القاهرة 29 اغسطس 2017 الساعة 04:28 م
نورهان إيهاب
أربعة جدران أسمنتية خشنة... طاولة مبتورة الأقدام وفرشة بنية سميكة.. فراش حديدى لم يترك الصدأ من لونه الأبيض إلا رقع صغيرة.. حافة الفراش الخلفية تحوى غطاء صوفيا خشنا... وسادة قطنية غليطة لم تستطع أن تسند ذلك الرأس الثقيل.. أتحدث كأن ذلك الرأس لا يعود لجسدى.. يبدو الأمر مضحكا، للتو شككت بقدرات الوسادة العضلية!
خمسة أشهر... أقنعتنى بسذاجة علوم الفلك.. كيف يحوى اليوم أربع وعشرين ساعة فقط ... كيف لساعة ان تمتد لدهر كامل .... خمسة أشهر مضت بدت لى كافية لـانقراض البشرية لاندثار كواكب وولادة عوالم... بدت كافية لأتحلل والحياة على قيدى !!
خمسة شهور ... تضاعفت خلايا جسده الصغير برحمك فى غضونها
لا أدرى يا عليا.. أيفصلنى عنك خمسة أشهر أم بضعة أمتار أم نظام كونى صارم البيروقراطية ... جفناى تثاقلا ... أود أن أنام ... لكنه لا يرحمنى يا عليا... عقلى لا يرحمنى ... مائة وخمسون ليلة وأنا أتأمل أربعة جدران مصمدة وفراش صدئ .... احتضن جسدى البارد.. أضم ساقى لصدرى ... أربط بيدى على كتفى وأدندن ترنيمة قديمة تعود لأمى.. أرددها بصوت متهدج وعيناى تثور دمعا واحمرارا.. أسترجع خيبات الكون كافة.. أتحسس مواضع الخناجر فى ظهرى.. أتذكر آخر رسائلك.. أضحك فينحدر الدمع المالح لفمى.. روحى تائهة.. كلى تائه يا عليا.. تائه لأنى أبقيك متيقظة طيلة الوقت.. دعاؤك لى فجرا.. خوفك.. اشتياقك.. أنت التى تحسدين السمكة على ذاكرتها تحفظين أيام عطل أصدقائى بتمعن لترسلى لى باقاتك الصغيرة.. سترة فى الشتاء أو كتاب يحمل رائحتك.. آخر مرسلاتك.. ظرف أبيض اللون بداخله جورب أحمر صغير.. صغير جدا.. وريقة صغيرة زينها خطك الطفولى (الثالث.. الشهر الثالث) ... أتذكر كيف بكيت فرحا وأنا أتخيل نطفة صغيرة تسبح فى رحمك.. زغرد الكون وأتت الشمس فى موعدها للمرة الأولى ... لكنهم لم يسمحوا لى بإجازة يا عليا ... أتساءل إن كان يوم ميلاد زوجة أحدهم.. أعنى الكبار.. سيحتفل به كم أسبوعا بين عائلته؟! أتعلمين يا عليا ... ضابط بالجيش ليس من حقه أن يستيقظ على وجه زوجته وأنغام فيروز ... فقط علم ثلاثى الألوان والسلام الوطنى ... علم لن يلاحظ أحدهم إن خالط بياضه الأحمر والأسود.. أو الأزرق!
عقب سقوط المطر يتلطخ العلم.. ينتزعوه ليغسل.. وفى الصباح نحيي السارى.. أموت ضحكا بينما أردد (فليرتفع هذا العلم خافقا بالسماء) بينما يكون العلم متروكا على الحبل ليجف!!
لا يهم سأتخيله كما تخيلت تجارب الفيزياء فى شبه المعمل المدرسى.. منذ أشهر وذاك الصوت بداخلى لم يكف عن مناجاتك.. أعذرى انقطاع رسائلى فأنا لم أسدد فاتورة القمر هذا الشهر!!.. متبقى عشر دقائق.. ويهبط علي مارد من السماء يخبرنى أن ما جنيته أو لم أجنه من النوم يكفى.. لكنها كافية لأقص عليكى حلم البارحة.. حلمت أنى أقف أعلى صخرة.. صخرة شاهقة.. أسفلها قبر.. قبر ليس لأحدهم.. بل لجميعهم يا عليا.. قبر فى حجم مجرة.. من ثم رأيت الكرة الارضية تقذف به.. حتى سكنت فى موضعها.. مددت يدى الى ما زعمت أنه قلبها.. فاستشعرت نبضا بطيئا.. أحدهم أخد يصب التراب عليها.. أحدهم يدفنها.. حية.. حنجرتى الصغيرة لم تكن ذات قيمة على أية حال.. حتى الآن فأنا لست على ثقة أن عينى كانتا مغلقتين بينما أحلم .. لقد بدا كل شيء واقعيا بسادية مدهشة.. حسنا يا عليا تبقت ثوانى معدودة.. سأنهض قبل أن يهشم ضجيج البوق هذة الجدران الهزيلة فوق رأسي... رأسي الثقيل.. خطأ فادح أن يدفن شاعر في زي عسكري، صحيح؟
__ أنفاسى ليست على ما يرام.. مضطرب.. أحدهم استدعانى لمكتب العقيد.. لقد كنت فى طريقى له فعليا لأطلب إجازة مجددا ولكن يبدو أن الأمور لن تسير كما بالحسبان.. أحداث سيناء الأخيرة تتوارد إلى ذهنى باستمرار.. وتعليمات تشديد القوة الأمنية هناك تفقدنى اتزانى.. أنا لا أريد أن يبدو الأمر دراميا لهذا الحد.. لا أريد أن أموت بينما يولد صغيرى.. مبالغ به إن فكرت بذاك.. اطمئنى.. أقرع الباب ثلاث مرات فى غير تناغم.. خائف.. عليا، كونى بالقرب
__ لا لا سيادة العقيد ليس بهذا اللين دائما بل ليس عليه مطلقا.. لا تخدعك تحيته الصماء (صباح الخير) قالها بينما يعبث بأناملة متظاهرا بعدم الاكتراث.. هو يعلم أن لا خير هذا الصباح.. هذا الصباح تحديدا.. أرأيتى؟ أتمتع بحاسة سادسة وقوة ربط خيالية.. اسطوانته المملة عن الوطن.. التضحية.. وتلك العبارات التى حفظها فى حصة التعبير الإنشائى.. ختم كلامه و...
- أريدك أن تعد بأقل الخسائر
- أنا أقل الخسائر ... بل نحن جميعا أقل الخسائر ؟ ..(سألت بنبرة حادة)
- سلام على الأرواح الخالدة
- أشعر وكأن روحى مستعمله.. هذا الكم من التمزق لا يمكن أن يتبادر من حياة واحدة.. "سأخبر الكتيبة"
قلتها وخرجت دون أن أترك له مجالا للتعقيب.. كنت حادا.. لم أتوقع أن أحدث سيادة العقيد بلهجة مشابهة.. لم أتمتع يوما بصرامة ضابط يا عليا.. ربما لم أرد أن أغدو ضعيفا أمامك ولكنى أيضا لم أكن قويا بالقدر الكافى.. خرجت تائها.. تماما كما لم أكن من قبل..
كلماته عن الوطن لم تعد تثير اهتمامى بعد عشرة أعوام من معاشرة الموت.. أنا لا أقر بوطن غيرك.. كيف أحب ذاك الوطن الذى يبتذنى بكوب لبن سقيت به بينما أحبو.. أو قطعة خبر شيدت بها عظاما ولحما.. وبأى حق يقايض روحا بشربة ماء؟
ابننا.. ابننا يا عليا سيكون فأرا.. ستعيره المصيدة بقطعة الجبن طيلة سنواته!
وطن أحلامه تتوقف على.. ممول،
كم كنت أحمقا عندما ظننت أن بوسعى أن افعل ما أريد.. أنا أفعل ما يراد وحسب.
للتو اخبرت الكتيبة بالأمر.. أتظنين أنهم شعروا بما شعرت.. أعنى ألم يقنطوا من رحمة هذا الوطن بعد؟ الخوف طفح من أعينهم يا عليا..
__ مضى شهر .. سيناء تبدو جنة.. لم يكن الأمر بالسوء الذى تخيلته لكن ذلك لا ينافى كونه سيئا .. الملوح والمانجروف.. المسكويت والأعشاب.. النخيل.. أتكون تلك جنة الشياطين! حســـــنا سأخبرك أمرا.. اليوم حصلت على إقرار بالإجازة.. سبعة أيام.. قليلة؟ بربك كونى قنوعة..
كم أود أن أسمع صوتك المدلل وأنت تطلبين بـ (لماضة) طفلة أن أقسم على صدق قولى.. هناك هاتف عام فى نهاية الزاوية.. سأتصل بكِ..
حاولت مرارا ولكنك لم تجيبى.. تركت لك رسالة صوتية (لا تضعي الجزر على السلطة اليوم...) كدت أضحك وأخبركـ أن تنتظرينى لكن.. لكن قبضتى أفلتت سماعة الهاتف.. انحسرت تلك الابتسامة قبل أن تولد.. طفل صغير .. انتزع حقيبة إحداهن وانطلق يركض.. يركض بسرعة حتى كاد جسده ينفصل عن قدميه.. اجتمع الحشد حولها.. واستغاثت أعينهم بالزى الرسمى.. لم يكن الأمر عسيرا.. بلغته بسهولة.. رأسه كان ينظر للخلف كل بضعة خطوات ليحصى المسافة بيننا، مما أدى لتعطيلة بضعة ثوان.. كلما اقتربت منه أحسست عينيه تزداد اتساعا.. أوقفته.. فى البداية نظر إلى الحقيبه ورفع عينيه إلى عيني.. رأيت فيهما صورة قطعة حلوى.. كرة بلاستيكية.. من ثم بدأت الصورة تتلاشى بدمعة حمراء تراقصت بين جفنيه وبدأت صورة قضبان حديدية وعصا ترتسم خلف ذلك الحاجز الدمعى الشفاف.. أخذت أفكر يا عليا .. لم يصر هذا الوطن على تكذيب تصوراتنا عن القلب ويصدق تلك الأجهزة الطبية؟! نرسمة علامتى استفهام.. علامتا استفهام تقبل إحداهما الأخرى.. رفقا أيها الوطن.. رفقا فهذا الجانب الأيسر لا يحوى قطعة لحم ونسيج معجون بالدم، كما تظهره الآلات.
ما ذنب هذا الطفل؟! إذ إنه أراد قطعة حلوى.. قطعة حلوى لم يجدها فى صندوق قمامة!! فضلاتك يا وطن لم تعد تكفي القطط والمتسولين معا..
انتزعت الحقيبة وتركته.. تركته يركض، قدماه تتعثر.. خطواته كانت مضطربة وشاكرة في الوقت ذاته، كان يشبه الآرنب فى قفزاته!! أدرت جبهتى.. عزمت أن أعيد الحقيبة لصاحبتها وأهرع لألحق بقطار السابعة.. لكن الأمر بالخلف لم يكن كما تخيلته.. لم تنهض.. تلك المرأة التى سرقت.. لم تنهض وتراقبنى بينما أنتزع حقيبتها من الطفل، كما ظننت.. رأيتها وقد أسند الجمع جسدها إلى شجرة نخيل على حافة الطريق.. كانت تبكى بهستريا مفجعة.. الأمر لم يكن حقيبه وبعض وريقات نقدية يا عليا.. بدا لى أنى أتلاشى أمام بكائها.. قلبى يتألم بحجم.. بحجم ذاك القبر الذى رأيته فى الحلم!!
انسابت رائحة الموت إلى أنفي.. كم تشبه رائحة منزلنا القديم! ... لكن أى موت.. ها هى أمامى حية لم تمت.. وفهمت.. فهمت كل شيء يا عليا.. مددت يدى لأتحسس كروية بطنها.. شعرت بنفس ما شعرت به عندما لامست الكرة الأرضية فى الحلم.. لكنى لم أعد استشعر نبض تلك الكرة.. أنفاسى المتقطعة.. انشقاق رئتي.. قلبى الهزيل يتألم أكثر فأكثر.. أبكى يزداد بكاء كلينا.. إنى أتلاشى حقا يا علياااا.. تلك الكرة الأرضية للتو شعرت بالدوار بعد ملايين السنين من رقصاتها الدائرية! خيط من الدم الغزير يسيل من بين قدميها.. يلامس الدم جزيئات الرصيف الخشنة.. تنظر إليه وتعتصر عيناها دمعااا.. تتقطع أنفاسها.. كيف له -أعنى الوطن- أن يختلس نطفة من رحمها؟!
رباااه.. ربما.. ربما كانت تلك نفس النخلة التى انبثق المسيح عليه السلام من رحم العذراء أسفلها فى بيت لحم!!
ومشيت يا عليا.. مشيت تائهامشتتا مضطربا ميتا.. لا أدرى أين وجهتي.. كل خطوة أسأل الناس الطريق فأنساه وفى الخطوة التالية أسألهم مجددا.. صورته يا عليا لا تفارق عيني.. رأيته بينما ينسحب.. ملك الموت.. كان يحوم حولها.. كدت أهرع إليه وكأنه نجم سينمائي.. ما كنت لأسأله توقيعا أو عن جديد أعماله...
كنت لأسأله عنك... عنك يا عليا.