الجيوب الثقافية وخطورتها... "مبدع القرية مثالًا"
مختار سعد شحاتة
رصد كثير من الباحثين في الشأن الثقافي وغيره صراعًا أبديًّا بين الهامش والمركز، وصارت إشكاليات هذا الصراع تُلقي بظلالها على الحركة الثقافية بشكل عام، وتفرز أحيانًا وتنتج مبدعين عظام أسسوا بقوة لأن يكون هذا الصراع عظيم الإنتاجية والإبداع، وهو في حقيقته صراع مستمر باستمرار الحياة نفسها، وبالتالي مستمر باستمرار الإبداع نفسه إذ أعتبر الإبداع موازيًا لمعنى الحياة نفسها عند المبدع سواء في المركز المشهور او في الهامش المنحصر الضيق.
الجيوب الثقافية:
ينتج هذا الصراع ما يمكن تعريفه بـ "الجيوب الثقافية"، وهي في غالبها جيوب منغلقة ومحددة وانتقائية، تنبني في تكوينها كناتج من نواتج هذا الصراع، وتظل تحدد مساحتها ما بين الضيق والاتساع طبقًا لملابسات وأفكار ورؤى متفقٌ عليها ضمنيًّا بين المنسحقين في هذه الجيوب، والذين جمعهم قدر إبداعي واحد أو نمط إبداع. وهذا التجمع في كثير منه لا ينبني على أسباب فكرية وفقط، بل يتعدى ذلك فيكون للسبب الاجتماعي والنفسي دورًا مهمًا في تكوين وتأسيس هذا الجيب الثقافي، بل ويكون للتوجه السياسي أيضًا دور في تكوينه لا يمكن أن نغفله ما دمنا نبحث في خريطة الإبداع والثقافة، وعن هذا الدور السياسي لا يُغفل الموقف السياسي في مصر بعد تأميم قناة السويس1956م، وكيف سعت الدولة الرسمية الناصرية لتكوين مؤسساتها وضم كيانات تحت عباءتها لضمان السيطرة على الحقل الثقافي بعد أزمة 56 وما قبلها من أزمة كان على النظام أن يواجهها مع نخب المثقفين من الشيوعيين والليبراليين وحتى الإخوان المسلمين، والتي انتهت بسجن العديد من هؤلاء الفرقاء إزاء مواقفهم من السياسة، وهو ما حدا بالبعض إلى ما يشبه التقوقع أو الانتحار الإرادي –معنويًا وسياسيًا وثقافيًا- حينها، وهذا التقوقع ليس إلا تلك الجيوب الثقافية التي نتحدث عنها الآن أو تطور آني لها.
خطورة الجيوب الثقافية:
لا يمكن اعتبار تلك الجيوب الثقافية بريئة على طول الخط، ذلك أنها تفرض في كثير من الأحيان نوعًا مما أسميه "حرب الدوائر المغلقة"، والتي تنتهي في غالبها باستهلاك طاقة الإبداع لدى هؤلاء الذين وقعوا في أسر جيبهم الثقافي، حتى أنها –تلك الحروب- تضع المبدع في منطقة واحدة يظل فيها للأبد ما لم ينتبه لحقيقة وضعه، أو طالما لم يجتهد للفكاك من تلك الدائرة وحدود ذلك الجيب.
ولا تكمن الخطورة في ذلك وحده، إنما هي بالأساس ما ترسخه في ذهنية هؤلاء "المجيبون" –نسبة إلى الجيوب الثقافية- بأنهم بصدد حربًا و مؤامرة شخصية ضدّ ذاتهم المبدعة، فيدور ويدور في قاموس تلك المؤامرة وفي فلك تلك الظنون جلُ ما ينتجه المبدع، ولا يرى إلا ما يتم إبداعه طبقًا لحدود الكادر الخاص بجيبه الثقافي، في حين إن انتبه لما ضيع العشرات منهم طاقاتهم –بل وعمرهم- في خوض صراعات وهمية مبنية على المؤامرة الكونية ضده، وسيدرك أنه من الأولى أن يوجه كل طاقة الغضب التي تشكلت داخله تلك نحو تطوير نفسه وتطويره منتوجه ونصه بديلاً عن توجيهها بالسُباب والشتم في خلق الله ممن لم يقبل محدودية تجربتهم أو صنفها برأي نقدي محايد، ووضعها في حدود جيبها وهامشها الضيق.
من أشهر الأمثلة لهذه الجيوب مبدع القرية:
يأتي نموذج المبدع الذي يأتي من هامش الريف إلى مركز المدينة مثالاً واضحًا لهؤلاء الذين ضيعوا طاقتهم في أثر نظرية التآمر الشخصي ضدهم، ويظلون أسرى مفردات دائرتهم وهامشهم الذي تقوقعوا فيه، وهنا نُشير للإنصاف أن من هؤلاء مبدعين كان يمكنهم أن يحفروا اسمهم بحروف من نور في عالم الإبداع، إلا أنهم ومع وقوعهم في أسر جيبهم الثقافي ظلوا يدورون في نفس الدائرة، ونفس الأفق الضيق حتى وإن كانوا غزيري الإنتاجية، لكن طُبع منتوجهم بطابع واحد وأثر واحد، ظانين كل الظن أنهم يقدمون الجديد مع كل نص يقدمونه، وهم في حقية الأمر لم يبرحوا من مكانهم خطوة واحدة، وهنا نشير أنه ليس من عيب أن يحمل المبدع القادم من الريف قريته في داخله وداخل إنتاجه، لكن أن يظل في أسر أفق القرية التي فارقها سعيًا وراء الخروج من هامشيتها، فيجد نفسه –دون وعي- أسيرًا لها في قلب مركز المدينة، ويبدأ في تشكيل دائرة جديدة من أقرانه الذين حملوا قراهم إلى المدن دون أن يسمحوا للمدينة بانفتاحاتها أن تُضيف إلى أفكارهم أو حتى قاموسهم الأدبي.
ويأخذ هؤلاء نزعة واحدة تكاد تجدها في الجميع وهي تحويلهم لكل انتقاد أدبي ونقدي رصين لهم إلى اعتباره هجومًا شخصيًّا، فينزلقون إلى حروب وهمية تحفز نارها نظرية المؤامرة -التي أكلتهم- وتجدهم في كل وادٍ يهيمون بادعاءاتهم تلك ويروجون لأوهامهم إلى الحد الذي يجعل اختلافك النقدي معهم وملاحظاتك على تجربتهم وقاموسهم المحدود بمثابة هجوم شخصي، وهي أخطر آفات هذا الصنف من أسرى الجيوب الثقافية.
اقتراح لحل الأزمة:
أقترح أن نُدرس في مدارسنا وورشنا الكتابية موضوعًا عن خطورة هذه الجيوب الثقافية، وكيف تأكل المبدع أو بذرة الإبداع في بعض الأحيان، وأن نفكر في آلية تعليمية لحماية الأجيال القادمة من هذا التهميش اللامبدع اللامنتج في الحقيقة غير المعارك الكلامية والسُباب الشخصي لا النقد الأدبي أو الرؤى الثقافية المختلفة، وأن يصل المعنى أن يحمل المبدع بيئته في داخله لا يعني التقوقع على مفرداته الشخصية ومفردات بيئته المحدودة، وأن المبدع الحقيقي هو بمثابة بوتقة تصهر عالمه بعوالم أخرى خارج حدوده وأفقه اكتسبها بالحياة المُعاشة أو المقروءة والتي لا تشبه تفاصيل حياته الشخصية أو بيئته، وأن ذلك الانصهار لا يعني طمس هويته بأي صورة.
وأظننا في حاجة ماسة إلى إعادة قراءة صراع الهامش والمركز ثقافيًّا، ربما كانت نظرية السلطة لفوكو مدخلاً جيدًا لتحليل هذا الصراع –الأبدي- لكن العجيب هو امتداد ظلال النظرية إلى داخل الهامش ذاته، فيمكن من خلالها تحليل تلك العلاقات التي تكونت بين كيانات الهامش، إذ صار بعض الهامش متنًا وقبع الآخر في هامش جديد أنتج ما أسميناه الجيوب الثقافية، وهي هشة لا تحتمل تلك الصراعات في غالبها، فتتقوقع للأبد أو تختفي تحت وطأة الإحباطات التي لا يحتملها مؤسسو تلك الجيوب، وربما تتداخل وتتقاطع عوامل من خارج المشهد، فتدفع نحو اختفائها السريع.
مختار سعد شحاته
روائي، وباحث أدبي.