القاهرة 29 اغسطس 2017 الساعة 11:01 ص
بقلم :محمد أبو رحمة
فى مقال بعنوان نهب المحروسة نُشر الأسبوع الماضى بمجلة مصر المحروسة ورد به نص بردية تضمنت محاكمة أحد لصوص المقابر ، ولهذه البردية قصة طريفة وهى بردية معروفة باسم مالكها اللورد امهرست الذى اقتناها فى منتصف القرن التاسع عشر ، ثم آلت هذه البردية و غيرها إلى بيربونت مورجان عام 1913 و ظل محافظاً عليها بمكتبته بمدينة نيويورك الأميركية .و فى عام 1935 و أثناء زيارته لمتحف بروكسل فوجىء عالم المصريات البلجيكى جان كابار بتمثال خشبي و قد سدت فتحته بقطعة من قماش فلما أزالها عثر داخل التمثال على بردية ، لم تكن هذه البردية سوى جزء متمم لبردية امهرست ، فقد كان لصوص البرديات يقسمون البردية الواحدة إلى عدة أجزاء طمعاً فى الحصول على مزيد من الربح .
وهذه البردية المكتوبة بالخط الهيراطيقى تعد وثيقة تاريخية مجردة تسرد وقائع حقيقية . و قد عثر على مثل هذه الوثائق بالأقصر ، تحديداً بالبر الغربي حيث كان هناك ما يسمى بالمجمع الإدارى الخاص بإدارة شؤون إنشاء المقابر الملكية بوادى الملوك و الملكات إبان عصر الدولة الحديثة . وعلى مقربة من هذا الموقع كانت توجد مدينة شيدت خصيصا من أجل سكنى العمال المكلفين بتشييد المقابر الملكية و كان منهم " امن با نفر " الذى جاء ذكره فى بردية امهرست و نال عقابه على سرقة المقبرة بعد اعترافه .
و كانت طائفة عمال البناء هذه ؛ مقسمة إلى مجموعات يختص كل منها بعمل معين، ويشرف على كل مجموعة منها رئيس يشرف على إنجاز العمل وتوجيهه وتصحيحه إذا لزم الأمر. وفي مقبرة "رخميرع" بغرب (الأقصر) نرى صنوفاً مختلفة من الأعمال الحرفية التي يقوم عليها عمال متخصصون.
وفي ممر مقبرة (بتاح حتب) بسقارة نستطيع تتبع خطوات عمل هذه الطائفة، فنرى البناء نفسه المكون من أحجار متراصة، ثم نرى طبقة جص أضيفت على سطح هذه الأحجار، ثم نرى تحديداً للنقوش المراد وضعها على هذه الطبقة، وقد حددت بخطوط سوداء، ثم نرى بعض هذه النقوش وقد تم حفرها بكل تفاصيلها.
و كان عمال بناء مقابر البر الغربي بالأقصر يعملون مقابل أجر لثمانى ساعات يومياً لستة أيام فى الأسبوع يعقبها يوم راحة و كان من حقهم التغيب عن العمل بعذر مقبول و كانوا يغادرون منازلهم صباحاً ليهبطوا إلى مكان عملهم بوادى الملوك على سبيل المثال ثم ينتظرون أمام البوابة ويدخلون الواحد تلو الآخر بعد النداء على اسمه من قائمة معدة سلفا ليستلم كل منهم أداة العمل المكلف به . و الجدير بالذكر أن هؤلاء العمال هم من قاموا بأول إضراب عمالى فى تاريخ الإنسانية أثناء حكم الملك رمسيس الثالث ، أحد ملوك الأسرة العشرين و كان هذا الملك معجباً برمسيس الثانى أشد الإعجاب حتى إنه تسمى باسمه ، و مما يذكر لهذا الملك أنه أوقف زحف " شعوب البحر " ، و هم قبائل رعوية شرسة قدمت من وسط أوروبا مكتسحة كل الممالك فى طريقها حتى تصدى لهم رمسيس الثالث و ألحق بهم هزيمة نكراء ، و لهذا الملك أيضاً معبد بغرب الأقصر يعرف بمدينة هابو يعتبر ثانى أكبر معابد مصر بعد معبد الكرنك *
وفيما يبدو أن الحروب التى خاضها رمسيس الثالث والصروح التى شيدها إضافة إلى بذخه الشديد فى إقامة الأعياد و تقديم الأضحيات قد أثقلت كاهل الخزانة المصرية، حتى وصل الأمر إلى حد التوقف عن دفع رواتب عمال جبانة (طيبة)، الذين ضجوا بالشكوى، فلما فاض بهم الكيل خرجوا من مدينتهم (دير المدينة) صارخين "نحن جوعى".
ثم اخترقوا الحواجز الأمنية ونقاط الحراسة ليعتصموا بثلاثة معابد. ووقف هؤلاء العمال المضربون أمام المسئولين ليشرحوا أسباب تمردهم، فقالوا : "إنه الجوع والعطش، لم يعد لدينا ملابس أو عطور، ولا أسماك أو خضار".
ثم أكد العمال على ضرورة إبلاغ رأس الدولة بأمرهم، فقالوا لهؤلاء الموظفين :
"اكتبوا هذا الأمر إلى "مولانا الطيب"، له الحياة والصحة والقوة، اكتبوا ذلك أيضاً إلى الوزير، رئيسنا، لكي يوفر لنا سبل العيش". وقد انتهى الأمر كله بعودة المضربين إلى أعمالهم بعد انتظام الدولة في دفع رواتبهم.
وبالطبع لم لم يكن الاشتغال ببناء المقابر و المعابد و غيرها من منشآت دينية و دنيوية هو النشاط الوحيد الذى مارسه عمال مصر فقد عرف المصريون صناعة النسيج وتفوقوا فيها، كما عرفوا أيضاً صناعة الأصباغ والألياف والسلال والخرز، وسجلوا تقدماً عظيماً في صناعة الزجاج، أما صناعة الورق فهي صناعة مصرية صميمة، حتى أن الاسم المصري للورق شاع في أرجاء الدنيا، ومازال الأوربيون يستخدمونه إلى اليوم، وهو لفظ paper المشتق من كلمة papyrus، أي نبات البردي المصري. وقد عرفت مصر [القديمة] طوائف العمال المختلفة، كالنجارين وصانعي الفخار بكافة أنواعه وعمال البناء، البسطاء منهم، والمتخصصون في أعمال النقش والزخرفة، وصناع الدروع والعربات وصائغي الجواهر والأحجار الكريمة وغيرهم.
أما حملات التنقيب عن المعادن عموماً فكانت حملات ملكية، لذا كان يصاحبها أمين خزانة الملك. وكانت هذه الحملات تضم بالإضافة إلى العمال والحرفيين والفنيين؛ رجال الشرطة والجنود، وكانت تزود بكافة المواد التموينية. وقد جابت تلك الحملات، منذ أقدم عصور مصر التاريخية، جميع أرجاء البلاد، بل وتجاوزت حدود مصر في بعض الأحيان.
وقد وصلنا نص من عصر الملك (سيتي الأول) ، يبرز مدى اهتمام الملك نفسه بأمر هذه الحملات، إذ ذهب (سيتي الأول) ليشهد بنفسه عملية حفر بئر في قلب الصحراء، ليوفر مياه الشرب لأعضاء حملة التنقيب. يقول النص :
"أخذ جلالته يجوب الصحراء من أجل البحث عن مكان تحفر به أحد الآبار، إن الرب هو الذي مد له يد العون من أجل تحقيق رغبته، وعندئذ صدر الأمر إلى العمال بحفر بئر عند الجبل، من أجل مد الرحالة المرهقين بالماء (...) وحالما تم إعداد البئر وتجهيزها، إذا الماء يفيض، ماءً غزيراً متدفقاً، كالذي ينبع من كهفي "الفنتين"، وهنا قال جلالته : انظروا ها هو الرب قد لبى دعائي وابتهالي، ومن أجلي جعل الماء يسيل فوق الجبال".
وكان تقدير المجتمع المصري [القديم] لهؤلاء العمال والحرفيين عظيماً، حتى أنه جعل واحداً من أهم وأعظم أرباب مصر حامياً لهؤلاء وراعياً لهم، وهو الرب "بتاح" راعي الحرفيين والفنانين. وفي رأيي أن لفظ "بتاح "أو "بتح" هو أصل لفظ "بتع" و"بدع"، واشتق منه "أبدع" و"إبداع"، ولذا يكون "بتاح"–"رب المبدعين"، هو "البداع" أو المبدع المصور. وهو ما يتفق تماماً مع اسمه وفعله.
كما سجلت الأدبيات المصرية اعتزاز المجتمع آنذاك بقيمة العمل و أنزلته مكانة رفيعة فمما جاء بالأمثال الشعبية عن قيمة العمل فى مصر القديمة : "قيمة الرجل في عمله الفاضل".
وهو ما نقول به للآن على نحو آخر :
"لا تزه بأصلك، فأصل الرجل الكريم هو ما حققه بنفسه".
وهو نفسه مثلنا العامي القائل :
"فخر المرء بفضله أولى من فخره بأصله".
وكذلك : "اللي يقول أبويا وجدي يورينا فعله".
وتصديقاً لهذا المثل المصري، قال المصريون أيضاً في أمثالهم :
"المجتهد يُعرف بما أنجزه، ولن ينكر جهده في هذا البلد أبداً".
والبلد هي مصر، التي لم تكن تعرف الكسل والكسالى، لذلك قال المثل :
"ليس في مصر متسع للمتكاسل".
وقالوا أيضاً في أمثالهم :
"الكسول لا يطعم عسلاً".
وهو مثل طريف، نردده نحن اليوم، فنقول :
"كسل ما يطعم عسل".
وقال المصريون [القدامى] أيضاً :
" الكسول يدمر نفسه "
كما قالوا :
"السكون رجس لأصابعك".
وهو المثل العامي المحدث القائل :
"الإيد البطالة نجسة".
شكما نقول أيضاً :
" الايد التعبانة شبعانة "
وقد حذروا من الكسل أو ثبوط الهمة، لما في ذلك من نتائج مدمرة لقيم المجتمع، فقالوا في المثل :
"البطالة أفضل مرتع للشيطان".
ولما كان هذا المثل يحتوي على حكمة بليغة، وعمق بصيرة، فقد ظلت الأجيال تلو الأخرى تردده، حتى وصل إلينا فقلناه :
"رأس الكسلان بيت الشيطان".
وعن الكسول قالوا أيضاً :
"وجه الجبان والكسول فقط يظل ناعماً، أما وجوه كلاب الصيد فمشققة".
وعلى نفس الدرب سرنا، فقلنا بنفس المثل :
"كلاب الصيد وجوههم مخربشة".
وقد اعلي المصريون <القدامي> من شأن العمل والأجتهاد والمثابرة فقالوا في امثالهم :
" النصر حليف المثابرين "
وقالوا كذلك :
" الأنسان مثل الزيتون يجب عصره حتي يعطي زيتا "
ونقول اليوم :
" الزبدة ماتطلعش الا بالخض "
كما نقول أيضا :
" مايخرج الزيت الا المعصار "
وقد آمن المصري [القديم] بالتخصص.. فلكلٍ عمل يقوم به، فقالوا :
"الحديقة يلزمها بستاني، والحمام يلزمه خفير، والقارب يلزمه ربان".
وهو معنى أكدوا عليه مراراً، فقالوا أيضاً :
"الفخراني هو الذي يعرف أين يضع أذن الأبريق".
كما قالوا ايضا :
" ان كثرت البحارة غرقت السفينة "
وهو مثل نتداوله حتي اليوم فنقول :
"المركب اللي لها ريسين تغرق "
وقالوا كذلك :
" البيضة لاتكسر الحجر "
ونقول :
" البيضة ماتكسرش الحجر "
وعن نفس المعني قال المصري <القديم >:
" لايمكن حمل بطيختين بيد واحدة "
وهو مانردده اليوم هكذا :
" بطيختين بيد ماينحملوا"
وقالوا كذلك :
"كل واحد في مهنته سلطان".
في نفس السياق، صاغ المصري القديم المثل البليغ التالي، فقال :
"أتعس خلق الله من يعمل عملاً ليس له".
كما قالوا أيضاً :
" من يبذر ( لو ) سوف يحصد ( كان من الممكن ) "
ونحن نقول نفس المثل علي النحو التالي :
" زرعت سجر ( لو كان ) وسقيتها بمية ( ياريت ) طرحت (ما يجيش منه ) "
.................................................................................
* المعبد تسمية غير دقيقة فقد كان المصريون يطلقون عليه " بيت الله " أما المقابر فكانت تدعى " منازل الروح "