم، يهدون كيسًا صغيرًا من الملح إلى زعيم قرية صديقة من قرى البامانا؛ فيدعوهم ليأكلوا ويستريحوا ويبيتوا ليلتهم في القرية. وبينما هم منهمكون في تناول الطعام، يلمح أبي أمي وهي تمر من أمامه مسرعة، وفوق رأسها صينية عليها ثلاث من ثمار البطاطا، وقرعة من لبن الماعز. لا يستطع أن يسقط بصره عنها، مفتونًا برأسها الرزين، وذقنها المرتفع في إباء، وانحناءة ردفيها، وساقيها القويتين الطويلتين، وكعبيها المخضبين بالأحمر.
يقول أبي: "كانت تبدو جادة وقادرة على تحمل المسؤولية.. أدركت منذ الوهلة الأولى أنها ستكون زوجتي."
تأخذ أمي رشفة من الشاي، وتضحك قائلة: "كنت مشغولة.. وأبوك في طريقي.. كنت ذاهبة لمساعدة امرأة أوشكت على الولادة."
لم يكن لأمي أي أبناء حينئذ، ولكنها كانت قد أخرجت بالفعل كثيرًا من المواليد إلى النور. يعلم أبي من والدها أن زوجها الأول قد اختفى منذ زمن طويل، عقب زواجهما بوقت قصير. افترض الناس إما أنه قد مات، أو اختُطِف. أما زوجة أبي، التي تمت خطبتها إليه من قبل حتى أن تولد، فقد ماتت مؤخرًا بالحمى.
يستدعون أمي لمقابلة أبي، فيعطلها ذلك عن إتمام مهمتها، وتخبره بذلك. يبتسم أبي، ويرمق عضلات ربلتيها وهي تستدير عائدة لإنجاز عملها. تبدأ المفاوضات لتعويض والد أمي عن فقده إحدى بناته. يتفقان على ست عنزات، وسبعة قضبان من الحديد، وعشر أساور نحاسية، وأربعمائة من الأصداف المنضودة.
بصرف النظر عن الاضطراب السائد في تلك الفترة، فإن زواجًا بين رجل من الفولا وامرأة من البامانا، لا يمكن أن يتم. أعداد الذين يختفون تتزايد باستمرار، وأهل القرى مذعورون من الوقوع في أيدي اللصوص الذين يعلمون بالتحالفات الجديدة التي تتم بين مختلف القرى.
يحضر أبي والدتي معه إلى بلدته بايو. يصنع الحلي من خيوط رفيعة من الذهب والفضة، ويسافر ليعرض بضاعته في الأسواق ويصلي في المساجد. يعود أحيانًا ومعه نسخة من القرآن، أو كتب أخرى بالعربية. يزعم أنه ليس لفتاة أن تتعلم القراءة والكتابة، ولكنه يتخلى عن رأيه حين يراني أمسك عودًا وأحاول أن أرسم به على الرمال بعض الكلمات العربية. لذلك، ونحن معًا في بيتنا ولا شاهد علينا إلا أمي، يعلمني الكتابة على خرق من الجلد باستخدام قصبة ومداد أحمر. أتعلم كتابة بعض العبارات بالعربية، مثل "الله أكبر"، و"لا إله إلا الله".
تتكلم أمي لغة البامانا التي تستخدمها دائمًا ونحن معًا وحدنا، ولكنها استطاعت أيضًا أن تلتقط الكثير من ألفاظ لغة الفولا، كما تعلمت من أبي بعض الصلوات. أحيانًا أرى جماعة من نسوة الفولا وهن يتغامزن، وتنخس إحداهن الأخرى بمرفقها حين يشاهدن أمي منحنية وفي يدها عود مبري تكتب به على الأرض "الحمد لله"، لتبين لنساء القرية أنها تعلمت بعض الصلوات العربية. على مقربة منها، تطحن النساء حبوب الدُّخْن باستخدام مدقات خشبية ثقيلة، طويلة كسيقان الرجال، وملساء كبشرة الأطفال، وصلبة كالأحجار. حين يهوين بمدقاتهن على الهاون المليء بالدخن، يتردد في المكان قرع كقرع الطبول. أحيانًا، يتوقفن ليشربن الماء أو يتفحصن أيديهن التي اخشوشنت، بينما تعيد أمي تلاوة الكلمات التي تعلمتها من أبي.
ومع مجيئي للحياة، تصير لأمي مكانة مرموقة في القرية. هي، كغيرها من نساء القرية، تزرع الذرة والدخن، وتجمع ثمار الشيا، ثم تحمصها في فرن يوقد بالحطب، وبعد ذلك تدقها للحصول على الزيت، فتحفظ معظمه، وتنحي بعضه جانبًا لاستخدامه في عمليات التوليد. يطلبون أمي دائمًا عندما توشك امرأة على إخراج مولود جديد إلى الحياة. ذات مرة، تساعد أمي أتانًا داهمها المخاض فجأة في أثناء العمل. عندما تشعر أمي بالسعادة والأمان، يشرق وجهها بابتسامة مطمئنة، تلك الابتسامة التي لم تغب عن خيالي لحظة واحدة منذ انتزاعي من حضنها.
عندما حان وقتي، رفضتُ أن أدخل العالم. يقول أبي إنني كنت أعاقب أمي على حملها بي. في النهاية، لم تجد أمي بدًّا من استدعاء أبي. قالت: "تحدث إلى وليدك.. لقد نفد صبري."
بسط أبي راحته على بطن أمي. قرب فمه من سرتها الناتئة كزهرة لم تتفتح بعد، قائلاً: "أي بني!"
قالت: "أنت لا تعرف أن لنا ولدًا هنا."
قال: "لو لم تكُفِّي عن الثرثرة هكذا.. لصارت لنا عنزة في نهاية المطاف." ثم استطرد قائلاً: "أنتِ طلبتِ مني أن أتكلم.. وأنا أفكر في ولد.. لذا.. يا ولدي العزيز.. اخرج من مكانك الآن.. لقد عشت حياتك الناعمة.. نائمًا وملتصقًا بأمك.. اخرج الآن.. وإلا ضربتك."
يزعم أبي أنني رددت عليه وأنا في بطن أمي.
يخبرني أنني حدثته قائلة: "أنا لست ولدًا.. وقبل أن أخرج.. يجب أن نتكلم."
"إذن تكلمي."
"لكي أخرج الآن.. أريد كعكة ساخنة من دقيق الذرة.. وقرعة من الحليب الطازج.. وذلك المشروب الجميل الذي يستقطره غير المؤمنين من أشجار الـ..."
قاطعني أبي قائلاً: "لا خمر.. ليست لمن يخاف الله.. ولكن.. يمكن أن أحضر لك الكعك عندما تطلع أسنانك.. وماما ستعطيك الحليب.. وإذا كنت طفلة طيبة.. سأعطيك ثمار الكولا ذات يوم.. الله لا يكره الكولا."
انزلقتُ خارجة من بطن أمي، كما تنزلق إلى المياه كلاب البحر.
*
وأنا رضيعة، سافرت كثيرًا على ظهر أمي. كانت تجذبني إلى صدرها عندما أبكي جوعًا، ثم تمررني بين القرويات، غير أنها كانت تلفني عادةً في خرق من القماش الأحمر والبرتقالي، وكنت أنزلق لأسفل على ظهرها وهي تسير، أو تطحن الدخن، أو تجلب الماء من النبع، أو تذهب لتوليد إحدى النساء. أذكر أنني، في غضون سنة أو سنتين منذ خطوت خطواتي الأولى، بدأت أتساءل لماذا وحدهم الرجال هم الذين يجلسون لاحتساء الشاي وتجاذب أطراف الحديث، بينما النساء دائمًا منشغلات. استنتجت أن الرجال لا بد أن يكونوا ضعافًا، ومحتاجين إلى الراحة.
ما أن استطعت المشي، حتى جعلت من نفسي صبية نافعة. كنت أجمع ثمار الشيا، وأتسلق الأشجار لجلب المانجو والأ?وكادو والبرتقال والفواكه الأخرى. جعلوني أهتم بمواليد النسوة الأخريات، الذين كانوا يبقون معي راضين مطمئنين. لا شيء في أن تمسك رضيعًا وتعتني به صبية لا يتجاوز عمرها ثلاثة أو أربعة مواسم مطرية، بينما تقوم أمها بعمل آخر. ومع ذلك، ذات مرة صفعتني فانتا، صغرى زوجات زعيم القرية، عندما وجدتني أحاول إرضاع المولود الذي أحمله.
مع بلوغي موسم المطر الثامن، تترامى إلى سمعي حكايات عن رجال من القرى الأخرى يخطفهم بعض المحاربين الغزاة، بل وعن رجال آخرين يبيعهم أهلهم بأنفسهم. ولكن لا يخطر ببالي مطلقًا أن ذلك قد يحدث لي. وفوق ذلك، فأنا مسلمة حرة. أعرف بعض الصلوات العربية، بل وعندي هذان الهلالان المنحوتان في وجنتيَّ، واللذان أتباهى بهما. الهدف من الهلال جماليٌّ بالدرجة الأولى، ولكنهما أيضًا يميزانني كمؤمنة بين أهل القرية. في قريتنا ثلاثة أسرى ـ جميعهم من غير المؤمنين ـ ولكن حتى الأطفال يعلمون أنه لا يحق لمسلم أن يأسر مسلمًا آخر. وأظن أني آمنة.
يؤكد لي أبي ذلك، حينما آتي إليه بكل الحكايات التي يرددها أطفال القرية: شخص ما، حتمًا سيخطفني ذات ليلة من سريري. يقول بعضهم إنه من الفولا، شعبنا. ويحذرني آخرون من البامانا، شعب أمي. ما زال هناك من يتحدث عن هؤلاء الرجال البيض الغامضين، والذين لم نشاهد أحدًا منهم قط. يقول أبي: "أبعدي هؤلاء الأطفال الأغبياء عن تفكيرك.. ابقي قريبة مني ومن أمك.. لا تخرجي وحدك.. وسوف تكونين بخير." أمي ليست مطمئنة تمامًا. تحاول أن تحذره من سفره كالعادة لمسافات طويلة، من أجل بيع الحلي والصلاة في المساجد. أسمعهما مرة أو مرتين وهما يتجادلان بالليل، حيث من المفترض أن أكون نائمة. تقول أمي: "لا تسافر بعيدًا هكذا.. هذا خطر." ويقول أبي: "نحن نسافر في جماعات.. بسهامنا وهراواتنا.. ثم.. من الذي سيجرؤ على اختبار قوته أمامي؟" تقول أمي: "سمعت ذلك من قبل."
تأخذني أمي معها عندما ترتفع بطون النساء إلى أقصى حد. أشاهدها وهي تفك الأحبال السرية من حول رقاب المواليد. أراها تمد يدها داخل امرأة، بينما تضغط بيدها الأخرى على الرحم من الخارج لكي تعدل الجنين. أراها تدعك كفيها بالزيت وتدلك الأعضاء الحساسة لامرأة، لكي ترتخي أنسجتها فلا تتمزق. تقول أمي إن بعض النساء تتمزق أعضاؤهن، ويتشوه منظرها كثيرًا عند التئامها. أسألها ماذا تعني. تكسر وعاءً خزفيًّا قديمًا لا قيمة له، وتبعد أجزاءه عن بعضها، ثم ترمي بقطعة أو قطعتين، وتطلب مني أن أعيد تجميع الوعاء. أنجح في لصق بعض القطع ببعضها، غير أن حوافها خشنة ومدببة، ولا تلتئم ببعضها تمامًا بعد ذلك.
تقول أمي: "مثل ذلك."
"ماذا يحدث مثل ذلك لامرأة؟"
"ربما تنجو.. وربما تظل تنزف حتى تموت.. أو ربما تموت وهي تحزق لإخراج مولودها الأول."
مع الوقت، أبدأ في مراقبة أمي وهي تساعد النسوة في وضع مواليدهن. لديها مجموعة من القرب المصنوعة من جلد الماعز. أتعلم كل أسماء المساحيق النباتية، والأعشاب المجففة. على سبيل التسلية، أحاول أن أختبر قدرتي على التنبؤ باللحظة التي ستختارها أمي لتشجيعامرأة على قذف مولودها. من طريقة تحركها وتنفسها، ومن تلك الصرخات الوحشية التي تنطلق من حلقها وهي في أوج تشنجها، أحاول أن أخمن متى ستبدأ في دفع الجنين إلى الخارج. في العادة، تحضر أمي معها قربة من جلد البقر الوحشي، مليئة بمشروب التمر الهندي المحلى بالعسل. عندما تصرخ المرأة عطشًا، أصب القليل منه في قرعة، وأقدمه لها وأنا أشعر بالفخر لكوني فتاة يعتمد عليها.
عندما تذهب أمي لتوليد إحدى النساء في قرية أخرى، قد تقدم الأسرة للوالدة شيئًا من الحساء والزيت واللحم، وربما تأكل أمي معهم وهي تمتدحني لكوني معاونتها الصغيرة. قطعت أول حبل سري في حياتي عندما بلغ عمري سبعة مواسم مطر؛ أمسكت السكين بسرعة، وجعلت أحزه حتى انقطع تمامًا. بعد مطر آخر، بدأت أمسك المواليد وهم ينزلقون خارجين. بعد ذلك، علمتني أمي كيف أدس يدي، بعد دهنها بالزيت، داخل امرأة، وأن ألمس المكان المحدد لمعرفة ما إذا كان اتساع الفرجة قد بلغ الحد المناسب. أصبحت ماهرة في ذلك، وقالت أمي إنها تحب أن تأخذني معها لأن كفي بهذا الصغر!
بدأت أمي تخبرني كيف سيتغير جسمي. تقول إن الحيض سيأتيني قريبًا، وعندئذ، ستشترك معها بعض النساء ليجرين لي أحد الطقوس. أريد أن أعرف المزيد عما سيفعلنه بي. تقول إن كل الفتيات تُجرى لهن هذه العملية عندما يكنَّ جاهزات لأن يصبحن نسوة. عندما ألح من أجل التفاصيل، تقول أمي إنهم سيستأصلون ذلك الجزء من أعضائي الأنثوية، لكي أصبح نظيفة وطاهرة وجاهزة للزواج. لا يعجبني هذا أبدًا، وأخبرها بأنني لست مستعجلة الزواج، وأنني سأرفض العملية. تقول أمي إن أية واحدة لا قيمة لها بغير الزواج، وإنها وأبي سيخبرانني في الوقت المناسب بما رسماه لي. أخبرها بأنني أذكر ما قالته لي من قبل عن بعض النسوة اللاتي تتمزق أعضاؤهن الأنثوية، ثم تلتئم بطريقة مشوهة. تواصل كلامها بعناد وثقة يشيعان الخوف في نفسي.
أسألها: "هل فعلوا هذا معك؟"
تقول: "طبعًا.. وإلا لما تزوجني أبوك مطلقًا."
"هل آلمك ذلك؟"
"أكثر مما آلمتني الولادة.. ولكن ليس لوقت طويل.. مجرد تقويم بسيط."
أقول: "ولكني لم أرتكب خطأً يستدعي تقويمي." تضحك أمي باستخفاف، فأحاول أن أجد سبيلاً آخر. أقول: "قالت لي بعض البنات إن‘سليمة’ ماتت السنة الماضية في القرية المجاورة.. عندما كانوا يفعلون بها ذلك."
"من قال لك هذا؟"
أقول مستخدمة إحدى عباراتها: "لا يهم.. ولكن هل هذا صحيح؟"
"المرأة التي فعلت ذلك لسليمة كانت حمقاء وعديمة الخبرة.. وبالغت في البتر.. سأعتني بك عندما يحين الوقت."
نغلق الموضوع، ولا نجد الفرصة لمناقشته مرة ثانية بعد ذلك أبدًا.
*
في قريتنا رجل مهذب قوي، اسمه فومبا ‘Fomba’. إنه ولوسو ‘Woloso’، وهي كلمة تعني في لغة أمي "أسير من الجيل الثاني". وهو مملوك لزعيم قريتنا منذ مولده. فومبا ليس مسلمًا حرًّا، ولم يتعلم قط كيف يصلي الصلوات الصحيحة بالعربية، ولكنه يركع أحيانًا مع أبي والمؤمنين وهم يولون وجووهم جهة المشرق.
فومبا له ذراعان مفتولتان، وساقان قويتان. هو أفضل رامٍ في القرية. رأيته ذات مرة يخطو ست خطوات للوراء مبتعدًا عن سحلية على إحدى الأشجار، ثم يسدد قوسه ناحيتها، ويطلق سهمًا، فيصيب السحلية في بطنها مثبتًا إياها في الشجرة.
زعيم القرية يترك فومبا يخرج للصيد كل يوم، معفيًا إياه من مهام زراعة الدخن وحصاده، لأنه يبدو دائمًا غير قادر على استيعاب القواعد والأساليب، ولا يعرف كيف يعمل متعاونًا مع فريق من الرجال. يحب الأطفال مرافقة فومبا في تجواله حول القرية، ليشاهدوه. لا يستطيع أن يحتفظ برأسه مستويًا، وإنما يلقيه دائمًا جهة اليسار بطريقة عجيبة، وبأقصى ما يستطيع. أحيانًا نعطيه صينية كبيرة عليها عدد من القرعات الفارغة، ونطلب منه أن يبقيها متزنة فوق رأسه، لا لشيء إلا للاستمتاع بمشاهدة الصينية وهي تنزلق من فوق رأسه، فتسقط، بما عليها، مرتطمة بالأرض. ويتركنا فومبا نكرر ذلك معه مرات كثيرة.
نعابث فومبا بلا رحمة، ولكنه يبدو دائمًا غير مكترث بنا نحن الأطفال. وإنما يبتسم محتملاً سخافاتنا، التي ستجعل أي واحد غيره في بايو يوسعنا ضربًا. أحيانًا نختفي خلف أحد الجدران، ونتلصص عليه وهو يلعب بالرماد المتبقي في أحد الكوانين. هذه اللعبة من الأشياء المفضلة عنده. بعد أن تنتهي النساء من الطبخ بفترة طويلة، وبعد أن نفرغ من التهام كرات الدخن والصلصة، وننتهي من تنظيف الأواني مستخدمين رماد أوراق الموز، يمسك فومبا عودًا ويظل يُقلِّب الرماد. ذات مرة، يوقع بخمس دجاجات في إحدى شباك الصيد. يخرجها واحدة واحدة، وهو يلوي أعناقها. ثم يروح ينتف ريشها، ويفرغ أحشاءها، وينظفها. يسلكها جميعًا بعد ذلك في عود مدبب من الحديد، ويضعها على النار ليشويها.
تخرج فانتا، صغرى زوجات زعيم القرية، من منطقة طحن الدخن مهرولة، فتصفعه على وجهه.
يبدو لي غريبًا أنه لا يحاول الدفاع عن نفسه، وكل ما يفعله هو أن يتمتم قائلاً: "الأطفال بحاجة إلى اللحم."
تقول مستهزئة: "لا يحتاجون اللحم حتى يصيروا قادرين على العمل.. أيها الغبي.. كل ما فعلته هو أنك أهدرت خمس دجاجات."
وبينما تلهبه فانتا بنظراتها الغضبى، يواصل فومبا شواء الدجاجات، ثم يخرجها من النار، ويقطعها ويفرقها علينا. آخذ وركًا ساخنًا، فأنتزع إحدى أوراق الموز لأحمي أصابعي. يسيل الدهن دافئًا على ذقني وأنا ألتهم اللحم البني، وأسحق العظم لكي أمصمص النخاع. أسمع أن فانتا طلبت من زوجها في تلك الليلة أن يضرب الرجل غير أنه رفض.
يُرسَل فومبا ذات يوم ليقتل عنزة فوجئنا بها تعض الأطفال، وتتصرف وكأنها قد فقدت عقلها. يمسكها فومبا، يجلسها، يطوقها بذراعه، يمسد رأسها ليهدئ من روعها. ثم يسحب من مئزره سكينًا، ويقطع رقبتها. تبقى العنزة ساكنة بين ذراعي فومبا، وترفع رأسها ناظرة إليه في وداعة الأطفال، وتظل تنزف حتى تخور قواها، فتسلم روحها. غير أن فومبا لم يتخذ مكانه بمهارة، فيظل الدم يتناثر عليه حتى يغطيه تمامًا. يقف في وسط القرية ببيوتها الطينية، ثم يصيح طالبًا ماءً ساخنًا. النساء منهمكات في طحن حبوب الدخن، وتطلب فانتا من الأخريات ألا يعرنه التفاتًا. ولكن أمي تكن لفوبما مشاعر طيبة. سمعتها ذات مرة تخبر أبي بأن فانتا تسيء معاملة الـ‘ولوسو’. لا أندهش حين تتوقف أمي عن الطحن، وتمسك دلوًا معدنية ثمينة، وتصب فيه عدة قرعات من الماء الساخن، ثم تحمله إلى فومبا الذي يأخذه إلى كنيف الاستحمام.
أظن الدلو مسحورة. أتسلل ذات يوم إلى بيت فانتا المستدير المسقوف بالقش. أجد الدلو وآخذها إلى المكان الأفضل إضاءة بالقرب من الباب. إنها مصنوعة من صفيحة معدنية مستديرة ومصقولة ينعكس ضوء الشمس على سطحها. الصفيحة رقيقة، ولكنني لا أستطيع ثنيها. أقلبه رأسًا على عقب، وأدقه بكعبيَّ وقبضتيَّ. لا صوت يصدر منه، وكأنه يبتلع الصوت أو يكتمه. المعدن لا شيء يميزه، ولا شخصية له، ولا يصلح للاستخدام كطبلة. إنه مختلف تمامًا عن جلد الماعز المستخدم في الطبول. يقال إن الدلو قد جلبها الرجال البيض. أتساءل: ترى أي نوع من البشر هؤلاء الذين يخترعون مثل هذا الشيء؟
أمسكه من اليد المعدنية المقوسة، محاولة رفعه وأرجحته. تراني فانتا، فتنتزع الدلو من يدي، وتعلقها في وتد بالحائط، ثم تلطمني لطمة مدوية.
"أنت دخلت بيتي من غير استئذان."
صفعة.
"كلا.. كنت فقط... "
"ليس ملكك لتلمسيه."
صفعة.
"ليس من حقك أن تضربيني هكذا.. سأخبر أبي."
صفعة.
"سأضربك كما أريد.. وسيضربك هو أيضًا عندما يعرف أنك كنت في بيتي."أدرك أن فانتاـ التي كانت منهمكة في زراعة الدخن في هذه الشمس الحارقة، وحبات العرق تنحدر على شفتيهاـ لا بد وأن لديها ما تفعله بدلاً من أن تظل واقفة لتضربني طوال اليوم. أملص منها خارجة من بيتها وأنا أهرول، واثقة من أنها لن تتبعني.
أبي واحد من أضخم الرجال جسمًا في بايو. يقال إنه يستطيع أن يصرع أي رجل في قريتنا. ذات يوم، يجلس القرفصاء مناديًا إياي. أتسلق ظهره حتى أبلغ كتفيه. أجلس، كأطول من أطول رجل في القرية، ورجلاي ملتفتان حول رقبته، ويداي في يديه. يأخذني إلى خارج أسوار القرية، وأنا ممتطية كتفيه على هذه الصورة.
أقول: "بما أنك قوي هكذا.. وتستطيع أن تصنع مثل هذه الحلي الرائعة.. فلماذا لا تتزوج امرأة ثانية؟ زعيمنا لديه أربع زوجات!"
يضحك قائلاً: "لا أطيق أربع زوجات يا صغيرتي.. ولماذا أربع زوجات.. ما دامت أمك قادرة على منحي كل ما يلزمني من المتاعب؟ يقول القرآن إن على الرجل أن يعدل بين جميع زوجاته.. إن كان سيتزوج أكثر من واحدة.. ولكن كيف لي أن أساوي في المعاملة بين أمك وأية امرأة أخرى؟"
أقول: "ماما جميلة."
يقول: "ماما قوية.. الجمال يأتي ويذهب.. أما القوة.. فتبقى إلى الأبد."
وماذا عن الشيوخ والعجائز؟"
يقول وهو ينقر صدغه بسبابته: "إنهم أشد الناس قوة.. لقد عاشوا أطول منا جميعًا.. ولديهم الحكمة."
نتوقف على حافة الغابة.
يسألني قائلاً: "هل تذهب أميناتا بمفردها بعيدًا هكذا؟"
أقول: "كلا.. أبدًا."
"في أي اتجاه يقع نهر النيجر العظيم بقواربه الكثيرة؟"
أشير بإصبعي ناحية الشمال قائلة: "في هذا الاتجاه."
"كم يبعد؟"
أقول: "أربعة أيام سيرًا على الأقدام."
يقول: "هل ترغبين في رؤية مدينة سيجو ‘Segu’ ذات يوم؟"
أقول: "سيجو على نهر النيجر؟ نعم.. بشرط أن أركب على كتفيك."
"عندما تكبرين.. سآخذك في رحلة إلى هناك."
أقول: "وسوف أسافر وأثقف عقلي."
يقول: "لن نتكلم في ذلك.. مهمتك هي أن تصبحي امرأة."
يعلمني بابا أن أنقش بعض الصلوات بالعربية. بالتأكيد سيعلمني المزيد، في الوقت المناسب.
أشير بإصبعي جهة الشرق قائلة: "قرية ماما هناك.. على بعد خمسة أيام."
"ما دمت ذكية هكذا.. سأقلد العميان.. وأنت ترينني الطريق إلى البيت."
"هل نحن الآن نثقف عقلي؟
يكتم ضحكته قائلاً: "أريني طريق البيت يا أميناتا."
"اذهب من هنا.. من خلف شجرة الباوباب ‘Baobab’."
نتخيل البيت بعيدًا جدًّا. "استدر من هنا.. خذ هذا الطريق.. احذر.. أنا وماما رأينا ثلاث عقارب بيضاء في هذا الطريق ليلة أمس."
"فتاة رائعة.. ثم ماذا؟"
"نسير قُدُمًا.. فندخل قريتنا.. الأسوار سميكة.. ويبلغ طولها ارتفاع رجلين.. نجيء من هنا.. نلقي التحية على الحارس."
يضحك أبي محييًا الحارس. نعبر بيت الزعيم المستطيل الشكل، وأربعة بيوت دائرية، كل منها مخصص لإحدى زوجاته.
"أخبريني متى نمر ببيت فانتا."
"لماذا يا أبي؟"
"ربما كان علينا أن نتوقف لنقرع دلوك الحبيبة."
أضحك، وأصفعه على كتفه بمرح، وأهمس له قائلة إنني لا أحب تلك المرأة.
يقول أبي: "يجب أن تتعلمي الاحترام."
أقول: "ولكني لا أحترمها."
يصمت أبي لحظة، ثم يربت على ساقي قائلاً: "إذن عليك أن تتعلمي كيف تدارين شعورك بالكره."
يواصل أبي سيره، وسرعان ما نصادف امرأتين.
تهتف إحداهما قائلة: "مامادو دياللو.. هذه ليست طريقة تربي بها ابنتك.. لديها رجلان تمشي عليهما."
أبي اسمه الحقيقي محمد. ولكن كل رجال القرية اسمهم محمد، لهذا اختار أبي مامادو ليميز نفسه.
يجيبهما أبي قائلاً: "أميناتا وأنا كنا نتسامر قليلاً.. وأردت أن أقرب أذنيها من فمي."
تضحك المرأة قائلة: "أنت تفسدها هكذا."
"لن تفسد.. أنا أمرنها على أن تحملني بنفس الطريقة عندما أهرم."
تنفجر المرأتان ضاحكتين، وتنحني كل منهما وهي تلطم فخذيها بشدة. نودعهما، وأواصل أنا توجيهي لأبي بمحاذاة كنيف الاستحمام، والأريكة الظليلة المخصصة للثرثرة، والصوامع الدائرية المستخدمة في تخزين الدخن والأرز، وإذا بنا في مواجهة فانتا ساحبة فومبا من أذنه.
تقول: "غبي."
يقول أبي: "مرحبًا يا زوجة الزعيم الرابعة."
تقول: "مامادو دياللو."
يقول: "لا تحية لابنتي الصغيرة اليوم؟"
تعبس قائلة: "أميناتا دياللو."
يخاطبها أبي، وهي لا تزال ممسكة بالرجل من أذنه، قائلاً: "وما لكِ تسحبين فومبا المسكين هكذا؟"
تقول: "ساق حمارًا إلى البئر.. فسقط فيها.. أنزل هذه البنت المدللة يا مامادو.. وساعدنا في إخراج الحمار.. قبل أن يلوث الماء الذي نشرب منه.""لسنا بحاجة إلى أذنه.. لو تطلقين سراحه.. أساعدك في إخراج الحمار."
ينزلني أبي من فوق كتفيه. نشاهده أنا وفومبا، ومعه نفر من رجال القرية، وهم يلفون بعضًا من سيقان النباتات المتسلقة حول صبي من القرية، وينزلونه إلى البئر. وهو في البئر، يلف الصبي المزيد من السيقان حول الحمار. بعد ذلك، يرفع الرجال الصبي أولاً، ثم يخرجون الحمار، الذي يبدو هادئًا مطمئنًّا، وبصفة عامة، يبدو أفضل حالاً من أذن فومبا.
أريد أن يعلمني أبي كيف ألف سيقان النباتات المتسلقة حول بطن الحمار. ربما يعلمني كل ما يعرف. لا أظن أن تعلمي القراءة والكتابة سيضر أحدًا. ربما أصبحت، ذات يوم، المرأة الوحيدة ضمن هؤلاء القليلين في قريتي كلها الذين يعرفون قراءة القرآن، والقادرين على الكتابة بالخط العربي البديع.
*
ذات يوم، وبينما أنا وأمي منهمكتان في طحن الدخن، يطلبوننا لحالة ولادة في كنتا ‘Kinta’، التي تبعد عن قريتنا بأربع قرًى في اتجاه غروب الشمس. وبينما ينقي الرجال الحشائش الضارة من حقول الدخن، يتعين على فومبا أن يحضر قوسه، وجعبة سهام مسمومة، وأن يسير معنا لحراستنا. نصل إلى هناك، فيجلسون فومبا في مكان ما ليشرب شايًا ويستريح من عناء الر حلة، ونذهب نحن لنؤدي عملنا. تستغرق الولادة من الصباح حتى المساء، وعندئذ، تمسك أمي بالمولود، وتقمطه مقربة إياه من ثدي أمه، بينما يحل التعب بعظامنا. نتناول بعض الشطائر الرائعة المصنوعة من الدخن، والمغموسة في صلصة البامية الساخنة. قبل رحيلنا، توصينا نساء القرية بالابتعاد عن الطريق الرئيسة، حيث شوهدت مؤخرًا مجموعة من الرجال الغرباء. تسألنا النساء إن كنا نحب أن نبيت الليلة معهن. ترفض أمي لأن امرأة أخرى في بايو توشك أن تلد في أية لحظة. وبينما نستعد للرحيل، تعطينا النساء قربة ماء، وخمس دجاجات حية مربوطة من أرجلها، فضلاً عن هدية خاصة تعبيرًا عن الامتنان، عبارة عن دلو معدنية تشبه تلك الدلو التي استخدمها فومبا يوم ذبح العنزة.
لا يستطيع فومبا أن يحمل شيئًا على رأسه لأن رقبته مائلة دومًا جهة اليسار، لهذا تطلب منه أمي أن يحمل الدلو التي انحشرت فيها الدجاجات الخمس. يبدو فومبا سعيدًا بمكسبه هذا، غير أن أمي تحذره قائلة إنه سيرد الدجاجات عند العودة للقرية. يومئ سعيدًا، وينطلق أمامنا.
أتساءل قائلة: "عندما نعود للبيت.. هل لي أن آخذ الدلو؟"
"الدلو ملك للقرية.. سنعطيها للزعيم."
"ولكن.. عندئذ ستأخذها فانتا."