القاهرة 17 اغسطس 2017 الساعة 10:39 ص
د. هويدا صالح
على خلفية القرارات الجريئة التي اتخذها الرئيس التونسي السبسي سائرا على خطوات الرئيس التونسي الأسبق الحبيب بورقيبة نتوقف قليلا لتأمل تجربة المرأة المصرية مقارنة بتجربة المرأة التونسية.
بدأت مصر تجربتها النهضوية بالدعوة إلى خطاب ثقافي مدني تتساوى فيه النساء بالرجال في الحقوق والواجبات، فقد سبق دعوة قاسم أمين وهدى شعراوي إلي تعليم الفتاة دعوة رفاعة الطهطاوي ربما في عام 1870، حيث ساوى في التربية بين البنين والبنا، فقد ألف كتاب “المرشد الأمين في تربية البنات والبنين” لهذا الغرض. طالب فيه بتربية النشء تربية دينية أخلاقية تهدف إلى إصلاح المجتمع. ومن ناحية التعليم، فقد كان من مؤيدي تعليم المرأة، وكان يعتقد أن معرفة النساء القراءة والكتابة واتصافهن بالأخلاق الحميدة والاطلاع على العلوم والمعارف المفيدة هو من أجمل الصفات. أما من ناحية الحجاب فقد كان من المعتدلين فيه ولم يكن متشددًا مثل بعض شيوخ عصره، وكان يرى أن عفة المرأة ومحافظتها على نفسها لا تتعلق بكشف الوجه أو ستره، بل كل ذلك يعود إلى التربية إن كانت حسنة أو سيئة من قبل الوالدين وأفراد الأسرة، والتربية هي التي تؤثر على أخلاق الفتاة فتجعل منها إنسانة تحترم الآخرين، وليس مجرد تغييب الجسد وراء الملابس الطويلة. ثم تلا تلك الجهود المقالات التي نشرت في مجلتي " الفتاة " و " المقتطف " عام 1890، ثم دعا قاسم أمين إلي اتخاذ التربية وسيلة للنهضة القومية، وفي سنة 1898م أخرج كتابه (تحرير المرأة) وفي سنة 1900م كتابه في (المرأة الجديدة) وأكد قاسم أمين في كتابه الأول علي أهمية تقييد فكرة تعدد الزوجات والطلاق، وأثبت أن العزلة بين المرأة والرجل لم تكن أساساً من أسس الشريعة، وأن لهذا التعدد حدوداً يجب أن يتقيد الرجل بها، ثم دعا إلى تحرير المرأة لتخرج إلى المجتمع وتلمّ بشؤون الحياة، ولقيت هذه الآراء عاصفة من الاحتجاج والنقد، وقام الكتاب والقراء يردون على كتابه الأول الذي أثار جدلا، ومع ذلك لم يتزعزع أمام هؤلاء الذين انتقدوه ، ثم طالب في كتابه الثاني (المرأة الجديدة) الذي أهداه إلى صديقه الزعيم سعد زغلول باشا بإقامة تشريع يكفل للمرأة حقوقها، السياسية والاجتماعية ، ثم جاءت بعده هدي شعراوي التي دعت إلي تنفيذ آرائه ، ثم جاءت باحثة البادية ملك حفني ناصف لتكمل مسيرة إصلاح المرأة التي بدأت منذ نهاية القرن التاسع عشر ، و لملك حفني ناصف مقالات نشرتها في( الجريدة) ثم جمعتها في كتاب أسمته ( النسائيات) يقع في جزأين، وقد طبع الجزء الأول منه وظل الثاني مخطوطا. ولها كتاب آخر بعنوان ( حقوق النساء ) حالت وفاتها دون إنجازه ، كما أسست اتحاد النساء التهذيبي .
لو نظرنا لتلك النهضة التنويرية التي بدأت مبكرا علي يد هؤلاء الرواد ونظرنا إلي تجربة المرأة في تونس لأصابتنا الدهشة والعجب.
فلقد نالت مصر استقلالها قبل تونس بسنوات، وبدأت فكرة تحرير المرأة وتعليمها قبل تونس بعشرات السنين ومع ذلك نجد أن تونس بمجرد تحررها بدأت المسيرة النهضوية للمرأة بإنشاء مجلة الأحوال الشخصية وهي صدرت عن الاتحاد القومي النسائي التونسي سابقا وهو أول منظمة وطنية للمرأة تأسست بعد استقلال تونس في مارس 1956. وقد قام هذا الاتحاد على بقايا المنظمة النسائية الإسلامية التي اجتهدت مدة طويلة على إقامة الدليل على أن الإسلام لا يتعارض مع النهوض بالمرأة وسعى إلى توعية النسوة وتعليم الفتاة ومساعدة الطلبة المهاجرين على مواصلة دراستهم.
ونتذكر في هذا السياق جهود المفكرين محمد السنوسي الذي طرح في مؤلفه الرحلة الحجازية 1886 مسألة الإجهاض و ذهب فيها مذهبا تقدميا برأي أبي حنيفة
وكذلك دعا الشيخ سالم بن حميدة إلى تعليم البنت و إعطائها حقها في اختيار زوجها و دعا إلى منع تعدد الزوجات و تقنين الطلاق
و كذلك الطاهر الحداد الذي ألف كتاب " امرأتنا في الشريعة والمجتمع” و نشر أول مرة عام 1930
ويعتبره بعض المفكرين ثورة اجتماعية منطلقا من الشريعة الإسلامية و أهم وأكثر الكتب شجاعة التي عالجت وضعية المرأة في المجتمع الإسلامي في الثلث الأول من القرن العشرين . مستقطبا كل الأدلة والبراهين الشرعية للتدليل على أهمية تحرير المرأة لتؤدي دورها في بناء المجتمع والنهوض فيه .. وتميز بفضح ممارسات المجتمع الإسلامي وتخلفه الاجتماعي وهيمنته على الفقهي وتغلغله في ثناياه، الذي قضى على طاقات المرأة الخلاقة وعلى كينونتها الإنسانية ، مؤكدا أن الإسلام منح المرأة حقوقها،ل كن المسلمين من داسوا حقوقها .
ثم جاء تكوين الاتحاد القومي النسائي ممهدا لما سيقع من إجراءات جريئة لفائدة المرأة بإصدار مجلة الأحوال الشخصية في 13 مارس 1956 وبداية العمل بها في عام 1957. .
وتكونت الهيئات النسائية الأولى من نساء قمن بعمل نضالي ضمن الاتحاد الإسلامي وكذلك داخل الهيئات النسائية التابعة للحزب الحر الدستوري
وقد ركز الاتحاد عمله في البداية على تنظيم حملات توعية في مختلف أنحاء الجمهورية لتبصير المرأة بدورها في التنمية الاجتماعية والاقتصادية كما تولى الاتحاد توعية المرأة سياسيا وحثها على القيام بواجباتها الوطنية فأصبحت تساهم في جميع الأنشطة وتحرص على أداء واجبها الانتخابي بصفتها ناخبة ومرشحة. وتطورت هيكلة الاتحاد وانتشرت فروعه في كافة أنحاء البلاد وشارك في تعبئة كل القوى النسائية لفائدة البناء الوطني الشامل وحماية المكاسب التقدمية. الاتحاد يناضل من أجل تحسين وضع المرأة التونسية فعمل على تعزيز الأرضية القانونية التي شهدت بدفع من الرئيس زين العابدين بن علي تطورا حاسما بفضل التعديلات التي أدخلت على المجلة في 1992 والإجراءات الرئاسية المتخذة في أبر يل 1996.
النهوض بالمرأة في كافة المجالات العلمية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
القضاء على كل أشكال التمييز ضد المرأة.
وضع إستراتيجية تنموية لإدماج المرأة كعنصر فعال في الحياة الاقتصادية.
تشجيع المرأة لبعث مشاريع ومساعدتها للحصول على القروض.
تشجيع المرأة على التواجد في فضاءات صنع القرار ضمانا لتنمية حقيقية.
مواصلة دعم تعليم المرأة بالقضاء على الأمية والانقطاع المدرسي المبكر.
تكوين الفتيات المنقطعات عن الدراسة في مراكز التكوين المهني التابعة للاتحاد الوطني للمرأة التونسية.
تشجيع المرأة على دخول مجتمع المعلومات والتكنولوجيات الحديثة.
خلق وتمتين الروابط بين الاتحاد والهياكل الوطنية والعالمية التي لها نفس الأهداف.
العمل من أجل السلم في العالم من خلال أنشطة تضامنية.
تأطير المجموعات النسائية في مختلف الميادين والعمل من أجل إدماجها في عملية التنمية الشاملة.
وأخيرا الخطوات التي اتخذها الرئيس السبسي بعد ثورة الياسمين من مساواة المرأة والرجل في الميراث.
والسؤال الأهم، ما الذي ساعد على إنجاح الثورة النهضوية التونسية حتى وصلت إلى نيل هذه الحقوق رغم أنى تجربتها بدأت بعد حركة النهضة المصرية ؟ ما الذي جعل ساعد على تحقيق هذه المكاسب حسنت وضعيات المرأة الاجتماعية والنهضوية والثقافية ، ويجعل بلدا كمصر بكل هذا التاريخ الممتد ، والثقل الثقافي تنحدر فيه وضعيات النساء وتتراجع ، وتظهر دعاوي التخلف والجاهلية ، وتعطيل قوي المجتمع التنموية هكذا ؟
ربما ما عطل قوي مصر التنموية النهضوية أمرين :
الفكر الشمولي الدكتاتوري الذي لا يؤمن بالتعدد الحزبي الليبرالي ، مما أدي إلي انحدار التنمية المجتمعية والسياسية ، فتراجعت الأفكار الليبرالية التي ظهرت في الأربعينيات ، وتمّ القضاء علي فكرة المجتمع المدني ودوره ، بينما انشغلت تونس البلد الذي تحرر بعد مصر بالتنمية الداخلية ، ودراسة وضعيات النساء والنمو بها
والسبب الثاني هو تبني الحكومات المتعاقبة علي مصر للفكر الوهابي الأصولي ، بينما حسم بورقيبة أمره منذ البداية حين تبني العلمانية وصادر علي الفكر الوهابي الأصولي ، ومنع تعدد الزوجات وسن قوانين تعمل من أجل نهضة المرأة ، فحتما نهضتها تمثل نهضة المجتمع كافة لسبب وحيد وبديهي أن المرأة تضع اللبنة الأولي لبناء المجتمع حين تبني شخصية المواطن ، وتغرس فيه فكرة المواطنة. وها هو السبسي يواصل ما بدأه بورقيبة من خطوات تنموية.
أي التجربتين يجب أن نتبني ليس من منظور تمييز نسوي ضد هيمنة ذكورية بقدر ما هي فكرة أن ليس هناك أنا وآخر ، وذكورة في مقابل أنوثة ، بل هو مجتمع يحرص كل من فيه علي بنائه وتحريره من الأفكار الهدامة التي تعمل معاولها في هدم بنيته التحتية الاجتماعية . ؟
من الواضح أن قرار النهوض بالمجتمع وتنمية وضعيات المواطنين عامة والمرأة خاصة يأتي بقرار علوي، فلو آمنت رئاسة دولة ما بهذا الدور المجتمعي، لوفرت له فرص النجاح. من الواضح أن مجتمعاتنا العربية يلزمها قرار سيادي رئاسي حتى تتمكن من فرض وتسييد قيم مدنية تؤمن بالمساواة بين الرجال والنساء.
فهل يمكن أن يأتي رئيس مصري يؤمن بهذه القيم المدنية ويحرص على التنمية المجتمعية التي تنهض بكل المكونات الثقافية فيه، وتنقذ المجتمع من المفاهيم الراديكالية المتخلفة التي تعود بالمجتمع إلى الوراء؟
طالما آمن صاحب القرار الرئاسي السيادي في مصر بالأفكار الوهابية الماضوية لن نرى يوما نهضة للمرأة المصرية مهما قدمنا من كتابات تناهض هذه الأفكار المتخلفة، لأن مجتمعاتنا العربية القرار فيها دوما يأتي من أعلى، ويفرض على القاعدة الشعبية وليس العكس.